الإيطالية المولد الشابة من الداخل... والعجوز من الخارج
ليديا القطان تحاكي الكون من القادسية... بـ 91 طناً من المرايا
ليديا القطان
المرايا تغطي الحمام
أعمال الراحل خليفة القطان
القطان... و«مشهد الكون»
المجرّة... كما تراها القطان
القطان متحدثة للزميل طارق ضاهر... وبين يديها أحد الكتب المتآكلة
الباحة الخارجية لـ«بيت المرايا»
«كوكب الأرض»... نقطة الانطلاق
المرايا... خلف أرفف الكتب
«بيت المرايا» من الخارج (تصوير سعد هنداوي)
• العين تعكس الكثير... وتقول الكثير
• عندما تنظر إلى الحياة تدرك أشياء كثيرة... لذلك أخذت آيات من القرآن
• مستعدة للرحيل بكرامتي وبقوتي وأحب أن يتم دفني في الكويت... ما المانع؟!
• هناك من لديهم هدف ويصبحون مجاهدين... ويفسّرون الدين حسب أهوائهم
• انظر ما يحدث في العالم العربي... هذا ليس خياراً لأنه موقف نعيشه وعلينا أن نكون مستعدّين له
• عندما تنظر إلى الحياة تدرك أشياء كثيرة... لذلك أخذت آيات من القرآن
• مستعدة للرحيل بكرامتي وبقوتي وأحب أن يتم دفني في الكويت... ما المانع؟!
• هناك من لديهم هدف ويصبحون مجاهدين... ويفسّرون الدين حسب أهوائهم
• انظر ما يحدث في العالم العربي... هذا ليس خياراً لأنه موقف نعيشه وعلينا أن نكون مستعدّين له
لم تكذب المرآة يوماً... خصوصاً على المرأة. فالعلاقة يصعب على الفلاسفة سبر أغوارها. الكيمياء بينهما قوية، والهمسات بينهما أقوى... همسات عقل، ترتعش ثناياه خوفاً من كلمات تهرب من خانة الجمال، وملامح تشي بالتقدم بالعمر.
«مرايتي يا مرايتي، من أجمل امرأة على وجه الكرة الأرضية؟»... سؤال يرتبط بطفولة استمعت أو قرأت أو حتى شاهدت قصة بياض الثلج، واستقت منها العلاقة بين المرأة والمرآة من جهة، والمرأة والجمال من جهة ثانية. كل هذا في خانة، والعلاقة بين ليديا القطان والمرآة في خانة أخرى. فتلك المرأة الكويتية ذات الأصول الإيطالية، طوّعت المرآة كما تريد هي. كسرت الحاجز النفسي بينهما، تماماَ كما كسرت أول مرآة لتصنع منها ما تحب أن ترى بعينها، لا من خلال الانعكاسات.
هي فلسفة خاصة بفنانة، تزوجت فناناً (التشكيلي الراحل خليفة القطان) ومزجت بيئتها المتوسطية الغربية بثقافة عربية خليجية شرقية خالصة، وعلى مدار أكثر من خمسة وخمسين عاماً صنعت عالماً خاصاً بها، حوّلته إلى متحف فريد من نوعه في الكون. في منطقة القادسية، يقبع منزل يعرّف عن نفسه، وتتفاعل جدرانه مع محيطه. إنه «بيت المرايا»، ذلك المكان الذي ارتأت ليديا القطان أن تمنح من يرغب في دخول عالمه فرصة التجوّل بين مجراته وكواكبه، والاستماع إلى شرح فلسفتها في الحياة، انطلاقاً من تكوّن الحياة، مروراً بالطبيعة، ووصولاً إلى الواقع السياسي الذي يعيشه العالم.
المرايا في كل مكان، تنتشر من الخارج بأشكال مختلفة، كتابات قرآنية ومنحوتات، منها ما هو طائر، ومنها ما يقف على قدميه. وفي الداخل، تتوزع العناوين، ولكل زاوية قصة ترويها صاحبة الأنامل التي صنعت على مدار الأعوام أسطورة من المرايا وزنها 91 طناَ. في ذلك المكان، تنطلق رحلة بناء العلاقة الودية بين صاحبته والضيف، بطقوس امرأة لا ترضى بكلمة «شكراً»، الممتنع صاحبها عن تلقي الضيافة خجلاً. عليه أن يتناول ما وضعته أمامه، وما يتبقى، تحملّه إياه في كيس بلاستيكي.
«لنبدأ بالانعكاس. كل شيء هو انعكاس في كل شيء نراه في الكون، حتى في طريقة تحدثك، إنها انعكاس لشخصيتك». تتحدث ليديا القطان لـ«الراي» عن «بيت المرايا»، وتكمل «الفكرة من هذه المرايا هي أن تعكس كل شيء، هي انعكاس لكل شيء... هي الإبداع في تحويل الفوضى إلى نظام. هذا انعكاس لكل شيء في الحياة وفي الكون وفي النجوم، في كل شيء، وبالطبع في سلوك الإنسان».
تلمع عينا السيدة وهي تسهب في الحديث عن عالمها: «أريد أن أعرف أموراً عن شخص (طريقة تحدثه، طريقة مظهره، كيف يبدو، كيف يتفاعل، خصوصا العينين، والعين تعكس الكثير، تقول الكثير والإخلاص - الصدق في المشاعر)».
هي لا تستطيع قراءة لغة العيون كما تعترف، لكنها تجد أنها تظهر الكثير عنك متى كنت تكذب.
المرأة السبعينية لا تتوقف عن تطوير مواهبها، فبالنسبة إليها «الحياة نفسها تتغير، حتى طريقة التفكير. كل شيء في تغيّر متواصل، كل ثانية، وكل كسر من الثانية هذا جزء من الحياة وجزء من الخلق كله».
كمّ المرايا الممتد في أرجاء المكان، الأرض والجدران وحتى السقف، يدعو إلى سؤال القطان عن العلاقة بين المرأة والمرآة، وكامرأة إلى أي حد تتفاعل مع المرآة، فتجيب بأنها تنظر إليها بطريقة فلسفية. وتتابع «لا أستطيع أن أعبّر عن نفسي بها... ليس عن طريق المرآة، لكن عن طريق الكتابة إن كنت مجهدة، إن كنت أواجه عقبات في الحياة، الميديا محدودة للغاية. إنني أعبّر بالرسم عما أريد أن أقوله، عن نشأة الكون وتطوره، وعن علاقات البشر بعضهم ببعض. المرايا محدودة».
لا يرتبط عمل القطان بالمرايا بحالة مزاجية محددة، بل بالوقت...«عندما أجد الوقت أعمل عليها، وإن لم أجد الوقت فلا أعمل عليها. الأمر لا علاقة له بكوني في حالة نفسية إيجابية أو سلبية».
أما عن السنوات التي قضتها وهي تعمل مع المرايا، وانعكاس وجهها عليها، فتقول «أرى تغيراً كما تعلم. يا إلهي، إنني أشيخ. من الداخل أنا شابة ومن الخارج أنا عجوز للغاية».
«لكن الشباب بالروح»، نقول لها، فتجيب بابتسامة طفل «هذا ما أعنيه، الروح شابة، لكن الجسم يتدهور، فتدرك ذلك وهذا يؤذيك بطبيعة الحال، وتظل تفكر في الصحة التي كانت لديك، وفي الوقت نفسه أنت تسعى لمواصلة حياتك. إنني حققت رسالتي، وأنا مستعدة للرحيل... أنا أعني أن ارحل، نعم أرحل وأنا بكرامتي، ولا أزال قوية، وهذا من حسن حظ زوجي».
الكلام عن زوجها، استحضر دموعاً يبدو أنها لم تجفّ يوماً، وتعكس تماماً كما المرآة، مقدار الحب الذي جعل تلك السيدة الإيطالية تترك كل شيء حتى بعد وفاته. تقول ليديا القطان «إنه مبارك حقاً في هذا الشأن. في تلك الليلة كاليوم الذي مات فيه. كان عادة ما يلتقط الصور للناس، ويطبعها في مكان ما، وطلب مني إحضارها، وفي المساء قلت خليفة سأذهب لأنام، أتريد مني شيئاً أقوم به من أجلك؟ قال كلا إنني سأذهب إلى الديوانية. قلت دعني أصحبك. قال كلا، أنا رجل. قلت: أعلم أنك رجل... كان يشعر بالكبرياء، فرفض اصطحابي له، وهكذا نزل إلى أسفل حيث كان يصلي ويقرأ القرآن، وبعدما قرأ القرآن قال حسناً قومي بتوصيلي بالسيارة وفي أثناء انتظاره، وضعت شريط موسيقى كنا اشتريناه أثناء رحلة إلى لندن».
تتنهد القطان وتكمل «رأيته آتياً للسيارة وجلس، وأنا كنت مشغولة بالشريط، وجدت رأسه سقط ناحيتي. قلت يا ملاكي، إن رأسك سقط عليّ وهو ثقيل. اعتقدت أنه يمزح، لأنه يفعل هذا أحياناً معي، وعندما لم أجد رد فعل من ناحيته، أخذت رأسه وأعدته للوراء برفق ونظرت ووجدت وجهه أبيض اللون».
