حين تحاضر بالعفاف

تصغير
تكبير

سمعنا وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني تحاضر فينا بينما جحافل جيشها «تحاصر» فينا. سمعناها تدعونا الى التسامح، إلى التطبيع، الى السلام،  الى اظهار نياتنا الحسنة قبل انتهاء المفاوضات. سمعناها تدعونا الى تغيير المناهج العربية والاسلامية التي تحض على الكراهية ورفض الآخر، فالقضية بالنسبة اليها ليست قضية اغتصاب واحتلال وتهجير وتشريد قبل ستة عقود بل قضية مجموعة ضلت في الفكر والممارسة وبدأت منذ عقد طريقا خاصا اضر بالعرب والمسلمين قبل غيرهم... ولم نكن ننتظر من ليفني سوى ان تدعونا الى «تطهير العقيدة السمحة عن كل ما يشوبها من انحرافات حرصا على انتشار الدين الاسلامي بالفكر لا بالسيف».
ما اقبح ليفني حين تحاضر بالعفاف السياسي والفكري، وهي التي اعطى جيش بلادها مثلا حقيقيا في ترجمة افكارها «المثالية»:
في دعوتها الى التسامح؟ ها هو السجال يتجدد في دوائر الامن الاسرائيلية عن جدوى استمرار عمليات الانتقام من اسرة ومعارف واصدقاء فدائي فلسطيني قام بعملية منذ 40 عاما.
في التطبيع؟ ها هو العامل الفلسطيني ينتظر عشر ساعات على حواجز الذل للسماح له بالعمل في أرضه مقابل بعض الدولارات ثم يعود ليجد منزل العائلة تطبع بالأرض إثر هدمه من قبل جرافة اسرائيلية مواكبة لدبابة تبحث عن الامن... وليجد قريبا جديدا له تطبع بالقبر.
في السلام؟ وقـــــد وفــــر علينا خــبر مجــزرة الـــشــهـــداء الـ 19 بأطفالهم ونسائهم في غزة امس عناء شرح نوعية السلام الذي تريده وزيرة خارجية اسرائيل.
في اظهار النيات الحسنة؟ نحن نؤمن دائما بأن الأعمال بالنيات لكن الاسرائيليين لا يؤمنون الا بعكس ذلك، اي «وانما النيات بالاعمال» لانهم يقتلون ويهجرون ويشردون ويهدمون... قبل أن ينوون.
تغيير المناهج العربية والاسلامية التي تحض على الكراهية ورفض الآخر؟ وهل في العالم كله مدرسة في الكراهية أسست مناهج – مجازر افضل من المدرسة الاسرائيلية؟ صحيح أن بعض مناهجنا يحتاج الى تعديل وبعض ممارساتنا يحتاج الى استئصال، لكن الاصح ان آخر من يحق له الحديث عن هذا الموضوع هو من أقام دويلته على حدود مجازر القرى العربية الفلسطينية، ثم غذى عصبيته الاجتماعية بمجازر اخرى ارتكبها ضد أبناء جلدته اليهود كي يستقطبهم إلى «أرض الميعاد»، ثم عبأ جيشه وشعبه بفكرة دينية أساسها تفوقه كعرق وعقيدة على غيره من الاعراق والعقائد من جهة وضرورة توسيع حدود دولته على اساس نص ديني رسمها بين نهرين من جهة أخرى.
وماذا لديك في جعبة النصائح بعد أيتها السيدة المحاضرة بالعفاف السياسي والفكري؟ هل لديك جهاز تلفزيون ينقل لك كيف تجمع الام الفلسطينية أشلاء طفلها الذي مزقته قذيفة اسرائيلية وهي في حالة هستيرية؟ هل نترجم لها كلمتك عن تعديل المناهج كي تتشبع بثقافة «تسامح» تساعدها على تقديم طفلها الثاني قربانا لآلة الهمجية والوحشية؟ 
تطبع الفلسطينيون مع الموت والشهادة وتطبع الاسرائيليون مع القلق والخوف والاجرام. ما يعرض الآن هو أن يستمر التطبيع الفلسطيني وينتهي التطبيع الاسرائيلي. أن يبقى الفلسطيني بين خيارين: إما أن يموت قتيلا من الجوع والعوز والحاجة والحصار والعمليات العسكرية الاسرائيلية وإما أن يموت شهيدا بفعل عملية تفجير أو هجوم مضاد أو انتقاما لمجزرة. أما الاسرائيلي فمطلوب منا أن نشعره بالامن والامان والاطمئنان والسلام كي يفعل ما يريد بلا حساب ولو في حده الادنى... وعندها فقط تعلق على صدورنا وصدور أمواتنا «اوسمة التحضر».
نعرف تماما مسؤولياتنا وعيوبنا وخطايانا. نعرف اننا كعرب ومسلمين في السجالات والنزاعات لا نقل قسوة احيانا عن قسوة اساتذة الاجرام في المنطقة. نعرف كيف نضيع الفرص ولا نستفيد منها ولا نتعلم من التجارب. نعرف ان ظواهر التطرف والارهاب اصابتنا في مقتل قبل أن تصيب الآخرين. ونعرف ان الحريات في الكثير من دولنا، إما معلبة مستوردة لاهداف مصدريها وإما مفصلة على قياس الزعيم القائد أو الحزب الحاكم... ومع ذلك فآخر من يحق له اتحافنا بالنصائح من كان مسؤولا بشكل كبير عن غالبية ظواهر العنف والاجرام والابادة في المنطقة.
باختصار... المراجعة مطلوبة من المجرم لا من الضحية.


جاسم بودي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي