ولدي محمد ... وأبناء جيله

تصغير
تكبير

صباح الخير يا ولدي محمد
اخترت الكتابة اليك وأنا اقصد الكتابة الى وزارة التربية ومن هو اعلى من الوزارة، لكني اخاطبك، ومن خلالك، أبناء جيلك، لعلك تستفيد مما سأقوله أو من بعضه على الاقل، فتجربة السلطة الكويتية في التجاوب مع بعض الطلبات والتمنيات ومصالح الناس غير مشجعة على الاطلاق.
قبل كل شيء يا ولدي، اقسم بالله العظيم عشر مرات ان لا علاقة لما سأكتبه بأي توجه اميركي او اوروبي او علماني او ليبيرالي او اصولي او محافظ. سأكتب عن ضرورة تعديل المناهج التربوية وتطويرها... لا استجابة لاوامر البيت الابيض بعد 11 سبتمبر، ولا رغبة في مواجهة «الظواهر الدخيلة» بعدما صارت خيول الكاوبوي ترعى في اراضينا، ولا انسجاما مع دعوات الحرية المطلقة في التلقين والتوجيه، ولا اتساقا مع المناهج الغربية وتحديدا بعض مضامينها الاجتماعية.
اكتب عن ضرورة تعديل المناهج الدراسية الكويتية وتطويرها لسبب واحد فقط هو الحرص على ان تتعلم يا محمد ويتعلم رفاقك وفق افضل معايير الحداثة والمعارف التربوية، بطرق مباشرة وواضحة وفاعلة... قادرة على اندماجكم عند التخرج في الفضاء المهني العالمي كل حسب اختصاصه وتخصصه مع احتفاظه بخصوصياته الدينية والثقافية والاجتماعية.
غدا عندما تكبر ستعرف يا محمد ان ثورة الاتصالات والتكنولوجيا في العالم رافقتها ثورة تطويرية حقيقية للمناهج التربوية لم يصلنا منها الشيء الكثير، وان وصلنا القليل فسنتعاطى معه على اساس التلقي الاستهلاكي شأننا في ذلك شأن التعاطي مع الثورة التكنولوجية التي نستوردها مع مهندسيها بدل ان نحيط بها ونطورها ونصدرها ونصبح خبراء فيها. لا تستمع الى «نظريات المؤامرة» التي تقول ان الغرب يحجب العلم عنا، فها هم الهنود وهم يعيشون في مجتمع اكثر فقرا من الكويت وفي ظروف صعبة جدا صاروا اساتذة الغرب في علوم الكمبيوتر ويمكنهم شل الحياة التكنولوجية في وادي السليكون في اميركا اذا ارادوا. ولا تسمح لأحد بأن يغسل عقلك بكلام مثل اننا كعرب وكمسلمين امة مهزومة، والمهزوم اولوياته «النضالية» اهم من تحصيل العلم، فها هم اليابانيون  وقد تلقوا اكبر هزيمة في القرن الماضي مصحوبة بقنبلتين نوويتين يفرضون شروطهم الصناعية والتجارية والتكنولوجية على الغرب.
ديننا الاسلامي يا محمد، ومع الاحترام الشديد للأديان الاخرى، اكثر دين يحض على العلم وطلبه من المهد الى اللحد. اكثر دين يدفعنا الى احترام الآخر والدخول في شراكة معه. اكثر دين يدعونا الى الحداثة والتطور. يكفي ان تقول لك مناهجك الحالية – وهي للاسف لا تقول – ان المسلمين عندما كانوا متقدمين على السائد في عصورهم انتشروا من الصين الى فرنسا، وانهم عندما تراجعوا الى ثقافة الكهوف والتحجر انكمشوا وانهزموا وزادت الهوة بينهم وبين مفردات العصر.
أريدك يا محمد عندما تتخرج ان تفتخر بأنك مسلم لأن دينك حقيقة يبعث على الفخر، لا لانك ولدت مسلما، او مفروض عليك ان تكون مسلما. قرأت معك في الصفوف الرابع والخامس والسادس عن الجهاد والاستشهاد وعدم اللجوء الى الدول الكبرى وعن عذاب القبر وتقطيع الجثث في الغزوات وعن الحورالعين (وكم كان صعبا ان اشرح لك وانت في الحادية عشرة عن الحور العين)... وقرأت معك مواضيع اخرى جميلة تتصل بالقيم والاحكام والواجبات والفروض، لكني اعتقد يا ولدي ان الكثير الكثير من قيم الاسلام الحضارية المشجعة على العلم والبحث والحداثة والانفتاح على الآخر والتعددية وتقبل كل الآراء بصدر رحب على قاعدة: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب»... كل ذلك غير موجود في مناهجك ولو وجد فبتواضع وليس بقدر الامور الاخرى التي قد تنشئ جيلا غاضبا مستفزا (بفتح الفاء) اما ينسحب من المزيد من علوم الدين واما ينغمس في نهج واحد قد يؤدي الى التطرف والممارسات الدخيلة على الاسلام والمسلمين.
