الرأي اليوم / «الوحش» لن ينام ... إلا إذا استيقظنا !


بعد الحرب العالمية الثانية، كانت حركات التوتر أو التمرد أو الثورة أو التحرر... سمّها ما شئت، هي وقود الحرب الباردة بين معسكرين كبيرين جهد كل منهما في تطويق الآخر والحصول على مراكز نفوذ قربه أو على حسابه.
تراجعت «استعمارات» مكشوفة وتقدمت «استعمارات» مبطنة، وتبدلت أنظمة وتغيرت دول. بعض هذه التغيرات كان يدار بالكامل من الخارج وبعضها الآخر بتوافق مصلحي بين دعم خارجي وتطلعات داخلية في التغيير. المهم أن خريطة من الحركات والمنظمات تكونت بشكل مخيف كان الكثير منها يعتقد نفسه محور العالم ليكتشف لاحقاً أنه رصاص حار في بنادق الحرب الباردة.
شمل الأمر العالم بأسره، من جنوب أميركا إلى جنوب آسيا مروراً بأوروبا وأفريقيا. كانت دول حلف شمال الأطلسي تحشد لمحاصرة الاتحاد السوفياتي والشيوعية وكان الاتحاد السوفياتي يحشد لمحاصرة أميركا والإمبريالية. وكانت كل حركات التحرر أو التمرد أو الثورة تتفاعل بزخم كبير مع كل تفاصيل الحرب الباردة سواء تعلق الأمر بحصار برلين أواخر أربعينيات القرن الماضي وما تلاها أو الحرب الكورية أو حرب فيتنام أو أزمة خليج الخنازير والصواريخ في كوبا وربيع براغ أو الغزو السوفياتي لأفغانستان وحروب دول أميركا اللاتينينة والحروب العربية – الإسرائيلية... كل ذلك وغيره كان يرتبط بطريقة أو بأخرى بالسجال العالمي بين كتلتين ضخمتين.
عشرات المنظمات والرموز اليسارية ومثلها عشرات المنظمات والرموز اليمينية تسيدت المشاهد المحلية والدولية سياسياً وأمنياً وعسكرياً. بعضها كان وما زال يعتبر لدى مناصريه حركات تحرر وطنية شريفة ولدى معارضيه حركات إرهاب أو في أفضل الأمور «حركات ضلت الطريق الصواب باستخدام العنف»... إنما القاسم المشترك بين الجميع (باستثناء قلة قليلة) أنها لم تكن حركات دينية بل يغلب عليها الطابع العلماني، وأنها كانت تجتذب أعضاء ومناصرين ومتعاطفين من مختلف الدول والمذاهب والأديان، بل حتى ان الأحزاب التي كان لها نفوذ كبير في أوروبا ما بعد الحرب الثانية وكانت تعتمد تسمية «المسيحي الديموقراطي» تخلت شيئاً فشيئاً عن «مسيحيتها» وتحولت تدريجياً إلى أحزاب وطنية شاملة وغيرت أسماءها.
انتهت الحرب الباردة عمليا بإسقاط الاتحاد السوفياتي على الأرض في أفغانستان وبإسقاطه في الجو عبر «حرب النجوم» والإنهاك الكبير للقدرات والمال. تساقطت دول المعسكر الشرقي كأوراق شجر الخريف وبقيت بعض الحركات نشطة إلى يومنا هذا فيما توارت حركات كثيرة وانقرضت. تغير العالم وتغيرت تكتلاته وتغيرت أسس هذه التكتلات في اتجاه اقتصادي أكثر من عقائدي وحلت ثورات التكنولوجيا والاتصالات مكان الثورات الشعبية... ثم برزت ظاهرة الحركات الإسلامية المتطرفة المسلحة التي ظن كثيرون أنها من آثار الزلزال الأفغاني وستنتهي أو تخف مع اختفاء توابعه إلا أنها استمرت عاكسة واقعاً مأسوياً يعيشه العرب والمسلمون.
لماذا يرث التطرف الديني المسلح عشرات حركات التحرر المحلية والعالمية؟ ولماذا يستحوذ وحده على الصورة الضخمة للإرهاب بينما كانت حركات التمرد أو الثورة تاريخياً أقرب منها إلى الشأن الوطني التحرري رغم جنوح بعضها إلى الإرهاب أو حتى تصنيفها من قبل كثيرين في خانة الإرهاب؟
الموضوع طبعاً أكبر بكثير من أن يعالجه مقال، إنما يبدو أن إرادتين – خارجية وإقليمية – اتفقتا، بقصد أو من دونه، على أن يكون الشكل «المقاوم» لقضايا كثيرة بالإطار الذي يظهر حالياً. نحن لا نقول إن التطرف صنيعة أميركا وحدها بالاتفاق مع عدد من دول المنطقة خلال الحرب على السوفيات في أفغانستان، بل نرى أيضا أن تربتنا النفسية والسياسية والعقائدية تحمل بذوراً طائفية أينعت كل هذه البشاعة، أما من سقاها وغذاها فحدّث بلا حرج... من جرح فلسطين النازف إلى النزف السياسي الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المستمر في بلاد العرب والمسلمين التي تخرج من تخلف لتدخل في تخلف آخر، ناهيك عن القهر والظلم والغبن والديكتاتوريات والتعسف والقمع وانعدام الآفاق وغياب الحريات.
