فكرة لبكرة / الاغتراب في قصيدة «طال ليلي يا أحبائي» للأمير عبدالقادر الجزائري
د. فهد سالم الراشد
الأمير عبد القادر الحسني الجزائري كان وما زال محل اهتمام الباحثين والدارسين في جميع المجالات وفي شتى الميادين؛ فلم يأفل نجم هذا الرجل إلى يومنا هذا، بل على العكس تماما ففي كل يوم يزداد نجمه بريقاً ولمعاناً وتألقاً. شخصية مثل شخصية الأمير عبد القادر وفـّرت مناخا خصبا للأدباء والمثقفين والمفكرين. إن الهدف من هذه الدراسة هو الوقوف على مواطن الجمال الوجداني الإنشائي بعيدا عن منهجية علوم البلاغة (علم المعاني، علم البيان، علم البديع)، وعلوم اللغة (علم الأصوات، علم الصرف، علم النحو، علم الدلالة، علم الإشارة)، إنما نريد أن نستشف ذلك الحزنَ العميقَ في نفس الأمير، ونستكشف ذلك الإنسانَ العطوف الحنون وننهل من حبه الصادق في ثنايا أبيات قصيدته، ونستشعر بدفء إحساساته تجاه الآخرين، ونتعرف على ذلك الأخ و ابن العم و الحبيب والصديق في شخص الأمير. قصيدة «طال ليلي يا أحبائي أو كما يطلق عليها يا سواد العين» تتكون من عشرين بيتا، قسـّمتها على سبع لوحات فنية: اللوحة الفنية الأولى: تضم ثلاثة أبيات، واللوحة الفنية الثانية: تضم أربعة أبيات، واللوحة الفنية الثالثة: تضم ثلاثة أبيات، واللوحة الفنية الرابعة: تضم ثلاثة أبيات، واللوحة الفنية الخامسة: تضم بيتين اثنين، واللوحة الفنية السادسة: تضم ثلاثة أبيات، واللوحة الفنية الأخيرة تضم: بيتين اثنين.ويرجع هذا التقسيم إلى تجانس الأبيات وحسن الانتقال الوجداني. يطلق الأميرُ في اللوحة الفنية الأولى النداءَ تلو النداء، نداءٌ يركب فيه الأشياءَ الجميلة فيضيفها إلى ما هو أجملَ منها، نداءٌ يستدعي به حاجة روحية، أو قل هو أنينُ رجل غمرتـُه مشاعرُ دافئة تجاه أهله وأقاربه وأصدقائه الذين رحلوا عنه وفارقوه إلى ديار المغرب؛ فرأى فيهم أغلى شيء في الأشياء، فأغلى من العين هو سوادُ العين، وما فائدة الجسد بلا روح، والأرض تختال ضاحكة في فصل الربيع، وماذا بعد بيوت عزيزة طويلة قوية يدخرها المرءُ لوقت الحاجة إليها. إن في وجودهم قربَ الأمير يراهم يوميا ويتحسسُهم بحرص الأب المعيل سعادة ٌلا نظير لها، ولكن شاءت الأقدارُ أن يرحلوا عنه ويتركوه وحيدا متقوقعا بذكراهم العطرة، هو بذلك يرمي اللومَ على الدهر شاكيا متبرما حيث يقول:
فرمَى الدهرُ بعيني أسهماً
مذ ْنـأيْـتـُمْ لا أرى فيـها أحدْ
في اللوحة الفنية الثانية يصف الأميرُ الحواسَّ بشكل متناهٍ ودقيق، فهو يبث الشكوى، ويذرف دموعَ الحزن والألم، لئن نفدَ الصبرُ عند الأمير؛ فإن الشوقَ والحنينَ واللهفة على فراق الأحبة مازال مشتعلا في أعماق الأمير، لقد حرقت شمسُ الفراق كلَّ ربيع مخضر في روض الأمير، ووهن العـَظـْمُ منه، فلم يعد يقوى على تحمل هذا البعد، لئن كان الأميرُ فارسا مغوارا جلدا صلبا في أرض المعركة صنديدا لا يبارى أمام الأعداء، فهو في الوقت ذاته أبٌ عطوفٌ وأخٌ حنونٌ وابنُ عم حريصٌ على أواصر الدم واللحمة الأسرية الشريفة، وكلُّ هذا رسمته أناملُ الأمير الرقيقة في لوحة فنية نابضة بدفء المشاعر قائلا:
فنيَ الصـبرُ ولـم يفـنَ الجوى
ما أراه فانياً حتـَّى الأبدْ
اللوحة الفنية الثالثة نرى غربة نفسية مؤلمة تغتال أنسَ الأمير، وتطفئ بصيصَ نور التفاؤل، إنه ليلٌ طويلٌ لا ينجلي، ورتابة مملة بائسة، ولحظاتٌ يائسة تستعمر حياة الأمير، فيعيش وحيدا كئيـبا، فهو لا يظهر ما في نفسه من غم وهم لأنه لا يريدُ أن يـَشغـلَ الناسَ بهمومه وذلك إحساس منه بأن لكل إنسان همومَه ومشكلاتـِه؛ فالأميرُ لا يريدُ أن يـَشغـلَ الناسَ بهمه رحمة وشفقة بهم، ولكن حزنَ الأمير ومعاناتـِه لا يعلمُ بها إلا علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى، وفي هذا يضمـِّـنُ الأميرُ تلك الحالة النفسية المزرية لوحة ًسوداوية مأساوية قاتمة قائلا:
طال ليلي يا أحبـَّائيَ، ول
يعلـمُ الحالَ سوى الفردِ الصمدْ
يعودُ الأميرُ في اللوحة الفنية الرابعة إلى المناجاة مرة أخرى، مناديا أخاه سعيدا الذي يرى فيه توأمه الروحي، وينادي أخاه مصطفى الذي يراه بلسما شافيا لداء الاغتراب الذي أخذ من الأمير كلَّ مأخذ، ثم ينهارُ الأميرُ أمام حب أخيه الحسين مكررا شوقـَه لرؤيته، فمهما انفعلت أو تأثرت جوارحُ الأمير إلا أنه في آخر المطاف رجلٌ مؤمن بقضاء الله وقدره، ولكن ماذا يملك الأميرُ أمام قلب كسير لا يقوى على فراق الأحبة. وهذه الصورة حاول الأميرُ أن يحرِّكـَها من ركود الحزن والألم إلى روح الشوق والحنين قائلا:
شاقني حبُّ الحسينِ شاقني
ما لحكـمِ اللـهِ في القلـبِ مردْ
في اللوحة الفنية الخامسة تبدو حالة اليأس واضحة جلية في نفس الأمير، فها هو يتساءل بحرقة ومرارة مستنكرا عودة الحياة إلى روحه بعد أن فارقه الأحبة ولم يبق له سوى ذكرى من السكنات واللمسات يستشعرها في وجدانه، تبعث فيه أمل اللقاء بين الفينة والأخرى، إن مجردَ طيف الذكرى يعيد للأمير إنسانيتـَهُ الدافئة، وتينع روحـُه في بستان النضارة والجمال الذي يترآى له في وجه الأحبة، ويَـبـَضُّ جسدُه بعنفوان الشباب العائد بذكرى الأحبة، وكلُّ هذا يصورُه لك في بيتين اثنين قائلا:
هل يجـودُ الدهـرُ من بعـد النوى
باقترابٍ ؟! يحيي ميتاً لم يعدْ
في اللوحة الفنية السادسة تهفو نفسُ الأمير لذوي القربى تيمنا بقوله تعالى: «وذي القربى..» – ولاسيما - أبناء عمومته الذين هم من صلبه ونسله، ليقـرَّ صلة الرحم، وهو بذلك يعلم جدَّ العلم إن عزوة المرء إنما بأهله وأقاربه، ويختزلُ كلَّ حبه وشوقه ومشاعره تجاههم بثلاث كلمات ( أنتم: ذخري وكنزي والسند )؛ فلا أبلغُ من هذا الذي جادت به قريحـة الأمير الطاهرة، والأميرُ هنا يـَبـْسِطـُ راحتيـْه الكريمتيـْن مصافحا أقاربـَه طالبا منهم النصرة والعون قائلا:
يا ذوي القربى ! قريباً من أبٍ
أنتمُ ذخري وكـنزي والسندْ
وفي لوحته الفنية الأخيرة يتسامى الأميرُ فوق آلام الوحدة، ويسدل الستار على نفحة مشاعره التي أيقظت كل ساكن فيه، وتاقت روحـُه إلى أخوته وأبناء عمومته ليضفيَ عليهم تلك الإحساسات الدافئة، حبٌ وسلامٌ أبديٌ إلى أحبابه الذين بعـدوا عن روحه وجسده وتركوه في محنة الاغتراب؛ فحبُّ الأمير لا يخفت و لا يتغيرُ ولا يضعفُ أبدا، بل دائمَ التدفق والعطاء إلى ما لا نهاية، وحبُّ الأمير لا يقفُ عند أشخاص معينين، بل يشملُ كلَّ الأحبة في أي مكان وزمان، فالأميرُ هنا حتى في حبه كان منصفا لا يمـيـِّز أحدا على أحد، حبٌ ينحـني به ويعطـفـُه على كلِّ الأحبة، وهذا ما أقـرَّه في ختام هذه القصيدة قائلا:
- وعليكمْ من سلامٍ صيبٍ
طيـِّبٍ يترى إلى غــير أمدْ
مما لا شك أن الشكوى تكشف لك مواطن الضعف في الإنسان، والأمير لم يكن ضعيفا يوما إلا في حبه لأهله وأقاربه وبني قومه؛ فحينما رحلوا عنه ظلت ذكراهـُم عالقة في فؤاده، وصورُهـُم ماثلة أمام ناظريـْه، وهو بذلك قد جعل من الليل صديقا حميما ورفيقا مخلصا لا يبخل عليه في الوقت الطويل الممتد، ليعيش معهم ويستحضرهم بخياله وكـأنهم بالقرب منه، وحين تـتـبخر هذه اللحظات ويوقن الأميرُ بالحقيقة؛ يـبادره اليأسُ مرة أخرى فينعكس على شعره، إنه يختزلُ مشاعرَ الاغتراب- وإن كان في بلده وبين قومه- لينثرَها دافئة ذات شجن تقشعر الجلودُ حين سماعها.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com
فرمَى الدهرُ بعيني أسهماً
مذ ْنـأيْـتـُمْ لا أرى فيـها أحدْ
في اللوحة الفنية الثانية يصف الأميرُ الحواسَّ بشكل متناهٍ ودقيق، فهو يبث الشكوى، ويذرف دموعَ الحزن والألم، لئن نفدَ الصبرُ عند الأمير؛ فإن الشوقَ والحنينَ واللهفة على فراق الأحبة مازال مشتعلا في أعماق الأمير، لقد حرقت شمسُ الفراق كلَّ ربيع مخضر في روض الأمير، ووهن العـَظـْمُ منه، فلم يعد يقوى على تحمل هذا البعد، لئن كان الأميرُ فارسا مغوارا جلدا صلبا في أرض المعركة صنديدا لا يبارى أمام الأعداء، فهو في الوقت ذاته أبٌ عطوفٌ وأخٌ حنونٌ وابنُ عم حريصٌ على أواصر الدم واللحمة الأسرية الشريفة، وكلُّ هذا رسمته أناملُ الأمير الرقيقة في لوحة فنية نابضة بدفء المشاعر قائلا:
فنيَ الصـبرُ ولـم يفـنَ الجوى
ما أراه فانياً حتـَّى الأبدْ
اللوحة الفنية الثالثة نرى غربة نفسية مؤلمة تغتال أنسَ الأمير، وتطفئ بصيصَ نور التفاؤل، إنه ليلٌ طويلٌ لا ينجلي، ورتابة مملة بائسة، ولحظاتٌ يائسة تستعمر حياة الأمير، فيعيش وحيدا كئيـبا، فهو لا يظهر ما في نفسه من غم وهم لأنه لا يريدُ أن يـَشغـلَ الناسَ بهمومه وذلك إحساس منه بأن لكل إنسان همومَه ومشكلاتـِه؛ فالأميرُ لا يريدُ أن يـَشغـلَ الناسَ بهمه رحمة وشفقة بهم، ولكن حزنَ الأمير ومعاناتـِه لا يعلمُ بها إلا علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى، وفي هذا يضمـِّـنُ الأميرُ تلك الحالة النفسية المزرية لوحة ًسوداوية مأساوية قاتمة قائلا:
طال ليلي يا أحبـَّائيَ، ول
يعلـمُ الحالَ سوى الفردِ الصمدْ
يعودُ الأميرُ في اللوحة الفنية الرابعة إلى المناجاة مرة أخرى، مناديا أخاه سعيدا الذي يرى فيه توأمه الروحي، وينادي أخاه مصطفى الذي يراه بلسما شافيا لداء الاغتراب الذي أخذ من الأمير كلَّ مأخذ، ثم ينهارُ الأميرُ أمام حب أخيه الحسين مكررا شوقـَه لرؤيته، فمهما انفعلت أو تأثرت جوارحُ الأمير إلا أنه في آخر المطاف رجلٌ مؤمن بقضاء الله وقدره، ولكن ماذا يملك الأميرُ أمام قلب كسير لا يقوى على فراق الأحبة. وهذه الصورة حاول الأميرُ أن يحرِّكـَها من ركود الحزن والألم إلى روح الشوق والحنين قائلا:
شاقني حبُّ الحسينِ شاقني
ما لحكـمِ اللـهِ في القلـبِ مردْ
في اللوحة الفنية الخامسة تبدو حالة اليأس واضحة جلية في نفس الأمير، فها هو يتساءل بحرقة ومرارة مستنكرا عودة الحياة إلى روحه بعد أن فارقه الأحبة ولم يبق له سوى ذكرى من السكنات واللمسات يستشعرها في وجدانه، تبعث فيه أمل اللقاء بين الفينة والأخرى، إن مجردَ طيف الذكرى يعيد للأمير إنسانيتـَهُ الدافئة، وتينع روحـُه في بستان النضارة والجمال الذي يترآى له في وجه الأحبة، ويَـبـَضُّ جسدُه بعنفوان الشباب العائد بذكرى الأحبة، وكلُّ هذا يصورُه لك في بيتين اثنين قائلا:
هل يجـودُ الدهـرُ من بعـد النوى
باقترابٍ ؟! يحيي ميتاً لم يعدْ
في اللوحة الفنية السادسة تهفو نفسُ الأمير لذوي القربى تيمنا بقوله تعالى: «وذي القربى..» – ولاسيما - أبناء عمومته الذين هم من صلبه ونسله، ليقـرَّ صلة الرحم، وهو بذلك يعلم جدَّ العلم إن عزوة المرء إنما بأهله وأقاربه، ويختزلُ كلَّ حبه وشوقه ومشاعره تجاههم بثلاث كلمات ( أنتم: ذخري وكنزي والسند )؛ فلا أبلغُ من هذا الذي جادت به قريحـة الأمير الطاهرة، والأميرُ هنا يـَبـْسِطـُ راحتيـْه الكريمتيـْن مصافحا أقاربـَه طالبا منهم النصرة والعون قائلا:
يا ذوي القربى ! قريباً من أبٍ
أنتمُ ذخري وكـنزي والسندْ
وفي لوحته الفنية الأخيرة يتسامى الأميرُ فوق آلام الوحدة، ويسدل الستار على نفحة مشاعره التي أيقظت كل ساكن فيه، وتاقت روحـُه إلى أخوته وأبناء عمومته ليضفيَ عليهم تلك الإحساسات الدافئة، حبٌ وسلامٌ أبديٌ إلى أحبابه الذين بعـدوا عن روحه وجسده وتركوه في محنة الاغتراب؛ فحبُّ الأمير لا يخفت و لا يتغيرُ ولا يضعفُ أبدا، بل دائمَ التدفق والعطاء إلى ما لا نهاية، وحبُّ الأمير لا يقفُ عند أشخاص معينين، بل يشملُ كلَّ الأحبة في أي مكان وزمان، فالأميرُ هنا حتى في حبه كان منصفا لا يمـيـِّز أحدا على أحد، حبٌ ينحـني به ويعطـفـُه على كلِّ الأحبة، وهذا ما أقـرَّه في ختام هذه القصيدة قائلا:
- وعليكمْ من سلامٍ صيبٍ
طيـِّبٍ يترى إلى غــير أمدْ
مما لا شك أن الشكوى تكشف لك مواطن الضعف في الإنسان، والأمير لم يكن ضعيفا يوما إلا في حبه لأهله وأقاربه وبني قومه؛ فحينما رحلوا عنه ظلت ذكراهـُم عالقة في فؤاده، وصورُهـُم ماثلة أمام ناظريـْه، وهو بذلك قد جعل من الليل صديقا حميما ورفيقا مخلصا لا يبخل عليه في الوقت الطويل الممتد، ليعيش معهم ويستحضرهم بخياله وكـأنهم بالقرب منه، وحين تـتـبخر هذه اللحظات ويوقن الأميرُ بالحقيقة؛ يـبادره اليأسُ مرة أخرى فينعكس على شعره، إنه يختزلُ مشاعرَ الاغتراب- وإن كان في بلده وبين قومه- لينثرَها دافئة ذات شجن تقشعر الجلودُ حين سماعها.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com