لن اطيل عليك في هذه النقطة انما يمكنك بكل تأكيد اذا تعدلت المناهج وتحدثت وربطت كلها بسلة عصرية واحدة سواء في الرياضيات او الفيزياء او الكيمياء او علوم المال والاقتصاد والتكنولوجيا او المواد الادبية والدين، ثم ربطت هذه السلة بمسارات التخرج والوظائف والتطور الاجتماعي... يمكنك بكل تأكيد ان تخدم دينك اكثر وترفع اسم بلدك الكويت اكثر وان تكون نموذجا مستقطبا لدينك وامتك تماما كما فعل الياباني مع معتقداته ووطنه والهندي مع معتقداته ووطنه والكوري الجنوبي والماليزي...     
لا اعرف يا ولدي كيف اشرح لك ان جزءا كبيرا من المشاكل التي ستواجهك في المستقبل يكمن في مناهجك الدراسية. لا اعرف كيف اعطيك وجهة نظر من دون ان تصاب بالاحباط . نتراجع في كل شيء... في اللغة والعلوم والادب، وتفتقر المناهج الى الجاذبية في كل شيء خصوصا في العربية حيث الدروس التي تلقيتها في سنواتك الاولى بعضها نصوص دينية وبعضها نصوص سياسية وبعضها نصوص جافة تتحدث عن مواضيع جافة مثل البيئة والنفط... تغيرت المناهج حتى في الدول المتقدمة وباتت مرتبطة بحاجات المجتمع والتطور المنشود اقتصاديا وصناعيا وماليا وتقنيا وما زالت مناهجنا متأخرة عن حاجات مجتمعنا، وكم ستكون المفاجأة مخيفة بعد سنوات حين نرى بالعين المجردة الهوة الشاسعة بين تقدمهم وتراجعنا وكأن هناك من يريدنا ان نبقى اسرى هذا التراجع ليفرض أجندته المتخلفة على مستقبلنا.
لن اثقل عليك اكثر لكني أريدك ان تملك مستقبلك بيديك، ان تكون عندك القدرة على التمييز والاقتناع فالاختيار. ان تعرف ماذا ستدرس واين ستعمل وقديما قيل دوام الحال من المحال ومن هنا فعليك ان تكون مستعدا لتشق طريقك بنفسك فالعمل قد لا يكون في بلدك... وبلدك قد لا يبقى كما كان ايام والدك واجدادك. اعرف ان المشكلة ليست فيك وفي ابناء جيلك وانما في النظام التعليمي ورديفه التشريعي الرقابي... واعرف اكثر ان كل ما قلته هنا لم يكن على مدى السنوات السابقة محور اهتمام بين المجلس والحكومة، فالنواب يوقفون وزراء التربية على المنصة بسبب امور لا علاقة لها بتطوير المناهج. يوقفونهم بسبب التعيينات والحصص الوظيفية والادارية والسفرات ورحلات العمل او بسبب امور اخرى لا علاقة لها بمستقبل الاجيال. لم يكلف احد نفسه بقراءة المناهج قراءة متمعنة. لم تتشكل ورش عمل متخصصة لإعادة التقييم والاستفادة من التطورات الدولية الهائلة في علوم التربية. لم يتوقف احد عند المستوى التعليمي للخريجين والخريجات لمعرفة العلة ووصف الدواء بل صب كثيرون اهتمامهم على الواسطات لتدبير وظيفة.
في الختام، استميحك يا ولدي واستميح ابناء جيلك عذرا لأني تحدثت عن مشكلة اعرف اننا لن نجد لها حلا في ظل النهج السائد الآن... لكنني ما زلت مؤمنا بعطف المولى عز وجل وكرمه ورعايته بأن يهدي اولياء الامر واصحاب القرار الى ما فيه خير مستقبلك ومستقبل ابناء جيلك ومستقبل الكويت.


جاسم بودي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي