دروس... «الخمس»

تصغير
تكبير

هدأت وانجلى الغبار. دارت طواحين الدوائر الخمس دورتها فأنتجت صناديق الاقتراع مجلسا جديدا... ورتب المجلس الجديد بيته الداخلي.
هدأت قليلا، وصار في الامكان الحديث عن تقييم تجربة الدوائر الخمس التي خطف «النضال» لتحقيقها أنفاس الكويت وأشعل ساحة الارادة مهرجانات وخطابات وجماهير تفاوتت بين البرتقالي والأزرق.
نجح التحرك الشعبي في فرض الدوائر الخمس على الحكومة. هي اللعبة الديموقراطية السلمية التي ارتضيناها مسارا ونتائج. قالوا ان النظام الانتخابي القديم يكرس القبلية وتدخل المال السياسي. قالوا إنه يعمق الفرز بين مناطق داخلية وأخرى خارجية، وأنه يحول دون تشكيل مجلس متجانس يعمل كفريق متناغم لمصلحة الكويت أولاً. قالوا انهم لا يريدون ان يبقى المرشح اسير تحالفات ضيقة من فرعية قبلية او فرعية حزبية او اتفاقات لتبادل الاصوات «مذهبيا». قالوا انهم لا يريدون النائب اسير معاملات ناخبيه فقط بل ان يكون نائبا للامة كلها. قالوا انهم لا يريدون للمال السياسي ان يتدخل ويلعب دورا وان تكبير الدوائر يحد من هذا التدخل... قالوا الكثير وانهمرت الشعارات كالسيل الجارف عابرة مرحلة «الثورة حتى النصر».
حصل ما حصل، وكانت النتيجة باعتراف ابطال انتفاضة الدوائر الخمس مكرسة للقبلية والطائفية والمال السياسي. بل اكثر من ذلك، دفعت احزاب سياسية ثمن مواقف معينة تتعلق بمصالح الناس بأن سقط مرشحوها في ما اصطلح على تسميته بالمناطق الخارجية ونجح مرشحوها في المناطق الداخلية. فرز افقي مخيف اعطى مؤشرات سلبية حول مستقبل العمل السياسي.  
وحتى نكون منصفين، نقول ان تقييم تجربة الدوائر الخمس بشمولية يحتاج الى اكثر من انتخابات والى انتظار قبل الحكم على الاداء. هذا صحيح. انما يمكننا مع قطاع كبير من الكويتيين ان نرصد سريعا بعض الدلائل واهمها على الاطلاق ان لغة التهجم على الآخرين من اجل تسويق فكرة معينة او هدف معين يجب ان تتوقف، وكذلك لغة تحميل الآخرين مسؤولية فشل معين او تراجع ما.
بمعنى اوضح، كان الذين هاجموا نظام الدوائر الـ 25 (ونحن لا ندافع عنه على الاطلاق) يحملون جهات بعينها مسؤولية عدم تغييره ويعتبرون ان لها مصلحة في بقائه، وعندما سقط بعضهم او تراجع ترتيبه في الانتخابات الاخيرة حمل هذه الجهات نفسها مسؤولية ما حصل.
عودوا فقط الى تصريحات وهتافات وخطب من تحركوا لتغيير قانون الانتخاب قبل نحو عامين وقارنوها بمواقفهم بعد الانتخابات الاخيرة، ستجدوا انهم اكثر من قال ان تجربة الدوائر الخمس كرست القبلية والمذهبية وتدخل المال السياسي اكثر من ذي قبل... وستجدوا ان السبب دائما هو «الآخر» سواء كان منافسا او حكومة او حزبا سياسيا او «خيانة اللحظات الاخيرة».
آن الاوان ليتخلى المسؤولون الكويتيون على اختلاف توجهاتهم عن لغة تحميل «الآخر» مسؤولية نظام او قانون او تشريع، ومن ثم تحميله مسؤولية فشلهم حتى عندما ينجحون في تغيير نظام او قانون او تشريع. السياسة ليست كلها مناورات وتكتيكات ومصالح بل فيها ايضا اخلاقيات ومبادئ وقيم واعتراف شجاع بالخطأ او بالعجز او بتراجع القدرات... فنحن بشر والله جل جلاله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
الأمر الآخر الذي يمكن البناء عليه للاستنتاج، هو ضرورة رفع قضية النظام الانتخابي الكويتي الى مصاف الاولويات، فاستنادا على هذا النظام تتوازن ايقاعات الحركة السياسية والتنموية الكويتية لسنوات وسنوات، ولذلك لا بد من ايلائه الاهمية القصوى من جهة ولا بد من اشراك كل قطاعات الشعب الكويتي ومكوناته في هذا الامر المصيري من جهة اخرى.
بمعنى اوضح. قضية النظام الانتخابي في الكويت اكبر من البرلمان واكبر من الحكومة واكبر من القوى السياسية والهيئات الاكاديمية القانونية ومراكز الابحاث واكبر من مهرجان واعتصام وخطاب وشعار. هي نتاج جهود كل هذه العناصر. نعم، جميع الكويتيين يصرون على ألا يمر اي تعديل او تغيير إلا من خلال البرلمان، لكن البرلمان ليس ثكنة عسكرية او مجلس قيادة ثورة. هو بيت الامة الذي تتسع قاعاته وباحاته وعقول ساكنيه وقلوبهم لاي اقتراح او فكرة جديرة بالدرس والبحث. هو مصدر التشريع لمصلحة الكويت والكويتيين ويجب ان توجه هذه المهمة كل نائب كي ينفتح اكثر على اي رأي يساعد في تجاوز الاخطاء والسلبيات، بل ان نواب المجلس مطالبون قبل غيرهم بالمبادرة لعقد ورش عمل مع خبراء وقانونيين ومتخصصين وسياسيين واعضاء هيئات المجتمع المدني الفاعلة، للوصول الى عناوين تغييرية فاعلة في ما يتعلق بقانون الانتخاب، تناقش تحت قبة عبد الله السالم وتقر تحت قبة عبد الله السالم.
بقاء الدوائر الخمس مع اضافات وتعديلات، عودة الى الدوائر الـ25، عودة الى الدوائر العشر، قيام الدائرة الواحدة مع صوتين لكل ناخب... كلها افكار يمكن لاي كويتي ان يساهم في تغليب واحدة على اخرى وفق ما تقتضيه المصلحة العامة... لكن المطلوب ان يرتفع الصوت وان يصل الى من يجب ان يصله.
هدأت قليلا وانجلى الغبار... انما الى حين، فالعواصف السياسية لن تتوقف ما دامت العملية السياسية الكويتية - في رأينا – تتراجع من يوم الى آخر، وما دام تطوير النظام السياسي خاضعا للاهواء والمصالح الفردية مهما حاول اصحاب هذه المصالح احاطة انفسهم بهالات مزيفة. وحده النظام الانتخابي القادر على تعميق الانصهار الداخلي ودفع عجلة التنمية قدما الى امام... قادر على دفع الكويت قدما الى امام.


جاسم بودي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي