الكويت... وسورة يوسف

تصغير
تكبير

اشهد أنني من أشد المدافعين عن النظام الديموقراطي الكويتي...
وأنني من أشد المدافعين عن وجود مجلس الأمة...
وأنني من أشد المدافعين عن الدستور وبنوده ومبادئه وروحيته...
وانني من أشد المدافعين عن نهج الحريات العامة...
وانني من أشد المدافعين عن مبدأ فصل السلطات...
واشهد انني من أشد المعجبين بالتجربة الكويتية الرائدة التي كانت مضرب مثل في سالف الأزمان، ومضرب حسد ومضرب عداء، ومن أشد المعجبين بصيغة الحكم الفريدة في المنطقة التي قامت على التوافق والاتفاق والرضا والتراضي والاقتناع والقناعة والتعاون والعون، ومن أشد المعجبين بالمشاركة السياسية الشعبية الواسعة التي جعلت الكويتيين شركاء في السلطة والثروة، ومن أشد المعجبين بالرقابة التي فرضها ممثلو الشعب الكويتي على المشاريع والبرامج والصفقات والاتفاقات، ومن أشد المعجبين بالدور التشريعي الذي اطلع به البرلمان لمواكبة تطلعات الكويتيين في دولة دائمة التجدد والتطور، ومن أشد المعجبين بالحيوية الهادرة بين المجلس والحكومة اتفاقا أو اختلافا.
مدخل لا بد منه كي لا نعطي للتأويل مجالاً وللتشكيك مساحة، فقد أصبحنا للأسف الشديد عرضة لكل أنواع الاتهامات عند ابدائنا أي رأي يتعلق بالمعوقات الحقيقية التي تشل عملية التطوير السياسي وتعطل التنمية. واللائحة جاهزة: «ضد الدستور، عدو الديموقراطية، كاره لمجلس الأمة، معترض على الحريات، معارض لفصل السلطات...». لذلك كان مطلع المقال نزعا لفتيل المزايدة ودعوة إلى جميع المخلصين من أجل التفكير بعقل وانفتاح في ما آلت إليه الكويت... وهو كثير كثير.
اشهد، بقوة، انني شديد الدفاع عن كل ما ذكرت، لكنني أشهد بقوة أكبر ان كل ما ذكرت لم يحقق التنمية المنشودة ولا التطور المطلوب، بل على العكس، تراجعت الكويت إلى المراتب الأخيرة بين أقرانها بعدما كانت في الطليعة.
 من 1991 إلى 1996 يمكن القول إن الحكومة كانت منشغلة في إزالة آثار العدوان. خمس سنوات أبلت فيها البلاء الحسن لإعادة التوازن إلى دولة كانت على شفا دمار، مستفيدة من التفاف شعبي وسياسي جامع حول هدف أساسي ومركزي. ومنذ 12 عاماً وحتى اليوم، يشهد جميع الكويتيين أنه باستثناء محاولات قليلة ناجحة للقطاع الخاص، فإن أي مشروع حيوي طليعي استراتيجي أساسي مستقبلي لم يقر وان كل أنواع التراجعات... أقرت. لن نعدد المشاريع واحدا واحدا ونتحدث عن السبب في تجميدها، بدءا من النفط الذي ارتفعت أسعاره في وقت اللاقرار الداخلي، وانتهاء بتحويل الكويت مركزا ماليا وتجاريا، مرورا بتعديل القوانين والتشريعات واطلاق الخصخصة. نسمع عنها كلها مع بدء كل فصل تشريعي. «تهددنا» الحكومة بانجازات ضخمة على كل الصعد. يبشرنا المجلس بالتعاون لملاقاة «تهديد» الحكومة. تمر الاعوام الـ 12 ونحن ننام ونصحو على المعزوفات نفسها. تنكشف الصورة: تخلف.
المسؤولية تقع على عاتق الحكومة فهي السلطة التنفيذية التي انشغل وزراؤها عن تنفيذ المشاريع بصفقات سياسية وخلافات سياسية وطموحات شخصية مستقبلية. ومع ذلك لا يعفى مجلس الامة من المسؤولية حيث استعذب اعضاء فيه لعبة الحكومة فساروا فيها حتى النهاية وضبطت الصفقات والمصالح لعبة الموالاة والمعارضة. وبين المجلس والحكومة تبرز المسؤولية الأكبر علينا ككويتيين اعطانا النظام الديموقراطي كل طرق الخيار والاختيار والتغيير والرقابة والمحاسبة وادوات التعبير، فلم نحرك ساكنا ونحن نرى مستقبل الاجيال مسدودا بألف عائق وعائق.
يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: «ان الله إذا أراد بقوم سوءا أشغلهم بالجدل واقعدهم عن العمل»... وها نحن الأكثر عشقا للجدل ليس في العالم العربي فحسب بل ربما في العالم بأسره، وها نحن الأكثر تخلفا عن العمل والانجاز رغم الامكانات الضخمة التي نملك ورغم الفرص التاريخية التي نعيشها ونلمسها. اجرام حقيقي نمارسه جميعا بحق الدولة واجيالها اذا يكفي ان ننظر الى الطريق خلفنا لنشاهده وقد تعبد بعشرات المشاريع الضرورية المتناثرة في زوايا النسيان والاهمال. بعضها لم يعد يصلح للمرحلة ويحتاج الى التجديد والتحديث وبعضها الآخر نفذته دول قريبة وبعيدة ولم يعد جاذبا للاستثمار. ويكفي ان ننظر الى اجيالنا المتخرجة من الجامعات وهي تهاجر لكسب خبرات خارجية او تنتظر لرؤية اسمائها في الصحف بعدما قبلت هذه الجهة الحكومية او تلك طلبات التكديس - عفوا التوظيف - فيما كان اقرار مشروع واحد كفيلا باستيعاب آلاف الكويتيين وفي مختلف التخصصات.
الفرصة التي نعيشها للتغيير تاريخية، فالزمن دوار وبحبوحة اليوم قد تتحول الى تقشف غدا، ومن لا يزرع لغده فلن يحصد مستقبله، ويوما ما سيحاسبنا أبناؤنا على ما فعلناه ويذكرونا بآيات من سورة يوسف... «يوسف أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون».
وهل خاتمة أفضل من... صدق الله العظيم.


جاسم بودي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي