الفيلم الأميركي «المثير»: تسويق «القاعدة»

تصغير
تكبير

اميركا بلد الحريات، الانفتاح، التعدد، الديموقراطية... بلد تتوافق فيه القوانين تباعا مع حاجات الفرد ومصالح المجموعات. وهو ايضا بلد يتوافق فيه المزاج الاعلامي العام تباعا مع سياسات الادارة ومصالحها، فتجد انتقادا بـ«التجزئة» لسلوكيات هذه الادارة في الافلام والبرامج والمسلسلات والتلفزيونات والصحف، لكنك تجد غطاء ترويجيا شاملا يسوق وبـ«الجملة» لمرحلة المواجهة الكبيرة مهما اعطيت هذه المواجهة من اسماء.
كان العدو في الافلام الاميركية الهندي الاحمر «السيئ والشرير»، وكان الكاوبوي هو البطل الذي قاد عملية انتقال الداخل الاميركي من مرحلة الفوضى والقبائل الى الاستقرار والدولة. ثم صار العدو بعد الحربين العالميتين المانيا وهتلر حتى بتنا نعرف الجندي الالماني «السيئ والشرير» من خوذته. ثم صار السوفياتي وكتلته ولاحقنا «يوري» الجاسوس «السيئ والشرير» لنعرف كيف سينهزم قبل ان يدمر العالم الحر، ثم تداخلت اشكال اخرى من العداء بينها البعيد المعادي مثل الصين وكوريا الشمالية وفيتنام، وبينها القريب المعادي مثل كوبا ونيكارغوا، واحيانا القريب الموالي مثل بنما التي خرجت على بيت الطاعة...
كنا نرى ذلك كله كمشاهدين الى ان وصلنا مرحلة المشاركة في الفيلم الاميركي... صرنا كعرب ومسلمين مادة سينمائية وتلفزيونية واعلامية ترمز الى «العدو» وصار اسمنا الفني «القاعدة» ويعني في ادبيات العم سام التطرف والارهاب.
بعد ريشة الهندي الاحمر وخوذة الجندي الالماني وقبعة الجاسوس الروسي صارت العمامة القماشية هي الخطر الذي سيدمر العالم الحر. بدأت شركات السلاح والسياسة والاستخبارات والعلاقات العامة حملة مكثفة لتسويق الاسم، «القاعدة»، اسم له وقع الهلع في نفوس الغربيين شعبيا ورسميا. كانوا مجموعة من المقاتلين ضد الجيش السوفياتي ايام كان «يوري» هو العدو في الحرب الباردة. اعطتهم الادارة الاميركية كل التسهيلات، من موافقات حكوماتنا العربية والاسلامية على ذهابهم الى افغانستان الى صواريخ «ستنغر» التي لم تحصل عليها حكوماتنا العربية والاسلامية حتى الآن. مرورا بالدعم الاعلامي والمالي والتسليحي الذي نقل مصطلح «المجاهدين» من قندهار الى مختلف انحاء العالم.
كانوا «مجاهدين» فصاروا «القاعدة»، وكانت «القاعدة» فصيلا متطرفا فصارت رمزا للعربي والمسلم. ما كان تيموثي مكفاي قاتل 186 شخصا في تفجير مبنى في اوكلاهوما «اميركيا مسيحيا» بل هو متطرف مهووس. وما كانت جماعة «المعبد» في غيانا التي قادها القس جيمس وارين جويس المعروف بالاب جيمس جونز (918 منتحرا بينهم 274 طفلا) جماعة «اميركية مسيحية» بل هم «متطرفون مهووسون»، وكذلك الامر بالنسبة الى جماعة «الباب السماوي» في كاليفورنيا او اتباع ديفيد كورش في تكساس، وما كان يهوديا من ارتكب كل هذه المجازر بحق الفلسطينيين العزل بل هو «متطرف» او «مدافع عن كيانه الديموقراطي»... الا تنظيم «القاعدة» فهو في آلة التسويق الاميركية  رمز عربي ومسلم.
نحن قبل الاميركيين نؤمن فعلا بان الاشخاص الذين يرتكبون جرائم ولو وصلت الى مستويات تدميرية انما هم متطرفون يمثلون انفسهم. التطرف موجود عند اليهود والمسيحيين والمسلمين وفي اي ديانة لكنه يمثل الفرع الشاذ وليس الاصل. لكننا نؤمن ايضا بأن الانظمة التي ترتكب جرائم انما هي انظمة ارهابية بغض النظر عن هوية المتربعين على سدة الحكم فيها. يتساوى في ذلك مسيحي مثل ادولف هتلر ويهودي مثل ديفيد بن غوريون واسحق شامير وارييل شارون وايهود اولمرت وبنيامين نتانياهو (قائمتهم طويلة) ومسلم مثل صدام حسين. ونؤمن ايضا بأن الانظمة التي تدعم الانظمة والجماعات المتطرفة هي شريك بطريقة او بأخرى في الارهاب... وكذلك الانظمة التي تسوق لفكرة الخلط بين تنظيم ارهابي متطرف وبين العرب والمسلمين.
نصحو على «قاعدة» ونغفو على اخرى، صار الاسم «ماركة» ترويجية لغزو اي سوق وبأي شروط ومعايير، افتحوا الدفاتر والخزائن والمصارف والتحويلات والمناهج والسلوكيات والقيم والاعراف وإلا فأنتم تخرقون قانون مقاطعة البضائع «القاعدية»، اشتروا السلاح واعقدوا الصفقات وابرموا الاتفاقات الامنية كي تفوزوا بشرف المشاركة في مكافحة الارهاب، نددوا بـ«القاعدة» عند كل عملية خطف وفي اي مكان في العالم سواء كان الخطف شخصيا او من اجل الفدية، وركزوا على «القاعدة» عند حصول اي جريمة وفي اي مكان في العالم سواء حصلت لاسباب سياسية او جنائية، اتهموا «القاعدة» فورا عند حصول انفجار في هذه الدولة او تلك ولتعمد اجهزتكم الامنية الى سلسلة اعتقالات استباقية داخلية ولو اتضح لاحقا ان سبب الانفجار... اشتعال قارورة غاز.
لا التسويق الاميركي لفكرة ان «القاعدة» هي وراء كل شيء بريء لان المطلوب كما يبدو ربط هذا التنظيم بالعرب والمسلمين وتشويه صورة الاسلام، ولا التسويق العربي والاسلامي لتبرئة «القاعدة» من اي عمل بريء ايضا لان المطلوب واحد: خطف العرب والمسلمين في طائرة يقودها متطرف ويطلق عليها الاميركيون النار من مختلف انواع الاسلحة الحديثة والمتطورة لاسقاطها بمن فيها، اي بالغالبية المطلقة المعتدلة والاقلية الشاذة.
كان «المجاهدون» في افغانستان «ماركة» رائجة قبل 1990 تم تسويقها حتى في الداخل الاميركي للدلالة على وعي العرب والمسلمين بخطر الاتحاد السوفياتي ومساهمتهم مع العالم الحر في الحرب على «الارهاب الشيوعي». بقي «المجاهدون» وتغيرت «الماركة» الى اسم آخر وسوقت في اتجاهات معاكسة تماما لان «يوري» لم يعد المشكلة بل محمد وعبد الله وعمر وحسن، مع ان هؤلاء لا يملكون الترسانة التي ملكها الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية سابقا ولا عندهم «ديمونا» او «تشيرنوبل»... وكل سلاح كان في حوزتهم انما حصلوا عليه من الولايات المتحدة ايام كانوا «مجاهدين» وغير «متطرفين».
للمرة المليون، «التطرف» مشكلة المسلمين قبل ان يكون مشكلة غيرهم لانهم هم من يتأثر اكثر بنتائجه، والتنظيمات الارهابية عدوة للعرب والمسلمين قبل ان تكون عدوة لغيرهم لانها اذا ضربت في الغرب مرة ومرتين ومئة فإنها ستجتاح انظمتنا ومجتمعاتنا ولن تكتفي بعملية خطف او تفجير.
وللمرة  المليون، محاربة الارهاب مسؤوليتنا أولًا كعرب وكمسلمين وليست مسؤولية الولايات المتحدة التي كبّرت «المجاهدين» عسكريا لتستخدمهم في حربها الباردة ثم كبّرت «القاعدة» إعلاميا لتستخدمها في حربها الساخنة.
 لتتخل اميركا عن وكالتها الحصرية في تسويق خطر هذا التنظيم، ولنتخل كعرب وكمسلمين عن سلبيتنا ازاء مواجهة هذا الخطر وتركه للبيت الابيض... وما لم نفعل ذلك فقد يأتي يوم نترحم فيه حتى على دور الكومبارس في الفيلم الاميركي الطويل.


جاسم بودي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي