الرأي اليوم / ... بل هي جلسة تاريخية

تصغير
تكبير
بالرغم من كل الزوبعة المصطنعة التي رافقت جلسة «المحاسبة» النيابية، إلا أنها كانت بحق تاريخية وسنت سنة حميدة في مقابل السنن الخبيثة الكثيرة التي أرادت أن تحتل موقعاً متقدماً.

وقبل أن يقول قائل إننا «نبالغ» في الدفاع عن تاريخية تلك الجلسة نقول إننا «نبالغ ألف مرة» إذا كان ذلك يرضيهم، ولا نختبئ وراء الجمل المنمقة أو أنصاف العبارات. نعم كانت جلسة – سابقة لم تشهدها الحياة السياسية الكويتية، وكانت الكويت هي الرابح الأول فيها بدل أن نقول إن المجلس ربح أو الحكومة ربحت لأن الموضوع برمته لم يكن مباراة بل مرآة عكست لجميع الكويتيين حقائق كثيرة وفرضت على الجميع مسؤوليات كثيرة وأشركت الناس في طريقة إدارة القرار من خلال المسار الذي سيفرض نفسه بعد تلك الجلسة.


في المجالس السابقة لم يرث الكويتيون سوى القليل من الفعل والكثير من الكلام. مع المجلس الحالي نتمنى أن يرث الجيل المقبل الكثير من الفعل والقليل من الكلام، بل ان يقل الكلام أكثر فأكثر وأن ندع الأرقام تتحدث عن نفسها. هكذا بدأ الأمر مع القضية الإسكانية حيث رفض رئيس المجلس مرزوق الغانم أن تقود الشعارات السياسية الملفات الحياتية وقلب الآية... سأل الناس مباشرة ما هي أولوياتكم؟ وبدأ حشد كل الإمكانات والقدرات لملاقاة هذه الأولويات ما أمكن، وما أنجز في الموضوع الإسكاني حتى الآن لم تنجزه كل المجالس السابقة وخصوصا مجالس الصوت العالي التي تاجرت بهذا الموضوع لابتزاز الحكومات في مواضيع أخرى، وعندما تتحدث الأرقام عن نفسها قريباً يكون المجلس ورئيسه ربحا ثقة الناس ورضا الناس وراحة الضمير، أما الخسائر الأخرى فغير مهمة على الإطلاق.

لكن الموضوع لن ينتهي هنا ولا يجب أن ينتهي هنا. قال الوزراء ما عندهم، أقروا بوجود أخطاء، شرحوا كيف شكلوا لجان عمل لتطبيق ما طلبه ديوان المحاسبة ومحاسبة المسؤولين عن الخطأ أو الهدر أو الفساد... هذا موضوع يحصل للمرة الأولى بحيث نقل مجلس الأمة تقارير الديوان من الملفات والمحاسبة الإدارية أو المعنوية إلى الهموم السياسية اليومية والمحاسبة الشعبية الفعلية. منذ سنين طويلة وتقارير الديوان ترصد الشاردة والواردة في عمل الوزارات والإدارات إلا أنها المرة الأولى في تاريخ الكويت التي يتم من خلالها ربط هذه الملفات بمحاسبة الأمة مباشرة، وهنا لا الشعارات تجدي ولا «النيات الحسنة» بالإصلاح ولا الكلام المنمق عن تصحيح الأوضاع، بل ما يجدي هو العمل الفعلي للتغيير والإصلاح.

قالت الحكومة ما لديها، والخطأ كل الخطأ أن تعتقد أنها بذلك رمت عن كاهلها ثقل ملاحظات «المحاسبة». لم تعرف الحكومة أنها أقرت وأعطيت مهلة للتصحيح، وأن هذا الإقرار يزيد الأثقال على كاهلها ولا يخففها، ونتمنى ألا يعتقد رئيس وأعضاء مجلس الأمة أنهم بدفع الحكومة إلى الإقرار بالأخطاء والتجاوزات أنهوا مهمتهم، أو أنهم فازوا لمجرد النجاح بالربط بين الإقرار الحكومي بالأخطاء وبين توسيع الرقابة لتشمل الرأي العام. وأعتقد أن مهمة المجلس بدأت اليوم من النقطة التي انتهت إليها جلسة المحاسبة، أي من تعهد رئيس الحكومة وكل وزير بتصحيح الأخطاء، فلا خير في رئيس المجلس أو الأعضاء إن لم يتابعوا تفصيلياً خطوات كل وزير، ويا حبذا لو تقوم لجنة المتابعة بإطلاع الناس بشكل دوري على إجراءات كل وزارة فتقول إن الخطأ الفلاني تصحح أو الهدر توقف أو الفاسد حوسب... أو تقول إن الهدر استمر والخطأ زاد والفاسد تضخم فساده.

كانت الجلسة تاريخية بامتياز، وحتى لا تفقد هذه الصفة أو الزخم الرقابي المأمول منها، على الجميع وتحديداً الحكومة الالتزام بكل تعهد جاء فيها، ويخطئ من يظن أنها حدث عابر في المسار السياسي الكويتي لأن هذه الفرضية ستنهي أي مصداقية للسلطتين التشريعية والتنفيذية. طبعا لن نقول إن الأداء الذي شهدته الجلسة يجعلنا نأمل أن نرى بعد سنوات مجلساً شبيهاً بمجلس العموم البريطاني لناحية الرقابة اليومية والتشريعات المواكبة لوتيرة التطور،إلا أننا لا بد أن نتفاءل بما حصل، ولا بد أن تقرأ الحكومة بتمعن درجات الألوان المتغيرة في جهاز الإنذار الشعبي... الذي بدأ يتشكل.

تبقى قضية لا بد من التوقف عندها، وهي ردود الفعل الناطقة باسم بعض التيارات المعارضة على جلسة «المحاسبة» وما تلاها من مواقف. من حق أي إنسان أن يبدي رأيه وأن ينتقد وأن يهاجم ويعترض، فالكويت بلا معارضة ليست الكويت وإنما حزب بعث، إنما أن تصبح السفالة والبذاءة والانحطاط لغة البعض فهذا يعكس صورة البيت الذي تربوا فيه ولا يعكس صورة الحريات والديموقراطية بأي شكل من الأشكال. وحقيقة لا أفهم مثلا كيف يدخل أشخاص وهم من حملة شهادات عليا ميدان الرأي السياسي من باب الشتيمة. هل نشأوا على هذه اللغة في بيوتهم؟ هل يتبارون في الإسفاف كي يرضى عنهم من ارتضاهم «شبيحة» له في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؟ هل كبيرهم الذي علمهم السفاهة يعشق الأسلوب المنحط لأن قدراته محدودة وتحركاته غبية؟... أسئلة كثيرة سنرى إجاباتها تباعاً في القادم من الأيام وإن كنا لا نتوقع سوى المزيد من الانحدار الذي يعكس عجز أصحابه عن الارتقاء إلى مستويات متزنة في اللغة والموقف.

عود على بدء، جلسة المحاسبة سنت سنة حميدة لا نريدها أن تضيع، لا بمحاولات الحكومة تلميع نفسها، ولا بتراخي المجلس عن المتابعة، ولا بالزوابع المصطنعة التي تريدنا أن نعود إلى الوراء... إلى منطقة السنن الخبيثة.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي