الرأي اليوم / «صديقتي الجميلة أدالينا»


أرسلت أدالينا إلى صديقتها كاميلا رسالةً عبر الفيسبوك تقول لها فيها إن شعوراً غريباً ينتابها لأنها لم تر جارها المسن ديتليف منذ يومين وهو لم يتعود الغياب عن حديقته صباحاً ولا تعرف شيئاً عنه غير ابتسامته ورفعه القبّعة تحية لها عندما يراها في شرفتها. أخذت كاميلا العنوان من صديقتها مع اسم المسن الكامل ووزعته على حساباتها في تويتر وإنستغرام وفيس بوك وغيرها عبر جملة واحدة:«صديقتي الجميلة أدالينا قلقة لأنها لم تر جارها ديتليف في حديقة منزله الكائن في (...) منذ يومين. إنها حقاً إنسانة مرهفة الإحساس».
لم ترد كاميلا أن تقتحم خصوصية عائلة المسن أو تسىء إليها، ولم ترغب في خلق جو عام سلبي تجاه أبنائه أو بناته، ولا تبحث عن إثارة وتضخيم الموضوع وتحريك وحدات من الشرطة والمباحث والإطفاء لخلع الباب... اكتفت بأن مدحت صديقتها أدالينا ومن خلالها سلطت الضوء على حقيقة غياب المسن.
وفي أقل من نصف ساعة كان الحديث عن ديتليف الشغل الشاغل للآلاف من «ساكني» وسائل التواصل، واتضح أنه شعر بوعكة ليلاً فحضرت ابنته ونقلته إلى أحد المستشفيات لتلقي العلاج وهو شبه غائب عن الوعي. ابنته شكرت كاميلا، والشرطة شكرت كاميلا، وإدارة المستشفى شكرت كاميلا... وكاميلا ترد بجملة واحدة:«حمداً لله إنه حي اشكروا صديقتي الجميلة أدالينا فلولاها لما ارتاحت قلوبنا».
عاد ديتليف إلى حديقة منزله في إحدى بلدات مقاطعة فين الدنماركية، وانتظر أدالينا صباحاً ليرفع لها القبّعة على عادته وهو يشعر أن جميع أبناء البلدة يهتمون به وليس ابنته فقط.
هذا الخبر نشر قبل أشهر في الدنمارك ووضع عدد من الدوائر الحكومية صورته داخل الإدارات وخصوصاً تلك المتعلقة بالأمن والرعاية والخدمات الاجتماعية والصحية لكبار السن والأطفال. خبر يتكرر دائماً في الغرب حيث وسائل التواصل تتمتع بـ«ضيوف وزوّار» يفهمون تماماً الغاية التي أرادها «المشرع الإلكتروني» وهي غاية اجتماعية في الأساس أشبه بمرآة تعكس رقي وتحضر الناس في تسليط الضوء على أمر أو في استخدام مفردات التخاطب والتحاور.
لنعكس الموضوع مثلاً ونحاول تخيل الموقف نفسه في منطقة أخرى من دون تحديد لأن المتعاطين بهذا الأمر قد يخمّنون من تلقاء أنفسهم اسم البلد، ونفترض أن شخصاً قلق على جاره وكانت له وجهة نظر في طريقة تعامل أبنائه معه، ربما كنا قرأنا رسالة نصية من هذا الشخص إلى صديق له تبدأ بالهجوم على أولاد المسن والتشهير بهم، وربما جزم الشخص بأن الرجل توفي مثلاً فيذكر ذلك مع الاسم والعنوان، وربما وضع صورة للمنزل وبثها، وربما قال إنه سمع ضجةً وعراكاً وطالب الشرطة بالتدخل وكسر الباب... وعندما يتضح أن أولاد الرجل يهتمون به وأنهم أخذوه إلى المستشفى سيبدأ التراشق بالكلام ورفع قضايا، والأهم من الإساءات المتبادلة أن الضحية الأولى ستكون مصداقية وسائل التواصل الاجتماعي التي صار لبعض حساباتها في الغرب قوة دليلية بل أصبحت مصدر ثقة.
قلتها سابقا وأكررها اليوم وسأبقى عند موقفي... وسائل التواصل الاجتماعي وظيفتها اجتماعية راقية، وإذا أراد أحد ما توظيفها في إطار آخر فليكن الرقي معياره. طبعا سيقول قائل إن لا مشكلة تعبير أو حريات في الدنمارك وفي الولايات المتحدة وفي بريطانيا ولذلك لا يلجأ كثيرون إلى اعتماد هذه الوسائط كمتنفس سياسي بل كمنصة رأي سياسي، وأقول صحيح إنما من منعنا من استخدام هذه الوسائط أيضا كمنصة رأي سياسي؟ والسؤال الطبيعي الآخر هو من قال إن الرأي السياسي كي يُقرأ أو يُؤثر يجب أن يُقرن بالتطرف والتصعيد والوقاحة والبذاءة والشتم والإساءة؟ والسؤال الثالث الأهم: من قال إن المسيئين في «تويتر» مثلاً في الدول المتقدمة لا يحاسبون؟
نعيش مشكلة مركبة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. هناك من لا يعرف الفارق بين التعبير وبين تجاوز القانون، وبين الرأي وبين الإساءة، وبين الموقف وبين الشتيمة. بل أكثر من ذلك هناك من يعتقد أن حضوره السياسي أو الاجتماعي مرتبط بمدى تطرفه المذهبي أو الطائفي أو القبلي، وأن شعبيته مرتبطة باختراق لغته حاجز الذوق والأخلاق والعادات والتقاليد والقيم... وهناك المعقّد أو المشبوه أو المفتري الذي يختبئ كالجبناء وراء حسابات وهمية.
أقول هذا الكلام من باب اليقين وأنا المنحاز طبيعياً وتلقائياً إلى حرية الرأي والتعبير. لن أستحضر تجارب نافرة أساءت إلى أصحابها قبل أن تسيء إلى آخرين، إنما هي دعوة صادقة للاستفادة من التجارب الناجحة والاقتراب أكثر من هوية بلدنا وطبيعة مجتمعنا والعودة إلى جادة الرقي والاحترام في كل ما نكتب أو نعبر عنه، ويمكن القول إننا جميعا قصرنا في استيعاب طريقة التعامل مع الوافد التكنولوجي الجديد نظراً إلى سرعة وفادته واحتلاله جيوبنا وأصابعنا وعيوننا وأفكارنا، وبالتأكيد فإن المقصر الأكبر هي إدارات السلطة بجناحيها التنفيذي والتشريعي التي تأخرت كثيراً عن مواكبة الثورات التكنولوجية بمنظومات تشريعية.
ويا كاميلا، يا صديقة «أدالينا الجميلة»، نحتاج إلى الآلاف مثلك ومن كل الأجناس والأعمار لتعميم الجمال في عالم تكنولوجي حوّلناه مرآة لقبح كثير ما كنا متخيلين أنه موجود. لسنا دنماركيين ونعتز بهويتنا وقيمنا وأخلاقنا وخصوصياتنا... لكننا نحتاج إلى هذا التعميم وربما ندرك يوماً ما نتمناه ونرفع القبّعة جميعاً لجيل ذكي متحضّر راق.
جاسم مرزوق بودي
لم ترد كاميلا أن تقتحم خصوصية عائلة المسن أو تسىء إليها، ولم ترغب في خلق جو عام سلبي تجاه أبنائه أو بناته، ولا تبحث عن إثارة وتضخيم الموضوع وتحريك وحدات من الشرطة والمباحث والإطفاء لخلع الباب... اكتفت بأن مدحت صديقتها أدالينا ومن خلالها سلطت الضوء على حقيقة غياب المسن.
وفي أقل من نصف ساعة كان الحديث عن ديتليف الشغل الشاغل للآلاف من «ساكني» وسائل التواصل، واتضح أنه شعر بوعكة ليلاً فحضرت ابنته ونقلته إلى أحد المستشفيات لتلقي العلاج وهو شبه غائب عن الوعي. ابنته شكرت كاميلا، والشرطة شكرت كاميلا، وإدارة المستشفى شكرت كاميلا... وكاميلا ترد بجملة واحدة:«حمداً لله إنه حي اشكروا صديقتي الجميلة أدالينا فلولاها لما ارتاحت قلوبنا».
عاد ديتليف إلى حديقة منزله في إحدى بلدات مقاطعة فين الدنماركية، وانتظر أدالينا صباحاً ليرفع لها القبّعة على عادته وهو يشعر أن جميع أبناء البلدة يهتمون به وليس ابنته فقط.
هذا الخبر نشر قبل أشهر في الدنمارك ووضع عدد من الدوائر الحكومية صورته داخل الإدارات وخصوصاً تلك المتعلقة بالأمن والرعاية والخدمات الاجتماعية والصحية لكبار السن والأطفال. خبر يتكرر دائماً في الغرب حيث وسائل التواصل تتمتع بـ«ضيوف وزوّار» يفهمون تماماً الغاية التي أرادها «المشرع الإلكتروني» وهي غاية اجتماعية في الأساس أشبه بمرآة تعكس رقي وتحضر الناس في تسليط الضوء على أمر أو في استخدام مفردات التخاطب والتحاور.
لنعكس الموضوع مثلاً ونحاول تخيل الموقف نفسه في منطقة أخرى من دون تحديد لأن المتعاطين بهذا الأمر قد يخمّنون من تلقاء أنفسهم اسم البلد، ونفترض أن شخصاً قلق على جاره وكانت له وجهة نظر في طريقة تعامل أبنائه معه، ربما كنا قرأنا رسالة نصية من هذا الشخص إلى صديق له تبدأ بالهجوم على أولاد المسن والتشهير بهم، وربما جزم الشخص بأن الرجل توفي مثلاً فيذكر ذلك مع الاسم والعنوان، وربما وضع صورة للمنزل وبثها، وربما قال إنه سمع ضجةً وعراكاً وطالب الشرطة بالتدخل وكسر الباب... وعندما يتضح أن أولاد الرجل يهتمون به وأنهم أخذوه إلى المستشفى سيبدأ التراشق بالكلام ورفع قضايا، والأهم من الإساءات المتبادلة أن الضحية الأولى ستكون مصداقية وسائل التواصل الاجتماعي التي صار لبعض حساباتها في الغرب قوة دليلية بل أصبحت مصدر ثقة.
قلتها سابقا وأكررها اليوم وسأبقى عند موقفي... وسائل التواصل الاجتماعي وظيفتها اجتماعية راقية، وإذا أراد أحد ما توظيفها في إطار آخر فليكن الرقي معياره. طبعا سيقول قائل إن لا مشكلة تعبير أو حريات في الدنمارك وفي الولايات المتحدة وفي بريطانيا ولذلك لا يلجأ كثيرون إلى اعتماد هذه الوسائط كمتنفس سياسي بل كمنصة رأي سياسي، وأقول صحيح إنما من منعنا من استخدام هذه الوسائط أيضا كمنصة رأي سياسي؟ والسؤال الطبيعي الآخر هو من قال إن الرأي السياسي كي يُقرأ أو يُؤثر يجب أن يُقرن بالتطرف والتصعيد والوقاحة والبذاءة والشتم والإساءة؟ والسؤال الثالث الأهم: من قال إن المسيئين في «تويتر» مثلاً في الدول المتقدمة لا يحاسبون؟
نعيش مشكلة مركبة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. هناك من لا يعرف الفارق بين التعبير وبين تجاوز القانون، وبين الرأي وبين الإساءة، وبين الموقف وبين الشتيمة. بل أكثر من ذلك هناك من يعتقد أن حضوره السياسي أو الاجتماعي مرتبط بمدى تطرفه المذهبي أو الطائفي أو القبلي، وأن شعبيته مرتبطة باختراق لغته حاجز الذوق والأخلاق والعادات والتقاليد والقيم... وهناك المعقّد أو المشبوه أو المفتري الذي يختبئ كالجبناء وراء حسابات وهمية.
أقول هذا الكلام من باب اليقين وأنا المنحاز طبيعياً وتلقائياً إلى حرية الرأي والتعبير. لن أستحضر تجارب نافرة أساءت إلى أصحابها قبل أن تسيء إلى آخرين، إنما هي دعوة صادقة للاستفادة من التجارب الناجحة والاقتراب أكثر من هوية بلدنا وطبيعة مجتمعنا والعودة إلى جادة الرقي والاحترام في كل ما نكتب أو نعبر عنه، ويمكن القول إننا جميعا قصرنا في استيعاب طريقة التعامل مع الوافد التكنولوجي الجديد نظراً إلى سرعة وفادته واحتلاله جيوبنا وأصابعنا وعيوننا وأفكارنا، وبالتأكيد فإن المقصر الأكبر هي إدارات السلطة بجناحيها التنفيذي والتشريعي التي تأخرت كثيراً عن مواكبة الثورات التكنولوجية بمنظومات تشريعية.
ويا كاميلا، يا صديقة «أدالينا الجميلة»، نحتاج إلى الآلاف مثلك ومن كل الأجناس والأعمار لتعميم الجمال في عالم تكنولوجي حوّلناه مرآة لقبح كثير ما كنا متخيلين أنه موجود. لسنا دنماركيين ونعتز بهويتنا وقيمنا وأخلاقنا وخصوصياتنا... لكننا نحتاج إلى هذا التعميم وربما ندرك يوماً ما نتمناه ونرفع القبّعة جميعاً لجيل ذكي متحضّر راق.
جاسم مرزوق بودي