الرأي اليوم / فضفضة عن الاستبداد والطغيان

تصغير
تكبير
أتشارك معكم في مناقشة بعض الأفكار المتعلقة بتلك الزنزانة المخيفة التي تأسر عقول الكثيرين... الطغيان والاستبداد، متلمساً طريقاً للتغيير بدءاً مما في رؤوسنا وما بأنفسنا، فعقول باتت معطّلة أو مذعنة أو مؤجّرة أو تابعة أو خاضعة أو موجّهة وجلّها يعتقد أنه يمتلك الحقيقة وهو لا يملك في الحقيقة قراره. وعقول ملأتها عقائد غربية وشرقية من دون تمييز بين الإيمان بشيء والدور الإنساني المطلوب للخلافة في الأرض. وعقول اعتقدت أنها ثارت على الطغيان والاستبداد بأسلحة التطرف وهي في الواقع تؤسس لمرحلة جنونية مقبلة من هذين العنصرين.

عندما كتب رفعت سيد أحمد في أحد أعداد مجلة «العربي» أن احتلال العقل أشق من احتلال الأرض، إنما استطرد في مقاربة بين ما اعتبره مؤامرات خارجية وغربية تحديداً للسيطرة على العقل العربي لأن احتلال الأرض في رأيه يمكن أن ينتهي بالمقاومة أما احتلال العقل فهو الذي يمهّد لاحتلال الأرض ولحماية هذا الاحتلال... انما هل الطغيان والاستبداد يكمنان فقط في هذه المقاربة «الأجنبية» فقط أم أنهما في الواقع متجذران في العالم العربي والإسلامي؟


نبدأ من تعريف جميل ومبسط لياسين الحاج صالح الذي يرى أن الاستبداد يقوم على المنع، «فهو يكمّ الأفواه ويُغلّ الأيدي ويراقب أفعال الناس ويقمع المعارضة والرفض، لكنه يرتضي من الناس الصمت على الحال والانكفاء عن الشأن المشترك». أما الطغيان فعدو الصمت، «يجبر الناس على الكلام ويكرههم على المشاركة في بناء صروحهم المادية والسياسية والمعنوية». أي أن النظام الاستبدادي وفق الحاج صالح «يسجن خصومه، أو يدمرهم أحياناً، لأن همّه الأول هو بقاؤه. أما نظام الطغيان فيقتل ويخرب ويدمر، وهدفه الأول إفناء خصومه». المستبد هنا يفعل ما يشاء ويخفف عدوانيته تجاه الناس إذا استكانوا وقبلوا سلطته، والطاغي لا يجيز أن يكون للناس شؤونهم الخاصة ومشيئته هي قانون وجودهم.

نتابع الفضفضة ونسأل، هل الاستبداد والطغيان عنصران إما يفرضهما الأجنبي على عقولنا وحركتنا وإما تفرضهما الأنظمة العربية والإسلامية؟ هل يمكن أن يكونا سجناً يأسر العقل بأسوار رفعها الإنسان نفسه طائعاً؟ لا شك في أن الإجابة أكثر تعقيداً من أن يختصرها مقال خصوصاً إذا أردنا المقارنة بين تطور المجتمعات الأوروبية بالدساتير والقوانين والإصلاح الديني وبين بقاء فكرة الحكم في الإسلام أسيرة نظام الحاكم وتفسيراته للدين وضرورة التفاف الأمة حوله.

ابن خلدون رأى الاستبداد استفراداً بالسلطة، والانفراد بالملك وكبح المواطنين عن «التطاول للمساهمة والمشاركة»، والتضييق عليهم بكل الوسائل «حتى يُقرّ الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده»، ولذلك بقي العرب والمسلمون على هذه القاعدة من دون عبور الثورات العظمى في العالم على مختلف الصعد. أما الكواكبي فراقب وجود آليات تستولد الاستبداد وتنتقل به من أرباب السلطة إلى المواطن العادي جيلاً بعد جيل. يقول في «الطبائع» إن الاستبداد يكون مجتمعاً تسيطر عليه شبكة معقدة من الآسرين الذين يخضعون الناس، فيجعلونهم أسرى يبغضون المستبد ولا يقوون على محاربته، لذلك يتعادون في ما بينهم، ويظلمون ضعافهم ونساءهم، فيصبح كل إنسان مظلوماً من جهة، وظالماً من جهة أخرى، ويبرز من بينهم شخص يتسلم زمام السلطة السياسية فيتحد به الآخرون متأثرين بالدعاية.

ويفتح الكواكبي ملفاً لم يغلق حتى اليوم ولن يغلق في المستقبل، وهو العلاقة بين الاستبداد وتوظيف السلطة المستبدة لكل مفاتيح الدنيا من أجل بقائه. يقول إن للاستبداد أثراً سيئاً بكل ما له من علاقة به «فيتحول الدين إلى وسيلة استلاب، ويمنع تداول العلم، ويفسد الأخلاق والعلاقات الإنسانية، ويعزز التفاوت بين الناس ليبقيهم في صراع دائم حول الامتلاك ويجعلهم يتدافعون لإحراز الثروات».

ويتابع الفكرة بتبسيط أكثر ومباشرة أكبر رضوان السيد الذي ينقلها من إطارها الفردي – الاجتماعي إلى الإطار المأساوي الراهن، يقول: «إنّ الطغيان يُخرج الناس عن طَورهم، فيلجأ بعضهم للتطرف الديني وغير الديني. وهذا هو الدرس الذي تعلمناه من مآسي السنوات الماضية. ويكون علينا للخروج من أهوال التطرف باسم الدين، الخروج من الطغيان والطغاة أيضا ليبقى لنا ديننا، ولتبقى لنا دولنا الموحَّدة والمستقرة».

نتابع الفضفضة وقد اقتربنا من عمق الفكرة التي نعيش تجلياتها على الأرض، أي علاقة الاستبداد بتفسيرات بعض الناس للدين، وتصادمهم مع فئات واسعة تقارعهم بالسلاح نفسه. في كتابه «نقد السياسة، الدولة والدين» يقر برهان غليون بأن الإسلام جاء بالثورة التوحيدية لتدخل الإنسانية في عصر جديد انهار معه مفهوم العبودية للدولة أو للسلطة أو للفرد. يقول إن الإنسان وجد في الإسلام تكريماً لعقله وفكره وحريته ما لم يجده في أي دين آخر، وإن الإنسان «الروح الفرد الحر» ولد من دون أي قيد حتى من السلطة الدينية وبذلك لم تعد هناك حاجة لوجود سلطة كهنوتية في الإسلام. ولكن لماذا الطغيان والاستبداد طالما أنه ولد حراً؟ يجيب غليون إن السلطة القهرية وظّفت الدين في السياسة للتغطية على ممارساتها.

وسواء اختلفت أم اتفقت معه (وأعرف أن كثيرين يختلفون معه) يرى محمد شحرور في بحث أخير له عن الطغيان أن الإسلام «لم يعانِ يوماً من أزمة في أداء الشعائر، لكن الأنظمة السياسية الحاكمة، بمختلف أشكالها ابتداءً من العصر الأموي وحتى يومنا هذا، كرست هذه الفكرة مقابل إسقاط أطروحة التطور الفكري، ومارست على الإنسان العربي كل أشكال الطغيان، فحشرته في زوايا معرفية ضيقة، جعلت منه عبداً لا يرغب في الانفكاك عن سيده».

تتوقف الفضفضة هنا، لأننا اقتربنا من نقاش أعترف شخصياً أنني لست متمكناً من السباحة باقتدار في محيطاته. إنما حسبي أنني اجتهدت في الإضاءة على قضية الزنزانة العقلية أملاً في إفراج قريب أو تحرر أقرب.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي