| علي الرز |
تتشابه تصريحات المسؤولين الايرانيين اليوم مع تصريحات المسؤولين العراقيين قبل سنوات. طغيان التصدي والصمود والاستعداد الكامل للمواجهة مع «الشيطان الاكبر» وملحقاته، وابقاء الباب مفتوحا امام اي تسوية تسمح بحفظ ماء الوجه في حدها الادنى والحفاظ على شروط القوة في حدها الاقصى، والتشدد والتطرف مع اي صوت هادىء عاقل سواء كان من داخل البلد او من خارجه فتتمدد رقعة الاعتقالات وغير الاعتقالات في الداخل وتصدح اصوات التهجم على الخارج بادئة بردود فعل كبيرة على الاعلام والسياسيين ومنتهية بالدعوة الى تغيير انظمة حكم عربية وتحديدا خليجية.
ايران ليست العراق بالطبع. لم يأسرها الحصار ولم تكبلها عقوبات، ويدها طليقة اكثر في حيازة اوراق اقليمية لم يكن العراق قادرا على حيازتها، استنادا الى تحالف مع سورية واتحاد مع قوى سياسية لبنانية فاعلة، مرورا بنفوذ تعاظم تدريجيا في العراق بعد اطاحة الولايات المتحدة لنظامه السابق، ونفوذ تكرس تدريجيا في فلسطين واخذ زخما اكبر بعد اطاحة «حماس» للسلطة في غزة... ومع ذلك يستمر الخطاب السياسي الايراني على جموده حاصدا المزيد من الخصوم والمزيد من انعدام الثقة والمزيد من المخاوف على استقرار المنطقة.
دعوة مسؤول ايراني الى تغيير انظمة الحكم في المنطقة شكل آخر من اشكال «تصدير الثورة» التي يفضل الايرانيون استبدال مصطلح «تعميم المشروع الاسلامي» بها، وهي دعوة ، على رغم التوضيحات التي لحقت بها، تكشف ان كل دعوات التعاون المعلنة انما تندرج في خانة «التقية السياسية» او في اطار كسب الوقت للانتهاء من «شيطان كبير» قبل التفرغ لغيره. المهم ان على الشيعة العرب تحديدا مسؤولية مضاعفة في هذه الايام للعب دور اساسي في الحفاظ على وحدة مجتمعاتهم وصيانة استقرارها والالتزام اكثر من اي وقت مضى بمشروع الدولة التي هي جزء لا يتجزأ منهم وهم جزء لا يتجزأ منها حسب تعبير العلامة الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي تصدى لكل مشروع يهدف الى اخراج الشيعة العرب من منظومة الدول والانظمة والمجتمعات والمؤسسات التي يعيشون في كنفها.
اعترض الفقيد الكبير الشيخ شمس الدين في كل حواراته مع النخب الشيعية العربية وتحديدا في منطقة الخليج على الخلط بين الولاءات او المزج بين اجتهاد فقهي مثل «ولاية الفقيه» والانتماء الوطني. فهو، وان لم يعترف بولاية الفقيه، الا انه اعتبر هذا الاجتهاد شأنا خاصا بمعتنقيه، مشددا على وجوب عدم تحميل الشيعة العرب (بمن فيهم من يلتزم احكامه) اي نتائج قد تؤثر سلبا على التزامهم مشروع الدولة، فالمواطنة اولا واخيرا فعل ايمان بوحدة الارض والمجتمع والمؤسسات، وفعل شهادة من اجل السيادة والاستقرار والبقاء.
التصعيد الذي يبديه مسؤولون ايرانيون ضد انظمة في الخليج يشبه تصعيدا مماثلا ابداه مسؤولون عراقيون بعثيون سابقا، خصوصا بعدما فشلت محاولات تغيير هذه الانظمة بالغزو والقوة. وهو تصعيد مرفوض من الشيعة العرب قبل السنة لانهم اثبتوا في محطات تاريخية مفصلية ان ولاءهم لا يتزحزح لوحدة الارض والمجتمع، ولان لا مشروع لديهم خارج مشروع الدولة، ولانهم لا يريدون ان يجدوا انفسهم احجارا على رقعة شطرنج طالما اجاد التراث السياسي الايراني لعبها، ولانهم يرفضون تكريس لعبة مذهبية سيكونون اول ضحاياها حتى ولو كان بعض الشيعة والسنة مستفيدين منها مرحليا.
المزج بين اجتهاد فقهي وولاء سياسي هو الظاهرة التي على الشيعة العرب قبل غيرهم مواجهتها، فالرد على التطرف لا يكون الا بمزيد من الاعتدال، واتساع حقول الاعتدال ينبت عقلانية اكبر وانصهارا اقوى وتغليبا افضل لمنطق الدولة على حساب الدويلات... المخفي منها والظاهر.
هذا المزج، على قوة ابعاده فكريا وانتمائيا، يبدأ بالاقتناع اختيارا وينتهي بالاستسلام خيارا. فهو يقودك مثلا الى التصفيق لمحاربة «الشيطان الاكبر» ثم التصفيق لـ «ايران غيت» واعتبار التعاون مع «الشيطان الاكبر» وجهة نظر. والتصفيق للتبشير بقرب زوال اسرائيل وابادتها ثم التصفيق لاعتبار الشعب الاسرائيلي شعبا صديقا. والتصفيق لاعتبار انظمة الحكم في الخليج قاعدة لتعاون استراتيجي اقليمي تاريخي ثم التصفيق لدعوات تغيير هذه الانظمة.
... رحم الله الشيخ شمس الدين.