الرأي اليوم / الرسالة الأهم

تصغير
تكبير
مُختلفة كلمة صاحب السمو في العشر الأواخر لهذا العام، مكتوبة بحبر الألم، معجونة بالحزن على «عياله» الذين سقطوا شهداء وجرحى في التفجير الإرهابي الغادر، لكنها بالوقت نفسه مُصاغة بالفخر والاعتزاز بمواقف أهل الكويت إزاء المحن والتحديات.

مختلفة كانت الكلمة لأن الظرف الذي جاء فيه النطق السامي هو ظرف استثنائي لم تعرفه الكويت من قبل. وللحق نقول إن جل كلمات صاحب السمو في الأعوام السابقة كانت تحذر مما يخطط لهذا البلد الآمن وكانت تدعو للوحدة بمواجهة ما يحيق بالمنطقة والإقليم من أخطار، وتطالب بنبذ كل السلوكيات التصعيدية والابتعاد عن الخطاب الطائفي بكل أنواعه وهجر اللغة الانقسامية ومحاربة دعاة الفتنة.


قرأ صاحب السمو التطورات من كتاب مفتوح يعرفه جيداً بل يحفظ صفحاته عن ظهر قلب بحكم التجربة. كان يعرف بحس النوخذة اتجاه الريح ويدرك أن الاستقرار والوحدة والأمن والقانون هي الأشرعة الرئيسية المؤدية إلى شواطئ الأمان. وتكفي مراجعة سريعة لجملة مواقفه وخطاباته ونداءاته لتفسير الكثير مما حصل راهناً، خصوصاً لجهة عدم خلق مناخات تسمح بتسلل مخطط شيطاني أو بتأسيس قاعدة داخلية ممن يسهل التغرير بعقولهم.

كانت مهمة جداً إشارة سموه لفضائل الشهر الفضيل ومعانيه وربطها بنعم الإيمان والأمن والأمان، وكيف أن الله العلي القدير هيأ لنا وطناً مستقراً، متمنياً مداومة الشكر والثناء واستحضار مشاعر الإخاء والمودة والوحدة.

وكانت مهمة إشادة صاحب السمو بالروح الوطنية العالية التي أعقبت ما أسماه السلوك الشيطاني المشين الذي هدف إلى إشعال الفتنة وشق المجتمع، وهي الروح التي ردت مدبري ومنفذي الجريمة النكراء على أعقابهم.

وكانت مهمة تحية سموه لرجال الأمن على ما بذلوه من عمل دؤوب وجهود جبارة لكشف خيوط الجريمة النكراء بأسرع وقت والحفاظ على أمن الكويت. وكذلك تحيته لوزارة الصحة ولكل من ساهم صحياً ومدنياً وإنقاذياً سواء في الإدارة العامة للإطفاء أو في الجهات الحكومية الأخرى.

وكانت مهمة دعوة سموه المتكررة المجتمع الدولي بأسره لتكريس كل طاقاته من أجل محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، وكانت لافتة جداً مطالبته هذا المجتمع بالحد من انتشار ظاهرة الاحتقان الطائفي ومنع اتساع رقعته لما يشكله ذلك من تهديد لوحدة المجتمعات. بمعنى آخر يوجه أمير الكويت رسالة إلى من يجب أن يقرأ ويسمع ويفهم بأن المجتمع الدولي بتأخره عن إيجاد حلول سريعة للأزمات من أجل إدخالها سوق المزايدات والصفقات إنما ساهم في تنامي واقع طائفي على الأرض تحول إلى احتقان فإرهاب... وهو ثمن لن يكون أحد بمنأى منه.

وكان مهماً تركيز سموه على أن الكويت للجميع وليست لفئة دون أخرى، وأن الوحدة هي السياج الحامي والحافظ بعد الله تعالى للكويت. وأن الاختبارات المؤلمة كالتي مررنا فيها تستوجب استخلاص الدروس والعِبر لتجاوزها مستقبلاً، وأن الكويت ستبقى مثالاً للتراحم والتكافل ونهج التسامح الذي سار على دربه الآباء والأجداد.

وكانت مهمة الفقرة المتعلقة بالشباب واعتبارهم الثروة الحقيقية للكويت، والدعوة المباشرة للمعنيين في الحكومة لاستكمال المقترحات الهادفة إلى تشجيع تنفيذ مشاريعهم وتحقيق آمالهم وطموحاتهم.

كل ما سبق وغيره في النطق السامي كان مهماً ومعبراً وصادقاً، أراده صاحب السمو لقاءً مباشراً من القلب للقلب ومن العقل للعقل... لكن أهم ما ورد في النطق السامي من وجهة نظري كان الفقرة المتعلقة بالديموقراطية والحريات والدستور. هي رسالة مهمة أراد صاحب السمو أن يوجهها في هذا الظرف تحديداً الذي تشهد فيه الكويت واحداً من أكبر تحدياتها وأخطره على الإطلاق، فيما كانت دول كثيرة وبينها أميركا وأوروبا تتوقع عندما يطولها تهديد أمني كبير أن يكون موضوع الديموقراطية والحريات في أسفل الأولويات.

قال سموه: «علينا أن نتذكر ما ينعم به وطننا العزيز من نهج ديموقراطي متجذّر وثابت توارثه أهل الكويت يملك فيه الجميع حرية التعبير، وأن نفخر بدستورنا الذي ارتضيناه والذي هو محل اعتزازنا (...) ليس الانتماء للوطن شعاراً يتغنّى به بل هو عمل وتفانٍ للحفاظ على أمنه واستقراره ورفع شأنه»

كلام محسوب بميزان الذهب وحساب التاريخ، يرد رأس الدولة على المطالبين بإعلاء الشأن الأمني في مواجهة التحديات على حساب الحريات والديموقراطية بالتذكير بأن التهديد الأمني طارئ والديموقراطية متجذرة، ويوجه رسالة لأهل الكويت بمختلف تياراتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم بأن الدستور ارتضاه الجميع ولذلك فهو سقف الجميع الذي لا سقف فوقه. أنت ارتضيت الدستور مظلتك فاعمل بهديه ولا تتجاوز القوانين الدائرة في فلكه بل ولا تعترض إن طُبق عليك القانون كما يُطبق على الجميع. أراد صاحب السمو أن يقول إن مواقف المرء تقوى وتنتشر في إطار الحريات والقانون والدستور لكنها إن كانت خارج إطاره تُصبح مرتعاً للشخصانية وتؤسس لفوضى وتصعيد وتطرف.

ليس الانتماء للوطن شعاراً يتغنى به بل هو عمل وتفانٍ للحفاظ على أمنه واستقراره ورفع شأنه... لا يكفي أن نرفع شعار الوحدة بل أن نؤمن بها ونطبقها. ولا يكفي أن نتشدق بالدفاع عن الحريات والديموقراطية والدستور والقوانين بل أن نكون العِبرة والمثال في عدم انتهاكها وأن نشجع دائماً على عدم انتهاكها. ولا يكفي أن نلعن التطرّف والطائفية والانقسام بل أن نعمل بكل جهدٍ ومسؤولية لتأمين مناخات وسطية معتدلة تساهم حقيقة في تجفيف منابع الإرهاب.

هذه هي الرسالة الأهم في نطق العشر الأواخر.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي