... إلى التاريخ هرباً من السياسة


تعب الكويتيون من السياسة في الأيام الماضية فقد كانت الجرعة كبيرة ودلالاتها متعبة على مختلف الأصعدة. لذلك أعدكم اليوم بالهروب من السياسة إلى التاريخ.
أبحرت بنا الذاكرة إلى إعلان الوزير أبوالحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس عام 422 هجرية بعد سلسلة من السياسات الخاطئة التي أدت إلى تراجع هيبة الحكم، وأهمها تشجيع بعض الامراء على الانقسام الداخلي بين المجموعات في إماراتهم بغية الاستفراد المطلق بالسلطة والثروة، إضافة إلى تشجيع الفساد والمشاركة فيه وغياب العدل والمساواة في كثير من الأوجه، ورسم السياسات العامة لكل إمارة على حدود مسؤوليها وبما يضمن لهم مصالحهم الآنية من دون الالتفات الجدي إلى مغبة الاستقواء بطرف خارجي على الداخل.
وقد سُئل أحد شيوخ الأمويين بعد سقوط دولتهم: ما كان سبب زوال ملككم؟
فأجاب: « إنّا شُغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا، فظلمنا رعيتنا، فيئسوا من إنصافنا وتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فتخلّوا عنا، وخربت ضياعنا، فخلت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا، فآثروا منافعهم على منافعنا، وأمضوا أموراً دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا، فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا فتطافروا معهم على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا».
ويتفق المؤرخون على أن الخلافات التي كانت تنشأ بين المسلمين في الدولة الأموية هي الأساس الذي أدى إلى انهيارها من دون إغفال أهمية الأسباب الأخرى المتعلقة بسوء إدارة الحكم. فالانقسام الداخلي الذي شجعته السلطة في كثير من الأحيان، أو غضت النظر عنه، كانت نيرانه تتلقى الزيت من أقرب المقربين من الحكام أو من المستشارين والأشقاء والأبناء وأبناء العمومة. وبدل أن يعالج الأمراء الأمويون أخطاء هذه الفئة أو تلك بالاستيعاب وعدم السماح بردود الفعل والتأجيج تركوا لعبة المصالح تقود الانقسام إلى فتنة، فانهارت الجبهة الداخلية عند التحديات الخارجية الحقيقية ولم تستطع الدولة المواجهة «لقلة أنصارها».
وفي التاريخ أيضاً تلاوات ندم لأمراء بني أمية الذين استفاقوا بعد الخسارة والانهيار على واقع مرير مفاده أن الانقسام الداخلي شرع الأبواب لجميع الفئات بلا استثناء للاستقواء بالخارج بمن فيهم المقربون والمستشارون والأقرباء. فهناك أطراف ارتكبت الأخطاء لعلمها أن ردة فعل الآخرين ستساهم في الاستقطاب والتجييش لخطها بعدما فشلت هذه الأطراف في حشد المناصرين في الظروف العادية، وعندما تكاثر المناصرون ورأوا في الدولة شريكاً في مواجهتهم والضغط عليهم، غاب العقل وحضرت العصبية والغريزة وساد الانقياد «للرموز» من دون تفكير في المخططات الفعلية لهذه الرموز وارتباطاتها الحقيقية بالخارج. وفي الجهة المقابلة كان النافخون في الكير يشرعون الأبواب لكل أطراف «الخارج» بحجة المساعدة على مواجهة «ارتباطات بعض من في الداخل على الخارج»... أما النتيجة فكانت انهيار الداخل، كل الداخل، وتقدم الخارج على أطلال الخلافات.
وفي «الموسوعة الحرة» عن المرحلة التي تبعت سقوط الدولة الأموية للاسباب المعروفة فإن العقدين 1020 و1030 ميلادية «شهدا نشوء ملوك الطوائف الذين قسموا الدولة الأموية إلى 22 دويلة، منها غرناطة وأشبيلية والمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين والبداجوز ودانية والبليار ومورور. ورثت تلك الدويلات ثراء الخلافة، إلا أن عدم استقرار الحكم فيها والتناحر المستمر بين بعضها البعض جعل منها فريسة لمسيحيي الشمال, ووصل الأمر إلى أن ملوك الطوائف كانوا يدفعون الجزية للملك ألفونسو السادس ملك قشتالة، وكانوا يستعينون به على إخوانهم».
صارت كل مملكة إسلامية تستقوي بالفونسو على المملكة المجاورة لها. تدفع له الجزية وتعقد معه اتفاقات حماية أمنية حتى لا تسول لأمير آخر نوازع التمدد والتوسع مستفيداً من التعبئة المستمرة التي شغل بها شعبه المسلم ضد شعب المملكة اللصيقة... المسلم.
وعندما زادت خلافات الطوائف داخل ممالكهم تصاعدت الحروب والمنازعات، وكانت الفتاوى جاهزة داخل كل مملكة لاستعانة الأخ على أخيه بألفونسو... إلى أن وجد الجميع أنفسهم جزءاً من مملكة قشتالة التي تمددت فعلاً على حدود خلافات المسلمين، فاضطر الملوك إلى طلب النجدة من «المرابطون» بعد اجتماع مشهور لهم توجسوا فيه أيضاً الخشية من أن يلغي يوسف بن تاشفين سلطان «المرابطون» ممالكهم، فقال المعتمد بن عباد حاكم اشبيلية عبارته التاريخية الشهيرة: «رعي الإبل عندي خير من رعي الخنازير»، فكانت معركة سهل الزلاقة الشهيرة التي ألحقت الهزيمة بجيش ألفونسو، لكن المعارك سرعان ما احتدمت بين جيوش ملوك الطوائف أنفسهم وجيش «المرابطون»، وعاد بعض هؤلاء الملوك إلى الاستعانة بألفونسو الذي استعانوا سابقاً بيوسف بن تاشفين عليه، فكان ما كان من تقاتل إسلامي – إسلامي، أدى بعد ذلك إلى انهيار دولة الخلافة بأكملها في الأندلس بملوكها وطوائفها.
ما زال العرب والمسلمون يقفون على أطلال الأندلس حتى اليوم ويقارنون بين دروس التاريخ ومعطيات الحاضر، وربما كان أجمل من عبر عن ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي في مطلع رائعته الأندلسية:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا.
كم كان شوقي مبدعاً حين كشف لنا من أشبيلية كيف يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه.
وعدتكم في بداية المقال بعدم الحديث في السياسة... سامح الله شوقي.
جاسم بودي