ادعاء كل منهما بأحقيته في تملك الأرض أطلق تهديدات متبادلة بين «جمهورية سيلستينيا» و«مملكة إنكلافا»!
«الدويلات المتناهية الصِغَر» ... هل تُطلق شرارة حروب تفتيت أوروبا والعالم؟
رئيس «ليبرلاند»... (الرابع من اليمين في الصف الأمامي) متوسطاً عدداً من مواطني دويلته
صورة لـ«الملك إنكلاف الأول» في الموقع الرسمي لمملكته
«وزير خارجية سيليستنيا» أندري جوس
• «عش ودع الآخرين يعيشون» شعار «ليبرلاند» التي يضمن دستورها لمواطنيها حياة خالية من التداخلات السياسية
• «سيليستنيا» أعلنت استقلالها أبريل الماضي وأرسلت إخطارات في شأن حدود أراضيها إلى حكومتي كرواتيا وصربيا
• «سيليستنيا» أعلنت استقلالها أبريل الماضي وأرسلت إخطارات في شأن حدود أراضيها إلى حكومتي كرواتيا وصربيا
ومازال يتعين على دويلة سيلستينيا الناشئة أن تعلن عن هوية حاكمها وعن أعضاء حكومتها وعن نظام حكمها بشكل عام
للوهلة الأولى قد يبدو الأمر طريفاً، أو أقرب إلى الطرافة والهزل منه إلى الجد، لكن نظرة واحدة متفحصة إليه تكشف عن أنه أمر بالغ الجدية والأهمية إلى درجة أنه قد يؤدي مستقبلاً إلى تغيير الخريطة السياسية لقارة أوروبا، بل وربما العالم بأكمله!
فقبل بضعة أسابيع، تم الإعلان عن إقامة دويلة متناهية الصغر تحت اسم «جمهورية سيلستينيا» على رقعة أرض من المفترض أنها ليست تابعة سيادياً لأي دولة، وهي الرقعة التي تقع بين الحدود الكرواتية والصربية وتبلغ مساحتها أقل من ثُلث كيلومتر مربع. وما أن انتشر خبر إقامة «سيليستنيا» حتى سارع مئات الآلاف من الأشخاص من شتى أرجاء العالم إلى تقديم طلبات عبر الانترنت للانضمام كمواطنين إلى تلك الدويلة المتناهية الصغر الجديدة التي وضع مؤسسها شروطاً صارمة للحصول على جنسيتها.
لكن لم تمر سوى أيام قليلة على ذلك الإعلان حتى ظهرت دويلة جديدة أخرى متناهية الصغر تطلق على نفسها اسم «مملكة إنكلافا» وأعلنت أنها قد قررت وضع يدها على رقعة الأرض ذاتها التي أعلنت «سيلستينيا» إقامة دولتها عليها.
فما قصة وخلفيات ذلك الصراع بين الدويلتين الناشئتين؟ وما هو تاريخ «الدويلات المتناهية الصغر» (Microstates) التي بدأت في ستينات القرن العشرين في أوروبا تحديداً واستمرت في النمو منذ ذلك الحين؟ وما مدى واقعية مخاوف بعض المحللين والمراقبين السياسيين الذين باتوا لا يستبعدون في ظل تزايد سطوة قوانين حقوق الإنسان في أوروبا أن تتحول فكرة تلك الدويلات إلى نزعة جامحة تجتاح أوروبا تدريجياً بحيث يصل الأمر إلى أن تطالب كل مجموعة من الناس ذوي الميول المتشابهة (كالملحدين أو المثليين أو اليمينيين المتطرفين أو الأناركيين مثلا) بحقهم في إنشاء دويلة متناهية الصغر خاصة بهم، إلى درجة أن ذلك الأمر قد يتسبب عند مرحلة معينة في إطلاق شرارة حروب ربما تؤدي في نهاية المطاف إلى تفتيت أوروبا - وربما العالم - إلى دويلات متناهية الصغر لا تزيد مساحات معظمها عن بضعة كيلومترات مربعة؟
في التالي نسلط الضوء على هذه القضية من خلال ترجمة بتصرف لعدد من التحقيقات الصحافية التي نشرتها أخيرا وسائل إعلام غربية:
تاريخيا، تعتبر منطقة البلقان من بين «أتعس» المناطق في أوروبا، إذ إن الصراعات والحروب مزقتها تمزيقاً عبر القرون.
وها هو «صراع» جديد بين دويلتين بدأ يطل برأسه أخيرا على المنطقة، وذلك على الرغم من أنه ليس من المرجح لذلك الصراع - حتى الآن - أن يثير سوى «جحافل» من رسائل الإيميل والمشاحنات الغاضبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا أن يثير حرباً تقليدية شاملة بين الدويلتين المنخرطتين فيه!
فبتاريخ 23 أبريل الماضي، كانت دويلة «متناهية الصغر» جديدة تطلق على نفسها اسم «مملكة إنكلافا» قد وضعت يدها على جزء من أرض محايدة تقع في منطقة حدودية بين جمهوريتي سلوفينيا وكرواتيا، وهي الأرض التي تبلغ مساحتها 100 متر مربع فقط وتوجد على مقربة من بلدة ميتليكا السلوفينية التي تبعد مسافة 45 كيلومتراً تقريباً عن العاصمة الكرواتية زغرب.
تلك الأرض كانت قد تُركت بموجب اتفاق ديبلوماسي باعتبارها أرضاً غير تابعة لأي دولة في أعقاب انقسام يوغسلافيا إلى دول عدة في العام 1991، فقرر سائح بولندي يدعى بيوتر فارفرجنكيوفيتش أن يضع يده على تلك الرقعة الصغيرة وأعلن تأسيس دولته المتناهية الصغر عليها!
وما إن انتشر خبر تأسيس الدويلة المتناهية الصغر الجديدة عبر شبكات التواصل الاجتماعي حتى بادر نحو 5 آلاف شخص إلى تسجيل طلبات للحصول على جنسيتها، لكن تلك «الدويلة» الناشئة سرعان ما مُحيت بعد ذلك بفترة قصيرة عندما أعلنت وزارة الخارجية السلوفينية أن تلك الأرض تابعة لسيادة سلوفينيا.
لكن فارفرجنكيوفيتش - الذي أطلق على نفسه لقب «الملك إنكلاف الأول» – لم يستسلم لواقع اختفاء حلم دولته بين عشية وضحاها، فقرر أن ينتقل بحلمه لمسافة 335 كيلومترا نحو الشرق حيث أعلن وضع يده على رقعة أرض أخرى ليست تابعة سيادياً لأي دولة، وهي الرقعة التي تقع بين الحدود الكرواتية الصربية وتبلغ مساحتها نحو 300 ألف متر مربع.
لكن ما لم ينتبه إليه «الملك إنكلاف» هو أن دويلة متناهية الصغر أخرى تدعى «سيلستينيا» كانت قد سبقته ووضعت يدها على تلك الرقعة تحديدا قبله بنحو شهر.
والمثير في الأمر هو أن «سيلستينيا» هددت بإعلان الحرب دفاعاً عن أراضيها، إذ قال وزير الشؤون الخارجية للدويلة الناشئة، إندري جوس، إن «شعبه» مستعد لخوض حرب ضد أولئك المعتدين إذا لزم الأمر!
جوس، الذي يعمل فني تكنولوجيا معلومات، قال لصحيفة ديلي ميل: «يا لها من خطوة سيئة أن يتم تجاهل القانون والجماعات الأخرى في هذا الوضع. هذه الحرب لا تعني مدافع أو قنابل، لكن إذا حاولوا احتلال أرضنا واستيطانيها، فإننا سنتصدى لهم بأن ندمر مواردهم الحيوانية والطبيعية».
والواقع أن هاتين الدويلتين – «مملكة إنكلافا» و«جمهورية سيلستينيا» – ليستا سوى أحدث كيانين في إطار سلسلة من الدول والكيانات السياسية المتناهية الصغر التي أعلنت عن تأسيس أنفسها في أرجاء أوروبا على رقع من الأراضي المحايدة سياسياً أو المتنازع عليها بين دولتين متجاورتين، إلا أن أياً من تلك الكيانات لم يتم الاعتراف به رسميا حتى الآن من جانب أي حكومة حول العالم.
فرُقعة الأرض، المتازع عليها حاليا بين «مملكة إنكلافا» ودويلة «سيلستينيا»، توجد على مرمى حجر من كيان سياسي ناشئ ثالث يطلق على نفسه اسم دولة «ليبرلاند»، وهو عبارة عن دويلة متناهية الصغر كانت قد أعلنت عن قيامها قبل بضعة أسابيع على مساحة أكبر حجما تبلغ 7 كيلومترات مربعة، وهي المساحة التي تزيد على مساحتي إمارة موناكو وحاصرة الفاتيكان مجتمعتين! ووفقا للموقع الالكتروني الرسمي الخاص بدويلة «ليبرلاند»، فإنه تم تأسيسها بتاريخ 13 أبريل 2015 على يد شخص يدعى «فيت جيدليتشكا» تحت شعار «عش ودع الآخرين يعيشون» ووضع لها دستورا يضمن لمواطنيها حياة خالية من التداخلات السياسية.
ووفقا لما جاء في مقابلة أجرتها معه صحيفة «روسيا اليوم» قال جيدليتشكا إن 330 ألف شخص تقدموا حتى الآن بطلبات للحصول على جنسية دولته المتناهية الصغر الجديدة، مشيرا إلى أن 34 ألفاً من بينهم تنطبق عليهم المعايير اللازمة كي يكونوا مواطنين صالحين في تلك الدويلة.
وفي إطار استعراض سياساته التي يعتزم تطبيقها في دويلته المرتقبة قال جيدليتشكا إنه يؤيد سياسات التجارة الحرة بين الدول الأوروبية، لكنه في الوقت ذاته يعارض الاتحاد الأوروبي كمنظمة، مشيرا إلى أنه يطمح إلى أن تكون دويلته «ليبرلاند» ملاذاً ضرائبياً يسمح فيه للناس بإنفاق أموالهم كما يروق لهم دون أي تدخل من جانب حكومة الدولة.
وفي الوقت ذاته فإن إندري جوس يزعم من جانبه أن دويلته (سيلستينيا) أعلنت استقلالها بتاريخ 24 أبريل 2015 وأرسلت إخطارات في شأن حدود أراضيها إلى الحكومتين الكرواتية والصربية عقب ذلك بيومين.
ولازال يتعين على دويلة سيلستينيا الناشئة أن تعلن عن هوية حاكمها وعن أعضاء حكومتها وعن نظام حكمها بشكل عام.
وفي سياق حديثه عن النزاع الحالي على الأرض بين مملكة إنكلافا ودويلة سيلستينيا قال جوس: «إنه وضع محزن جدا. فمن الواضح أن مملكة إنكلافا ليست سوى نكتة سمجة. فعلى عكس ليبرلاند وسيلستينيا، نلاحظ أن مؤسسي إنكلافا يلعبون لعبة سخيفة وليس لديهم الحماسة والشجاعة اللازمتين لبلوغ أهدافهم».
وأضاف: «لقد حاولنا أن نتواصل معهم، لكنهم رفضوا التعاون معنا. لقد وصلنا إلى تلك الأرض قبلهم، ولدينا وثائق رسمية تثبت ذلك. والواقع أننا أصحاب الزعم الشرعي الوحيد في هذا الوضع».
ومشيرا إلى صورة لخصمه الملك إنكلاف الأول على موقع مملكته المزعومة، وهي الصورة التي يبدو فيها معتمراً تاجاً ذهبياً، أضاف جوس قائلا: «نحن طرحنا فكرة دولتنا أولاً على الأرض، بينما مثل ذلك الشخص الذي وضع تاجاً على رأسه بتقنية الفوتوشوب قام بنقل دولته من منطقة إلى منطقة أخرى في أوروبا».
لكن ما زال يتعين على مواطني دويلة سيلستينيا أن يستوطنوا دولتهم الجديدة إلى ما هو أبعد من مجرد غرس بضعة أعلام وتثبيت لافتات على أشجار للإعلان عن أن تلك الأرض تابعة لسلطانهم «باسم القانون الدولي والأعراف العالمية».
وتعليقا على ذلك قال جوس: «لدينا الموارد البشرية والشجاعة اللازمة للاستيطان في تلك الأرض، لكننا لا نملك الموارد المالية الكافية حتى الآن. مازلنا في انتظار رؤوس أموال المستثمرين».
وأوضح جوس أن اسم دويلة «سيلستينيا» مشتق من كلمة «celestial» التي تعني «سماوي» أو «من السماء»، مضيفا بالقول: «نحن أساساً من هنغاريا لكننا نريد في دولتنا الجديدة مواطنين من جميع أرجاء العالم. نريد مجتمعاً صحياً وقوياً، ليس فقط من ناحية نمط الحياة، بل أيضا من ناحية التفكير».
وحول شكل نظام الحكم في سيلستينيا قال جوس: «كفانا قوانين وضرائب لا معنى لها. لا نريد أن نعيش بعد الآن بلا حول ولا قوة أمام الشركات العملاقة متعددة الجنسيات والأحزاب السياسية أو حتى جماعات المصالح والضغط».
واختتم جوس تصريحاته بالقول: «باختصار، نحن لا نريد أن نعيش بين حروب أهلية مستمرة... بل نريد استقلالاً كاملاً وحياة مليئة بالسلام والتقدم».
أشهر الدويلات المتناهية الصغر
النزاع الذي ثار أخيراً بين دويلة «جمهورية سيليستنيا» و«مملكة إنكلاف» الناشئتين حديثاً أعاد إلى الأذهان تاريخ دويلات أخرى متناهية الصغر أعلنت استقلالها بشكل أو بآخر ابتداء من ستينات القرن العشرين. وفي التالي نعرض بإيجاز أبرز تلك الدويلات التي ما زالت تتصرف ككيانات سياسية مستقلة وذات سيادة:
دويلة «ليبرلاند»
تأسست «دويلة ليبرلاند» ذات السيادة على يد سياسي تشيكي يدعى فيت جيدليتشكا، وهو عضو في «حزب المواطنين الأحرار» المحافظ في جمهورية التشيك.
مؤسس الدويلة أعلن نفسه حاكماً لها ويخطط حالياً لجعل الضرائب طواعية واستخدام عملة البيتكوين الالكترونية كعملة رسمية لدويلته. في غضون الأسبوع الذي تلا الإعلان عن تأسيسها وفتح باب التقدم بطلبات الحصول على جنسيتها في أبريل الماضي، تلقت دويلة ليبرلاند نحو 200 ألف طلب وذلك بمعدل طلب كل 3 ثوانٍ من شتى أرجاء العالم.
دويلة «واهنغامومونا»
بسبب شعورهم بالإحباط الشديد إزاء القوانين المحلية، قرر سكان بلدة صغيرة جداً قريبة من مدينة ستراتفورد النيوزيلندية في العام 1989 أن يستقلوا ببلدتهم وأن يطلقوا عليها اسم «جمهورية واهنغامومونا».
ومنذ ذلك الحين دأبت البلدة-الجمهورية على إجراء انتخابات رئاسية خاصة بها كما أنها تصدر جوازات سفر لمواطنيها، الذين بات تعدادهم 30 نسمة فقط!
وتحتفل جمهورية واهنغامومونا بعيدها الوطني مرة كل سنتين في شهر يناير وسط احتفالات حاشدة يشارك فيها آلاف من السياح الذين يتوافدون من شتى أرجاء العالم.
دويلة «فريتاون كريستيانا»
«كريستيانا» كان اسم إحدى ضواحي مدينة كوبنهاغن، وهي الضاحية التي أسسها مجموعة من الهيبيز في العام 1971 بعد أن استولوا على منطقة عسكرية مهجورة وأطلقوا عليها «فريتاون كريستيانا». وتم الإعلان آنذاك عن أن تلك المنطقة تحديداً هي مكان بديل خالٍ من الضرائب وتتم إدارته من خلال قوانين وقواعد يضعها السكان بأنفسهم. ومع تزايد انتشار أخبار تلك الضاحية شبه المستقلة سياسياً، بدأ مستوطنون جدد في التوافد إليها، ويقطن فيها حاليا نحو 1000 «مواطن» بشكل دائم.
ودأبت دويلة فريتاون كريستيانا على إنشاء مقومات استقلالها، بما في ذلك عدد من المصانع والمدارس والمحاكم والمتاحف والمسارح والمعارض الفنية.
ومنذ تأسيسها، دخلت الدويلة في مصادمات عدة مع السلطات الرسمية الدنماركية، إلى أن قررت الحكومة في العام 2012 التوصل إلى حل نهائي لأسباب المصادمات وذلك من خلال بيع أراضي المنطقة لسكانها، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاعات حادة في أسعار الأراضي هناك.
«إمارة سيلاند»
أطلق البريطاني «بادي روي بيتس» على نفسه لقب «الأمير» بعد أن أعلن عن تأسيس «إمارة سيلاند» على أرض غير مستخدمة توجد في المياه الدولية قبالة شواطئ انكلترا وكانت في ما سبق موقعاً عسكرياً خلال الحرب العالمية الثانية.
بيتس كان قد استلهم الفكرة بعد أن أسس محطة إذاعية خاصة به على جزيرة مهجورة في الستينات. وعلى الرغم من إقدام الحكومة البريطانية آنذاك على إغلاق تلك المحطة، فإن بيتس لم يتراجع عن فكرته وانتقل إلى قلعة بحرية مهجورة في جزيرة «فورت رافز» في العام 1966 حيث أصدرت الحكومة إليه أمراً بمغادرة الجزيرة لكنه لم ينفذ الأمر وقام بدلاً عن ذلك بإعلان استقلالها عن بريطانيا ليصبح اسمها «إمارة سيلاند» وصمم لها علماً خاصاً بها تحت حكمه وأطلق على نفسه لقب «الأمير روي».
وحاليا تحقق إمارة سيلاند إيرادات معتبرة من خلال استضافة سيرفرات الإنترنت ومن خلال بيع الألقاب الأرستقراطية.
«إمارة سيبورغا»
توجد بلدة سيبورغا في شمال غرب إيطاليا ويبلغ تعداد سكانها نحو 350 نسمة بينما تبلغ مساحتها الإجمالية 14 كيلو متراً مربعاً.
كانت تلك البلدة تابعة لحماية بابا الفاتيكان خلال حقبة الامبراطورية المقدسة وحتى العام 1079، لكنها خرجت بعد ذلك من خريطة تلك الحماية حتى ستينات القرن العشرين عندما قرر عالم نباتات محلي يدعى غورغيو كاربوني أن يعلن عن استقلالها تاريخياً كإمارة غير خاضعة لسيادة أي دولة أخرى.
لكن كاربوني توفي في العام 2009، ويخطط خليفته مارسيلو مينيغاتو حالياً لإنشاء ملعب للغولف وفندق فخم في المنطقة.
للوهلة الأولى قد يبدو الأمر طريفاً، أو أقرب إلى الطرافة والهزل منه إلى الجد، لكن نظرة واحدة متفحصة إليه تكشف عن أنه أمر بالغ الجدية والأهمية إلى درجة أنه قد يؤدي مستقبلاً إلى تغيير الخريطة السياسية لقارة أوروبا، بل وربما العالم بأكمله!
فقبل بضعة أسابيع، تم الإعلان عن إقامة دويلة متناهية الصغر تحت اسم «جمهورية سيلستينيا» على رقعة أرض من المفترض أنها ليست تابعة سيادياً لأي دولة، وهي الرقعة التي تقع بين الحدود الكرواتية والصربية وتبلغ مساحتها أقل من ثُلث كيلومتر مربع. وما أن انتشر خبر إقامة «سيليستنيا» حتى سارع مئات الآلاف من الأشخاص من شتى أرجاء العالم إلى تقديم طلبات عبر الانترنت للانضمام كمواطنين إلى تلك الدويلة المتناهية الصغر الجديدة التي وضع مؤسسها شروطاً صارمة للحصول على جنسيتها.
لكن لم تمر سوى أيام قليلة على ذلك الإعلان حتى ظهرت دويلة جديدة أخرى متناهية الصغر تطلق على نفسها اسم «مملكة إنكلافا» وأعلنت أنها قد قررت وضع يدها على رقعة الأرض ذاتها التي أعلنت «سيلستينيا» إقامة دولتها عليها.
فما قصة وخلفيات ذلك الصراع بين الدويلتين الناشئتين؟ وما هو تاريخ «الدويلات المتناهية الصغر» (Microstates) التي بدأت في ستينات القرن العشرين في أوروبا تحديداً واستمرت في النمو منذ ذلك الحين؟ وما مدى واقعية مخاوف بعض المحللين والمراقبين السياسيين الذين باتوا لا يستبعدون في ظل تزايد سطوة قوانين حقوق الإنسان في أوروبا أن تتحول فكرة تلك الدويلات إلى نزعة جامحة تجتاح أوروبا تدريجياً بحيث يصل الأمر إلى أن تطالب كل مجموعة من الناس ذوي الميول المتشابهة (كالملحدين أو المثليين أو اليمينيين المتطرفين أو الأناركيين مثلا) بحقهم في إنشاء دويلة متناهية الصغر خاصة بهم، إلى درجة أن ذلك الأمر قد يتسبب عند مرحلة معينة في إطلاق شرارة حروب ربما تؤدي في نهاية المطاف إلى تفتيت أوروبا - وربما العالم - إلى دويلات متناهية الصغر لا تزيد مساحات معظمها عن بضعة كيلومترات مربعة؟
في التالي نسلط الضوء على هذه القضية من خلال ترجمة بتصرف لعدد من التحقيقات الصحافية التي نشرتها أخيرا وسائل إعلام غربية:
تاريخيا، تعتبر منطقة البلقان من بين «أتعس» المناطق في أوروبا، إذ إن الصراعات والحروب مزقتها تمزيقاً عبر القرون.
وها هو «صراع» جديد بين دويلتين بدأ يطل برأسه أخيرا على المنطقة، وذلك على الرغم من أنه ليس من المرجح لذلك الصراع - حتى الآن - أن يثير سوى «جحافل» من رسائل الإيميل والمشاحنات الغاضبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا أن يثير حرباً تقليدية شاملة بين الدويلتين المنخرطتين فيه!
فبتاريخ 23 أبريل الماضي، كانت دويلة «متناهية الصغر» جديدة تطلق على نفسها اسم «مملكة إنكلافا» قد وضعت يدها على جزء من أرض محايدة تقع في منطقة حدودية بين جمهوريتي سلوفينيا وكرواتيا، وهي الأرض التي تبلغ مساحتها 100 متر مربع فقط وتوجد على مقربة من بلدة ميتليكا السلوفينية التي تبعد مسافة 45 كيلومتراً تقريباً عن العاصمة الكرواتية زغرب.
تلك الأرض كانت قد تُركت بموجب اتفاق ديبلوماسي باعتبارها أرضاً غير تابعة لأي دولة في أعقاب انقسام يوغسلافيا إلى دول عدة في العام 1991، فقرر سائح بولندي يدعى بيوتر فارفرجنكيوفيتش أن يضع يده على تلك الرقعة الصغيرة وأعلن تأسيس دولته المتناهية الصغر عليها!
وما إن انتشر خبر تأسيس الدويلة المتناهية الصغر الجديدة عبر شبكات التواصل الاجتماعي حتى بادر نحو 5 آلاف شخص إلى تسجيل طلبات للحصول على جنسيتها، لكن تلك «الدويلة» الناشئة سرعان ما مُحيت بعد ذلك بفترة قصيرة عندما أعلنت وزارة الخارجية السلوفينية أن تلك الأرض تابعة لسيادة سلوفينيا.
لكن فارفرجنكيوفيتش - الذي أطلق على نفسه لقب «الملك إنكلاف الأول» – لم يستسلم لواقع اختفاء حلم دولته بين عشية وضحاها، فقرر أن ينتقل بحلمه لمسافة 335 كيلومترا نحو الشرق حيث أعلن وضع يده على رقعة أرض أخرى ليست تابعة سيادياً لأي دولة، وهي الرقعة التي تقع بين الحدود الكرواتية الصربية وتبلغ مساحتها نحو 300 ألف متر مربع.
لكن ما لم ينتبه إليه «الملك إنكلاف» هو أن دويلة متناهية الصغر أخرى تدعى «سيلستينيا» كانت قد سبقته ووضعت يدها على تلك الرقعة تحديدا قبله بنحو شهر.
والمثير في الأمر هو أن «سيلستينيا» هددت بإعلان الحرب دفاعاً عن أراضيها، إذ قال وزير الشؤون الخارجية للدويلة الناشئة، إندري جوس، إن «شعبه» مستعد لخوض حرب ضد أولئك المعتدين إذا لزم الأمر!
جوس، الذي يعمل فني تكنولوجيا معلومات، قال لصحيفة ديلي ميل: «يا لها من خطوة سيئة أن يتم تجاهل القانون والجماعات الأخرى في هذا الوضع. هذه الحرب لا تعني مدافع أو قنابل، لكن إذا حاولوا احتلال أرضنا واستيطانيها، فإننا سنتصدى لهم بأن ندمر مواردهم الحيوانية والطبيعية».
والواقع أن هاتين الدويلتين – «مملكة إنكلافا» و«جمهورية سيلستينيا» – ليستا سوى أحدث كيانين في إطار سلسلة من الدول والكيانات السياسية المتناهية الصغر التي أعلنت عن تأسيس أنفسها في أرجاء أوروبا على رقع من الأراضي المحايدة سياسياً أو المتنازع عليها بين دولتين متجاورتين، إلا أن أياً من تلك الكيانات لم يتم الاعتراف به رسميا حتى الآن من جانب أي حكومة حول العالم.
فرُقعة الأرض، المتازع عليها حاليا بين «مملكة إنكلافا» ودويلة «سيلستينيا»، توجد على مرمى حجر من كيان سياسي ناشئ ثالث يطلق على نفسه اسم دولة «ليبرلاند»، وهو عبارة عن دويلة متناهية الصغر كانت قد أعلنت عن قيامها قبل بضعة أسابيع على مساحة أكبر حجما تبلغ 7 كيلومترات مربعة، وهي المساحة التي تزيد على مساحتي إمارة موناكو وحاصرة الفاتيكان مجتمعتين! ووفقا للموقع الالكتروني الرسمي الخاص بدويلة «ليبرلاند»، فإنه تم تأسيسها بتاريخ 13 أبريل 2015 على يد شخص يدعى «فيت جيدليتشكا» تحت شعار «عش ودع الآخرين يعيشون» ووضع لها دستورا يضمن لمواطنيها حياة خالية من التداخلات السياسية.
ووفقا لما جاء في مقابلة أجرتها معه صحيفة «روسيا اليوم» قال جيدليتشكا إن 330 ألف شخص تقدموا حتى الآن بطلبات للحصول على جنسية دولته المتناهية الصغر الجديدة، مشيرا إلى أن 34 ألفاً من بينهم تنطبق عليهم المعايير اللازمة كي يكونوا مواطنين صالحين في تلك الدويلة.
وفي إطار استعراض سياساته التي يعتزم تطبيقها في دويلته المرتقبة قال جيدليتشكا إنه يؤيد سياسات التجارة الحرة بين الدول الأوروبية، لكنه في الوقت ذاته يعارض الاتحاد الأوروبي كمنظمة، مشيرا إلى أنه يطمح إلى أن تكون دويلته «ليبرلاند» ملاذاً ضرائبياً يسمح فيه للناس بإنفاق أموالهم كما يروق لهم دون أي تدخل من جانب حكومة الدولة.
وفي الوقت ذاته فإن إندري جوس يزعم من جانبه أن دويلته (سيلستينيا) أعلنت استقلالها بتاريخ 24 أبريل 2015 وأرسلت إخطارات في شأن حدود أراضيها إلى الحكومتين الكرواتية والصربية عقب ذلك بيومين.
ولازال يتعين على دويلة سيلستينيا الناشئة أن تعلن عن هوية حاكمها وعن أعضاء حكومتها وعن نظام حكمها بشكل عام.
وفي سياق حديثه عن النزاع الحالي على الأرض بين مملكة إنكلافا ودويلة سيلستينيا قال جوس: «إنه وضع محزن جدا. فمن الواضح أن مملكة إنكلافا ليست سوى نكتة سمجة. فعلى عكس ليبرلاند وسيلستينيا، نلاحظ أن مؤسسي إنكلافا يلعبون لعبة سخيفة وليس لديهم الحماسة والشجاعة اللازمتين لبلوغ أهدافهم».
وأضاف: «لقد حاولنا أن نتواصل معهم، لكنهم رفضوا التعاون معنا. لقد وصلنا إلى تلك الأرض قبلهم، ولدينا وثائق رسمية تثبت ذلك. والواقع أننا أصحاب الزعم الشرعي الوحيد في هذا الوضع».
ومشيرا إلى صورة لخصمه الملك إنكلاف الأول على موقع مملكته المزعومة، وهي الصورة التي يبدو فيها معتمراً تاجاً ذهبياً، أضاف جوس قائلا: «نحن طرحنا فكرة دولتنا أولاً على الأرض، بينما مثل ذلك الشخص الذي وضع تاجاً على رأسه بتقنية الفوتوشوب قام بنقل دولته من منطقة إلى منطقة أخرى في أوروبا».
لكن ما زال يتعين على مواطني دويلة سيلستينيا أن يستوطنوا دولتهم الجديدة إلى ما هو أبعد من مجرد غرس بضعة أعلام وتثبيت لافتات على أشجار للإعلان عن أن تلك الأرض تابعة لسلطانهم «باسم القانون الدولي والأعراف العالمية».
وتعليقا على ذلك قال جوس: «لدينا الموارد البشرية والشجاعة اللازمة للاستيطان في تلك الأرض، لكننا لا نملك الموارد المالية الكافية حتى الآن. مازلنا في انتظار رؤوس أموال المستثمرين».
وأوضح جوس أن اسم دويلة «سيلستينيا» مشتق من كلمة «celestial» التي تعني «سماوي» أو «من السماء»، مضيفا بالقول: «نحن أساساً من هنغاريا لكننا نريد في دولتنا الجديدة مواطنين من جميع أرجاء العالم. نريد مجتمعاً صحياً وقوياً، ليس فقط من ناحية نمط الحياة، بل أيضا من ناحية التفكير».
وحول شكل نظام الحكم في سيلستينيا قال جوس: «كفانا قوانين وضرائب لا معنى لها. لا نريد أن نعيش بعد الآن بلا حول ولا قوة أمام الشركات العملاقة متعددة الجنسيات والأحزاب السياسية أو حتى جماعات المصالح والضغط».
واختتم جوس تصريحاته بالقول: «باختصار، نحن لا نريد أن نعيش بين حروب أهلية مستمرة... بل نريد استقلالاً كاملاً وحياة مليئة بالسلام والتقدم».
أشهر الدويلات المتناهية الصغر
النزاع الذي ثار أخيراً بين دويلة «جمهورية سيليستنيا» و«مملكة إنكلاف» الناشئتين حديثاً أعاد إلى الأذهان تاريخ دويلات أخرى متناهية الصغر أعلنت استقلالها بشكل أو بآخر ابتداء من ستينات القرن العشرين. وفي التالي نعرض بإيجاز أبرز تلك الدويلات التي ما زالت تتصرف ككيانات سياسية مستقلة وذات سيادة:
دويلة «ليبرلاند»
تأسست «دويلة ليبرلاند» ذات السيادة على يد سياسي تشيكي يدعى فيت جيدليتشكا، وهو عضو في «حزب المواطنين الأحرار» المحافظ في جمهورية التشيك.
مؤسس الدويلة أعلن نفسه حاكماً لها ويخطط حالياً لجعل الضرائب طواعية واستخدام عملة البيتكوين الالكترونية كعملة رسمية لدويلته. في غضون الأسبوع الذي تلا الإعلان عن تأسيسها وفتح باب التقدم بطلبات الحصول على جنسيتها في أبريل الماضي، تلقت دويلة ليبرلاند نحو 200 ألف طلب وذلك بمعدل طلب كل 3 ثوانٍ من شتى أرجاء العالم.
دويلة «واهنغامومونا»
بسبب شعورهم بالإحباط الشديد إزاء القوانين المحلية، قرر سكان بلدة صغيرة جداً قريبة من مدينة ستراتفورد النيوزيلندية في العام 1989 أن يستقلوا ببلدتهم وأن يطلقوا عليها اسم «جمهورية واهنغامومونا».
ومنذ ذلك الحين دأبت البلدة-الجمهورية على إجراء انتخابات رئاسية خاصة بها كما أنها تصدر جوازات سفر لمواطنيها، الذين بات تعدادهم 30 نسمة فقط!
وتحتفل جمهورية واهنغامومونا بعيدها الوطني مرة كل سنتين في شهر يناير وسط احتفالات حاشدة يشارك فيها آلاف من السياح الذين يتوافدون من شتى أرجاء العالم.
دويلة «فريتاون كريستيانا»
«كريستيانا» كان اسم إحدى ضواحي مدينة كوبنهاغن، وهي الضاحية التي أسسها مجموعة من الهيبيز في العام 1971 بعد أن استولوا على منطقة عسكرية مهجورة وأطلقوا عليها «فريتاون كريستيانا». وتم الإعلان آنذاك عن أن تلك المنطقة تحديداً هي مكان بديل خالٍ من الضرائب وتتم إدارته من خلال قوانين وقواعد يضعها السكان بأنفسهم. ومع تزايد انتشار أخبار تلك الضاحية شبه المستقلة سياسياً، بدأ مستوطنون جدد في التوافد إليها، ويقطن فيها حاليا نحو 1000 «مواطن» بشكل دائم.
ودأبت دويلة فريتاون كريستيانا على إنشاء مقومات استقلالها، بما في ذلك عدد من المصانع والمدارس والمحاكم والمتاحف والمسارح والمعارض الفنية.
ومنذ تأسيسها، دخلت الدويلة في مصادمات عدة مع السلطات الرسمية الدنماركية، إلى أن قررت الحكومة في العام 2012 التوصل إلى حل نهائي لأسباب المصادمات وذلك من خلال بيع أراضي المنطقة لسكانها، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاعات حادة في أسعار الأراضي هناك.
«إمارة سيلاند»
أطلق البريطاني «بادي روي بيتس» على نفسه لقب «الأمير» بعد أن أعلن عن تأسيس «إمارة سيلاند» على أرض غير مستخدمة توجد في المياه الدولية قبالة شواطئ انكلترا وكانت في ما سبق موقعاً عسكرياً خلال الحرب العالمية الثانية.
بيتس كان قد استلهم الفكرة بعد أن أسس محطة إذاعية خاصة به على جزيرة مهجورة في الستينات. وعلى الرغم من إقدام الحكومة البريطانية آنذاك على إغلاق تلك المحطة، فإن بيتس لم يتراجع عن فكرته وانتقل إلى قلعة بحرية مهجورة في جزيرة «فورت رافز» في العام 1966 حيث أصدرت الحكومة إليه أمراً بمغادرة الجزيرة لكنه لم ينفذ الأمر وقام بدلاً عن ذلك بإعلان استقلالها عن بريطانيا ليصبح اسمها «إمارة سيلاند» وصمم لها علماً خاصاً بها تحت حكمه وأطلق على نفسه لقب «الأمير روي».
وحاليا تحقق إمارة سيلاند إيرادات معتبرة من خلال استضافة سيرفرات الإنترنت ومن خلال بيع الألقاب الأرستقراطية.
«إمارة سيبورغا»
توجد بلدة سيبورغا في شمال غرب إيطاليا ويبلغ تعداد سكانها نحو 350 نسمة بينما تبلغ مساحتها الإجمالية 14 كيلو متراً مربعاً.
كانت تلك البلدة تابعة لحماية بابا الفاتيكان خلال حقبة الامبراطورية المقدسة وحتى العام 1079، لكنها خرجت بعد ذلك من خريطة تلك الحماية حتى ستينات القرن العشرين عندما قرر عالم نباتات محلي يدعى غورغيو كاربوني أن يعلن عن استقلالها تاريخياً كإمارة غير خاضعة لسيادة أي دولة أخرى.
لكن كاربوني توفي في العام 2009، ويخطط خليفته مارسيلو مينيغاتو حالياً لإنشاء ملعب للغولف وفندق فخم في المنطقة.