تستعيد القطان الشريط وكأنه يحدث أمامها وتتابع «قلت يا إلهي، إنه يعاني من أزمة قلبية. نظرت وقلت يا إلهي لقد فقدته واتصلت بابنتي أيضاً وقلت احضري بسرعة، إن والدك ليس على ما يرام، لقد رحل بكرامته (وهو محتفظ بكرامته)».
تنظر القطان حولها وتقول «تلك هي الطريقة التي أريد أن أرحل بها. كان رجلاً رائعاً وقد شملني باحترامه، وقد عاملني باحترام. خليفة وفر لي الحرية للعمل، وظل يشجعني ولم ينتقدني، هو لم ينتقد أحداً».
كلامها بلهفة وشوق عن زوجها، جعل «الراي» تسألها عن طلبها دفنها في الكويت بعد رحيلها، فقالت «انظر، الكوكب كله مفتوح، وإذا متّ في الكويت أو في مكان آخر، فماذا يهم؟! كما أنني أحب الكويت. وأنت لا تشعر بحب البلد ما لم تكن تحب شعبه، فالشعب هو الذي يصنع البلد والدولة. شعرت بالراحة والاحترام عندما وصلت إلى الكويت، شعرت بأنني محبوبة، شعرت بحب عائلة زوجي. نعم أحب أن يتم دفني في الكويت. ما المانع؟».
في أرجاء المكان، تنتشر آيات قرآنية كُتبت بالمرايا، والمفارقة، أن التي تتحدث باللغة الإنكليزية بلكنة إيطالية ما زالت ترافقها، هي من كتبت هذه الآيات. لكن ماذا عن سر اختيارها لها؟... تقول القطان وهي تشير إلى إحدى الآيات «هل ترى هذه الكتابة؟ كانت هذه هي الكتابة التي أذهلتني عندما كنت أقرأ القرآن. من خلال المعرفة، تعرف الله. هذه مثلاً أعجبتني أولاً وأثرت بي كثيراً». وتتابع «هذه الثانية (إنا كل شيء خلقناه بقدر) {سورة القمر (49)}. كل شيء تم خلقه في الكون مترابط، وعندما تنظر إلى الحياة تدرك أشياء كثيرة، لذلك أخذت آيات من القرآن».
للموسيقى أيضاً حكاية مع ليديا القطان، ففي كل غرفة، تنساب موسيقى مختلفة عن الأخرى، لتضع زائر المكان في الجو العام له. وعن ذلك تقول «الموسيقى هي لغة الروح، وهو أمر رائع. الموسيقى أساسية في حياة الناس، البعض يعتقد أنها حرام وهذا أمر سيئ». وتضيف «أحياناً يأتي الناس لمشاهدة المنزل، ويقولون إنه جميل، لكن هناك أمراً سيئاً، فأقول ما هو؟ يقولون لماذا لا تضعين القرآن مكان الموسيقى؟ فأجيب: ليس كل من يزور المكان من العرب أو المسلمين. ثانياً، لو أنكم كنتم تتحدثون إليّ، ألا تريدون أن أستمع إليكم؟ يقولون بالطبع، فأقول إن كنتم تتحدثون إليّ وتجدونني أحادث شخصاً آخر، فهل سيروقكم ذلك؟ يقولون لا، فأقول حسناً، هذا ما ستفعلونه مع القرآن؟ فهو ليس موسيقى أو مجرد ضجيج كخلفية. فيا من قمت بتشغيل القرآن، عليك احترامه».
بعيداً عن جمالية المشهد، فإن لسر العمل بالمرايا قصة بطلها النمل الأبيض. ففي حين كانت ليديا القطان تعمل على وضع بصماتها الفنية على الجدران باستخدام الخشب المعاكس، واجهت مشكلة... وجدت النمل الأبيض متفشياً في الخشب، لذا لجأت إلى استخدام المرايا. في البداية، كانت تكسر المرايا لتصنع منها ما تريد، وطوّرت الأمر بعد ذلك لتعتمد القص.
داخل المنزل مقسّم إلى غرف، وفي كل غرفة حكاية. إلى جانب المدخل الداخلي للمنزل، يقبع «كوكب الأرض»، الذي يُعتبر أساس مشروع أرضية الطابق الأرضي حتى الباب، وعندما تغلقه تجد من الناحية الخارجية موضوعاً واحداً هو البحر.
في «كوكب الأرض» توجد نافذة هي الوحيدة في المنزل، وعندما رحل خليفة القطان في العام 2003، بدأت تعمل حولها. بعض الأماكن عملت عليها لمرتين وأحياناً أكثر من ذلك.
بعد ذلك تنطلق الرحلة مع غرفة الأبراج. هناك تجد الشمس التي تقود كل الكواكب. والمفارقة، هو تكرار وجود كوكب زحل، والسبب هو أن الغرفة كانت لابنتها في السابق، وهي من مواليد برج الجدي.
خطوات قليلة خارج الغرفة، وتمتد على الحائط إلى جانب الحمام صور للدلافين وسمكة قرش. «هنا تجد قرشاً صغيراً. وهنا تجد دولفيناً». تقول ليديا القطان وتتابع «كنت في البداية أصنع قرشاً، لكن ابنتي جاءت من أورلاندو وقالت إنها رأت قطيعاً من الدلافين وكانت متحمسة للغاية، لذا قمت بتبديله وطلبت منها أن ترى العمل فجاءت واحتضنتني».
في داخل الحمام، لا يختلف المشهد، فالمرايا تغطي المكان، إضافة إلى الموزاييك. حتى المغسبة تغطت بالكامل، والعمل داخل الحمام استغرق شهرين.
خطوات جديدة ويظهر مشهد الكون. العمل يتحدث عن تكوّن الكون. لوحات على الجدران كل تحكي عن مرحلة. واحدة تمثّل الانفجار الكبير، وأخرى تشير إلى تكوّن الكواكب وتكوّن الماء على سطح الأرض ثم ظهور الحياة. في زاوية من الغرفة، تشير القطان إلى ما يتعلق بعلم التنجيم، وفي أخرى ما يتعلق بنشأة الكون.
داخل الغرفة نفسها تتوزع الطيور على الجدران على شكل أسراب تطير في اتجاه واحد، فيما عدا طيور ذات اللون الأزرق.
تشرح القطان عن الفكرة «المقصود أن الناس نوعان، هناك القادة وهناك الأتباع، وهناك نوعان من القادة: الصالحون والطالحون الأشرار، وعادة تتبعهم الغالبية، لكن هناك قلة تفكر ومتى اقتنعوا، فإنهم يساندون القائد الصالح كما حدث مع نيسلون مانديلا وغاندي، اقتنع الناس بهما، لذلك اتبعوهما، وهناك المتعصبون الذين تجدهم يدمرون العالم».
تتحدث المرأة بلغة الضالع بالسياسة وتتابع «انظر إلى ستالين وكم نفي إلى سيبيريا - هناك من لديهم هدف ويصبحون مجاهدين، ويفسرون الدين حسب أهوائهم. هناك أمران مهمان للغاية في الحياة، الدين والسياسة... الدين لوحده جيد، ولا بأس بالسياسة أيضاً لوحدها، لكن متى امتزج الاثنان، فإنهما يصبحان قوة مدمرة في العالم، لن تجد أمانة أوجب أو تعاوناً، والقوة ستدمر كل ما يبنيه الجميع... انظر إلى سورية حالياً».
بعد نشأة الكون، توجد «غرفة المعرفة». وبالرغم من انتشار الكتب على الأرفف في كل مكان، إلا أن المرايا حجزت مكاناً لها في الخلف.
تعطي الغرفة فكرة عن شكل المنزل سابقاً، وتظهر ما يمكن للنمل الأبيض أن يفعل في الكتب... تحتفظ القطان ببعض الكتب المتآكلة وتتحدث عن الأمر «لقد طلبت من أحدهم تنظيف المكان. أخذ زوجي يضحك وقال لن يرى أحداً هذا، فقلت إنني لا أفعل هذا من أجل الناس، لكنني أفعله لمواجهة النمل الأبيض». تنتهي الجولة في الطابق الأرضي، وتقود أدراج إلى الطابق العلوي حيث العديد من الغرف الجديدة، إحداها تضم أعمال الفنان الراحل خليفة القطان، وكلها تتحدث عن الإنسانية والمسؤولية. تقول ليديا القطان عن الأعمال «كل شيء يتمحور حول الاختيار. فالمسؤولية تغير اختيارات جيدة».
في مكان غير بعيد توجد أعمال ليديا، إحداها تمثل الجنس والمجتمع، وأخرى تمثل الاحتلال، وفي مكان آخر عمل يمثل الكويت الحرة، وآخر يمثل المرأة.
كل شيء في الغرفة له علاقة بإعادة التدوير، وكل شيء يضيء. هي تحب إعادة التدوير «لأن بالإمكان واللطيف في الأمر استخدام العقل». أحد أعمالها مثلاً أساسه رأس حيوان الماعز.
خطوات أخرى وتدخل «سفينة الفضاء»، وهي تتحدث عن الحرية الفكرية ونقص الحرية الفكرية. تقول القطان «تجد الحرية في لبنان، وكذلك في الكويت ودول الخليج وتجدهم أكثر حرية من غيرهم، بهذا يمكننا التقدم، لكن مع نقص الحرية الفكرية تجد الجهل وتجد أناساً يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء، فلا تستطيع المناقشة معهم... انظر ما يحدث في العالم العربي. هذا ليس خياراً، لأنه موقف نعيشه وعلينا أن نكون مستعدين له». وتضيف «يا إلهي، نحن نتغير. أهم ميزة لدينا هي التخيّل».
الرحلة الأخيرة تكون في المجرة (جالاكسي). في الأعلى تنتشر النجوم متحركة، وفي الأسفل يوجد المزيد من النجوم. الموسيقى موجودة في هذا المكان أيضاً، وهي تدعو الجالس فيها إلى تخيّل أنه في الفضاء فعلاً حين يجد الكواكب تظهر أمامه.
«مرايتي يا مرايتي، من أجمل امرأة على وجه الكرة الأرضية؟»... سؤال يرتبط بطفولة استمعت أو قرأت أو حتى شاهدت قصة بياض الثلج، واستقت منها العلاقة بين المرأة والمرآة من جهة، والمرأة والجمال من جهة ثانية. كل هذا في خانة، والعلاقة بين ليديا القطان والمرآة في خانة أخرى. فتلك المرأة الكويتية ذات الأصول الإيطالية، طوّعت المرآة كما تريد هي. كسرت الحاجز النفسي بينهما، تماماَ كما كسرت أول مرآة لتصنع منها ما تحب أن ترى بعينها، لا من خلال الانعكاسات.
هي فلسفة خاصة بفنانة، تزوجت فناناً (التشكيلي الراحل خليفة القطان) ومزجت بيئتها المتوسطية الغربية بثقافة عربية خليجية شرقية خالصة، وعلى مدار أكثر من خمسة وخمسين عاماً صنعت عالماً خاصاً بها، حوّلته إلى متحف فريد من نوعه في الكون. في منطقة القادسية، يقبع منزل يعرّف عن نفسه، وتتفاعل جدرانه مع محيطه. إنه «بيت المرايا»، ذلك المكان الذي ارتأت ليديا القطان أن تمنح من يرغب في دخول عالمه فرصة التجوّل بين مجراته وكواكبه، والاستماع إلى شرح فلسفتها في الحياة، انطلاقاً من تكوّن الحياة، مروراً بالطبيعة، ووصولاً إلى الواقع السياسي الذي يعيشه العالم.
المرايا في كل مكان، تنتشر من الخارج بأشكال مختلفة، كتابات قرآنية ومنحوتات، منها ما هو طائر، ومنها ما يقف على قدميه. وفي الداخل، تتوزع العناوين، ولكل زاوية قصة ترويها صاحبة الأنامل التي صنعت على مدار الأعوام أسطورة من المرايا وزنها 91 طناَ. في ذلك المكان، تنطلق رحلة بناء العلاقة الودية بين صاحبته والضيف، بطقوس امرأة لا ترضى بكلمة «شكراً»، الممتنع صاحبها عن تلقي الضيافة خجلاً. عليه أن يتناول ما وضعته أمامه، وما يتبقى، تحملّه إياه في كيس بلاستيكي.
«لنبدأ بالانعكاس. كل شيء هو انعكاس في كل شيء نراه في الكون، حتى في طريقة تحدثك، إنها انعكاس لشخصيتك». تتحدث ليديا القطان لـ«الراي» عن «بيت المرايا»، وتكمل «الفكرة من هذه المرايا هي أن تعكس كل شيء، هي انعكاس لكل شيء... هي الإبداع في تحويل الفوضى إلى نظام. هذا انعكاس لكل شيء في الحياة وفي الكون وفي النجوم، في كل شيء، وبالطبع في سلوك الإنسان».
تلمع عينا السيدة وهي تسهب في الحديث عن عالمها: «أريد أن أعرف أموراً عن شخص (طريقة تحدثه، طريقة مظهره، كيف يبدو، كيف يتفاعل، خصوصا العينين، والعين تعكس الكثير، تقول الكثير والإخلاص - الصدق في المشاعر)».
هي لا تستطيع قراءة لغة العيون كما تعترف، لكنها تجد أنها تظهر الكثير عنك متى كنت تكذب.
المرأة السبعينية لا تتوقف عن تطوير مواهبها، فبالنسبة إليها «الحياة نفسها تتغير، حتى طريقة التفكير. كل شيء في تغيّر متواصل، كل ثانية، وكل كسر من الثانية هذا جزء من الحياة وجزء من الخلق كله».
كمّ المرايا الممتد في أرجاء المكان، الأرض والجدران وحتى السقف، يدعو إلى سؤال القطان عن العلاقة بين المرأة والمرآة، وكامرأة إلى أي حد تتفاعل مع المرآة، فتجيب بأنها تنظر إليها بطريقة فلسفية. وتتابع «لا أستطيع أن أعبّر عن نفسي بها... ليس عن طريق المرآة، لكن عن طريق الكتابة إن كنت مجهدة، إن كنت أواجه عقبات في الحياة، الميديا محدودة للغاية. إنني أعبّر بالرسم عما أريد أن أقوله، عن نشأة الكون وتطوره، وعن علاقات البشر بعضهم ببعض. المرايا محدودة».
لا يرتبط عمل القطان بالمرايا بحالة مزاجية محددة، بل بالوقت...«عندما أجد الوقت أعمل عليها، وإن لم أجد الوقت فلا أعمل عليها. الأمر لا علاقة له بكوني في حالة نفسية إيجابية أو سلبية».
أما عن السنوات التي قضتها وهي تعمل مع المرايا، وانعكاس وجهها عليها، فتقول «أرى تغيراً كما تعلم. يا إلهي، إنني أشيخ. من الداخل أنا شابة ومن الخارج أنا عجوز للغاية».
«لكن الشباب بالروح»، نقول لها، فتجيب بابتسامة طفل «هذا ما أعنيه، الروح شابة، لكن الجسم يتدهور، فتدرك ذلك وهذا يؤذيك بطبيعة الحال، وتظل تفكر في الصحة التي كانت لديك، وفي الوقت نفسه أنت تسعى لمواصلة حياتك. إنني حققت رسالتي، وأنا مستعدة للرحيل... أنا أعني أن ارحل، نعم أرحل وأنا بكرامتي، ولا أزال قوية، وهذا من حسن حظ زوجي».
الكلام عن زوجها، استحضر دموعاً يبدو أنها لم تجفّ يوماً، وتعكس تماماً كما المرآة، مقدار الحب الذي جعل تلك السيدة الإيطالية تترك كل شيء حتى بعد وفاته. تقول ليديا القطان «إنه مبارك حقاً في هذا الشأن. في تلك الليلة كاليوم الذي مات فيه. كان عادة ما يلتقط الصور للناس، ويطبعها في مكان ما، وطلب مني إحضارها، وفي المساء قلت خليفة سأذهب لأنام، أتريد مني شيئاً أقوم به من أجلك؟ قال كلا إنني سأذهب إلى الديوانية. قلت دعني أصحبك. قال كلا، أنا رجل. قلت: أعلم أنك رجل... كان يشعر بالكبرياء، فرفض اصطحابي له، وهكذا نزل إلى أسفل حيث كان يصلي ويقرأ القرآن، وبعدما قرأ القرآن قال حسناً قومي بتوصيلي بالسيارة وفي أثناء انتظاره، وضعت شريط موسيقى كنا اشتريناه أثناء رحلة إلى لندن».
تتنهد القطان وتكمل «رأيته آتياً للسيارة وجلس، وأنا كنت مشغولة بالشريط، وجدت رأسه سقط ناحيتي. قلت يا ملاكي، إن رأسك سقط عليّ وهو ثقيل. اعتقدت أنه يمزح، لأنه يفعل هذا أحياناً معي، وعندما لم أجد رد فعل من ناحيته، أخذت رأسه وأعدته للوراء برفق ونظرت ووجدت وجهه أبيض اللون».
تستعيد القطان الشريط وكأنه يحدث أمامها وتتابع «قلت يا إلهي، إنه يعاني من أزمة قلبية. نظرت وقلت يا إلهي لقد فقدته واتصلت بابنتي أيضاً وقلت احضري بسرعة، إن والدك ليس على ما يرام، لقد رحل بكرامته (وهو محتفظ بكرامته)».
تنظر القطان حولها وتقول «تلك هي الطريقة التي أريد أن أرحل بها. كان رجلاً رائعاً وقد شملني باحترامه، وقد عاملني باحترام. خليفة وفر لي الحرية للعمل، وظل يشجعني ولم ينتقدني، هو لم ينتقد أحداً».
كلامها بلهفة وشوق عن زوجها، جعل «الراي» تسألها عن طلبها دفنها في الكويت بعد رحيلها، فقالت «انظر، الكوكب كله مفتوح، وإذا متّ في الكويت أو في مكان آخر، فماذا يهم؟! كما أنني أحب الكويت. وأنت لا تشعر بحب البلد ما لم تكن تحب شعبه، فالشعب هو الذي يصنع البلد والدولة. شعرت بالراحة والاحترام عندما وصلت إلى الكويت، شعرت بأنني محبوبة، شعرت بحب عائلة زوجي. نعم أحب أن يتم دفني في الكويت. ما المانع؟».
في أرجاء المكان، تنتشر آيات قرآنية كُتبت بالمرايا، والمفارقة، أن التي تتحدث باللغة الإنكليزية بلكنة إيطالية ما زالت ترافقها، هي من كتبت هذه الآيات. لكن ماذا عن سر اختيارها لها؟... تقول القطان وهي تشير إلى إحدى الآيات «هل ترى هذه الكتابة؟ كانت هذه هي الكتابة التي أذهلتني عندما كنت أقرأ القرآن. من خلال المعرفة، تعرف الله. هذه مثلاً أعجبتني أولاً وأثرت بي كثيراً». وتتابع «هذه الثانية (إنا كل شيء خلقناه بقدر) {سورة القمر (49)}. كل شيء تم خلقه في الكون مترابط، وعندما تنظر إلى الحياة تدرك أشياء كثيرة، لذلك أخذت آيات من القرآن».
للموسيقى أيضاً حكاية مع ليديا القطان، ففي كل غرفة، تنساب موسيقى مختلفة عن الأخرى، لتضع زائر المكان في الجو العام له. وعن ذلك تقول «الموسيقى هي لغة الروح، وهو أمر رائع. الموسيقى أساسية في حياة الناس، البعض يعتقد أنها حرام وهذا أمر سيئ». وتضيف «أحياناً يأتي الناس لمشاهدة المنزل، ويقولون إنه جميل، لكن هناك أمراً سيئاً، فأقول ما هو؟ يقولون لماذا لا تضعين القرآن مكان الموسيقى؟ فأجيب: ليس كل من يزور المكان من العرب أو المسلمين. ثانياً، لو أنكم كنتم تتحدثون إليّ، ألا تريدون أن أستمع إليكم؟ يقولون بالطبع، فأقول إن كنتم تتحدثون إليّ وتجدونني أحادث شخصاً آخر، فهل سيروقكم ذلك؟ يقولون لا، فأقول حسناً، هذا ما ستفعلونه مع القرآن؟ فهو ليس موسيقى أو مجرد ضجيج كخلفية. فيا من قمت بتشغيل القرآن، عليك احترامه».
بعيداً عن جمالية المشهد، فإن لسر العمل بالمرايا قصة بطلها النمل الأبيض. ففي حين كانت ليديا القطان تعمل على وضع بصماتها الفنية على الجدران باستخدام الخشب المعاكس، واجهت مشكلة... وجدت النمل الأبيض متفشياً في الخشب، لذا لجأت إلى استخدام المرايا. في البداية، كانت تكسر المرايا لتصنع منها ما تريد، وطوّرت الأمر بعد ذلك لتعتمد القص.
داخل المنزل مقسّم إلى غرف، وفي كل غرفة حكاية. إلى جانب المدخل الداخلي للمنزل، يقبع «كوكب الأرض»، الذي يُعتبر أساس مشروع أرضية الطابق الأرضي حتى الباب، وعندما تغلقه تجد من الناحية الخارجية موضوعاً واحداً هو البحر.
في «كوكب الأرض» توجد نافذة هي الوحيدة في المنزل، وعندما رحل خليفة القطان في العام 2003، بدأت تعمل حولها. بعض الأماكن عملت عليها لمرتين وأحياناً أكثر من ذلك.
بعد ذلك تنطلق الرحلة مع غرفة الأبراج. هناك تجد الشمس التي تقود كل الكواكب. والمفارقة، هو تكرار وجود كوكب زحل، والسبب هو أن الغرفة كانت لابنتها في السابق، وهي من مواليد برج الجدي.
خطوات قليلة خارج الغرفة، وتمتد على الحائط إلى جانب الحمام صور للدلافين وسمكة قرش. «هنا تجد قرشاً صغيراً. وهنا تجد دولفيناً». تقول ليديا القطان وتتابع «كنت في البداية أصنع قرشاً، لكن ابنتي جاءت من أورلاندو وقالت إنها رأت قطيعاً من الدلافين وكانت متحمسة للغاية، لذا قمت بتبديله وطلبت منها أن ترى العمل فجاءت واحتضنتني».
في داخل الحمام، لا يختلف المشهد، فالمرايا تغطي المكان، إضافة إلى الموزاييك. حتى المغسبة تغطت بالكامل، والعمل داخل الحمام استغرق شهرين.
خطوات جديدة ويظهر مشهد الكون. العمل يتحدث عن تكوّن الكون. لوحات على الجدران كل تحكي عن مرحلة. واحدة تمثّل الانفجار الكبير، وأخرى تشير إلى تكوّن الكواكب وتكوّن الماء على سطح الأرض ثم ظهور الحياة. في زاوية من الغرفة، تشير القطان إلى ما يتعلق بعلم التنجيم، وفي أخرى ما يتعلق بنشأة الكون.
داخل الغرفة نفسها تتوزع الطيور على الجدران على شكل أسراب تطير في اتجاه واحد، فيما عدا طيور ذات اللون الأزرق.
تشرح القطان عن الفكرة «المقصود أن الناس نوعان، هناك القادة وهناك الأتباع، وهناك نوعان من القادة: الصالحون والطالحون الأشرار، وعادة تتبعهم الغالبية، لكن هناك قلة تفكر ومتى اقتنعوا، فإنهم يساندون القائد الصالح كما حدث مع نيسلون مانديلا وغاندي، اقتنع الناس بهما، لذلك اتبعوهما، وهناك المتعصبون الذين تجدهم يدمرون العالم».
تتحدث المرأة بلغة الضالع بالسياسة وتتابع «انظر إلى ستالين وكم نفي إلى سيبيريا - هناك من لديهم هدف ويصبحون مجاهدين، ويفسرون الدين حسب أهوائهم. هناك أمران مهمان للغاية في الحياة، الدين والسياسة... الدين لوحده جيد، ولا بأس بالسياسة أيضاً لوحدها، لكن متى امتزج الاثنان، فإنهما يصبحان قوة مدمرة في العالم، لن تجد أمانة أوجب أو تعاوناً، والقوة ستدمر كل ما يبنيه الجميع... انظر إلى سورية حالياً».
بعد نشأة الكون، توجد «غرفة المعرفة». وبالرغم من انتشار الكتب على الأرفف في كل مكان، إلا أن المرايا حجزت مكاناً لها في الخلف.
تعطي الغرفة فكرة عن شكل المنزل سابقاً، وتظهر ما يمكن للنمل الأبيض أن يفعل في الكتب... تحتفظ القطان ببعض الكتب المتآكلة وتتحدث عن الأمر «لقد طلبت من أحدهم تنظيف المكان. أخذ زوجي يضحك وقال لن يرى أحداً هذا، فقلت إنني لا أفعل هذا من أجل الناس، لكنني أفعله لمواجهة النمل الأبيض». تنتهي الجولة في الطابق الأرضي، وتقود أدراج إلى الطابق العلوي حيث العديد من الغرف الجديدة، إحداها تضم أعمال الفنان الراحل خليفة القطان، وكلها تتحدث عن الإنسانية والمسؤولية. تقول ليديا القطان عن الأعمال «كل شيء يتمحور حول الاختيار. فالمسؤولية تغير اختيارات جيدة».
في مكان غير بعيد توجد أعمال ليديا، إحداها تمثل الجنس والمجتمع، وأخرى تمثل الاحتلال، وفي مكان آخر عمل يمثل الكويت الحرة، وآخر يمثل المرأة.
كل شيء في الغرفة له علاقة بإعادة التدوير، وكل شيء يضيء. هي تحب إعادة التدوير «لأن بالإمكان واللطيف في الأمر استخدام العقل». أحد أعمالها مثلاً أساسه رأس حيوان الماعز.
خطوات أخرى وتدخل «سفينة الفضاء»، وهي تتحدث عن الحرية الفكرية ونقص الحرية الفكرية. تقول القطان «تجد الحرية في لبنان، وكذلك في الكويت ودول الخليج وتجدهم أكثر حرية من غيرهم، بهذا يمكننا التقدم، لكن مع نقص الحرية الفكرية تجد الجهل وتجد أناساً يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء، فلا تستطيع المناقشة معهم... انظر ما يحدث في العالم العربي. هذا ليس خياراً، لأنه موقف نعيشه وعلينا أن نكون مستعدين له». وتضيف «يا إلهي، نحن نتغير. أهم ميزة لدينا هي التخيّل».
الرحلة الأخيرة تكون في المجرة (جالاكسي). في الأعلى تنتشر النجوم متحركة، وفي الأسفل يوجد المزيد من النجوم. الموسيقى موجودة في هذا المكان أيضاً، وهي تدعو الجالس فيها إلى تخيّل أنه في الفضاء فعلاً حين يجد الكواكب تظهر أمامه.