هذا الوحش المتطرف كبر ويكبر باستمرار، وليس صحيحاً أنه أقلية الأقليات في مجتمعاتنا رغم أننا نتمنى ذلك. عندما كانت حركات التطرف الدينية الإسلامية تحبو رأت فيها الأنظمة العربية ورقة تضرب بها خصومها في الداخل من دون أي اهتمام بانعكاس ذلك على تخلف المجتمع بأسره، ورأت فيها الولايات المتحدة تحديداً ورقة تستخدمها في الحرب الباردة من جهة وتهدد بها الأنظمة الحليفة في المنطقة الأخرى من جهة ثانية. وعندما صارت هذه الحركات تمشي وأرادت لعب أوراقها هي لا أن تكون ورقة في أيدي الأنظمة وأميركا ووجهت بحرب مشتركة من الداخل والخارج، وواجهت بضرب أهداف مزدوجة في الداخل والخارج. وأذكر بعد 11 سبتمبر أننا أجرينا استفتاء آنذاك عن نظرة الناس لزعيم «القاعدة» أسامة بن لادن فكان أن غالبية من شاركوا في الاستفتاء رأت فيه... بطلاً!
عندما يتحول التطرف الإسلامي إلى كيان منظم رغم كل الحرب الكونية الدائرة ضده وينتقل من مجموعات إلى «تنظيم» إلى «دولة خلافة» فهذا يعني أن أسلحة الحرب فاسدة وأن أساليب المواجهة عقيمة، ثم يعني أن الاستمرار في الحرب بالأسلحة والأساليب نفسها يفضح ليس جهلاً أميركيا فحسب بل ربما ما هوأكثر.
هل المطلوب أن يكون المسلمون في الألفية الثالثة كيانات طائفية متناحرة لا مجموعات تعيش في دول مستقرة؟ هل المطلوب أن تنتهي قصة حركات التحرر والثورة وتحل محلها حركات طائفية تعتبر أن إخوتها في الوطن والدين أعداءً لها ومحاربتهم أولوية قبل الآخرين؟ هل المطلوب أن نرى شباب العالم يتسابقون على اقتحام الاكتشافات العلمية الخطيرة وأن نرى شبابنا في المغاور يحملون السكاكين تحت الرقاب ويسبون النساء ويمارسون الإبادة باسم الشرع؟
أميركا لن تتغير، وبعض الأنظمة العربية لن يتغير، ووحش التطرف لن ينام إلا إذا استيقظنا... لكن المشكلة أن كهوفنا كبيرة وعميقة، والأطراف الثلاثة التي ذكرناها تتفق - كل على طريقته - في منعنا من رؤية الشمس.
جاسم مرزوق بودي
تراجعت «استعمارات» مكشوفة وتقدمت «استعمارات» مبطنة، وتبدلت أنظمة وتغيرت دول. بعض هذه التغيرات كان يدار بالكامل من الخارج وبعضها الآخر بتوافق مصلحي بين دعم خارجي وتطلعات داخلية في التغيير. المهم أن خريطة من الحركات والمنظمات تكونت بشكل مخيف كان الكثير منها يعتقد نفسه محور العالم ليكتشف لاحقاً أنه رصاص حار في بنادق الحرب الباردة.
شمل الأمر العالم بأسره، من جنوب أميركا إلى جنوب آسيا مروراً بأوروبا وأفريقيا. كانت دول حلف شمال الأطلسي تحشد لمحاصرة الاتحاد السوفياتي والشيوعية وكان الاتحاد السوفياتي يحشد لمحاصرة أميركا والإمبريالية. وكانت كل حركات التحرر أو التمرد أو الثورة تتفاعل بزخم كبير مع كل تفاصيل الحرب الباردة سواء تعلق الأمر بحصار برلين أواخر أربعينيات القرن الماضي وما تلاها أو الحرب الكورية أو حرب فيتنام أو أزمة خليج الخنازير والصواريخ في كوبا وربيع براغ أو الغزو السوفياتي لأفغانستان وحروب دول أميركا اللاتينينة والحروب العربية – الإسرائيلية... كل ذلك وغيره كان يرتبط بطريقة أو بأخرى بالسجال العالمي بين كتلتين ضخمتين.
عشرات المنظمات والرموز اليسارية ومثلها عشرات المنظمات والرموز اليمينية تسيدت المشاهد المحلية والدولية سياسياً وأمنياً وعسكرياً. بعضها كان وما زال يعتبر لدى مناصريه حركات تحرر وطنية شريفة ولدى معارضيه حركات إرهاب أو في أفضل الأمور «حركات ضلت الطريق الصواب باستخدام العنف»... إنما القاسم المشترك بين الجميع (باستثناء قلة قليلة) أنها لم تكن حركات دينية بل يغلب عليها الطابع العلماني، وأنها كانت تجتذب أعضاء ومناصرين ومتعاطفين من مختلف الدول والمذاهب والأديان، بل حتى ان الأحزاب التي كان لها نفوذ كبير في أوروبا ما بعد الحرب الثانية وكانت تعتمد تسمية «المسيحي الديموقراطي» تخلت شيئاً فشيئاً عن «مسيحيتها» وتحولت تدريجياً إلى أحزاب وطنية شاملة وغيرت أسماءها.
انتهت الحرب الباردة عمليا بإسقاط الاتحاد السوفياتي على الأرض في أفغانستان وبإسقاطه في الجو عبر «حرب النجوم» والإنهاك الكبير للقدرات والمال. تساقطت دول المعسكر الشرقي كأوراق شجر الخريف وبقيت بعض الحركات نشطة إلى يومنا هذا فيما توارت حركات كثيرة وانقرضت. تغير العالم وتغيرت تكتلاته وتغيرت أسس هذه التكتلات في اتجاه اقتصادي أكثر من عقائدي وحلت ثورات التكنولوجيا والاتصالات مكان الثورات الشعبية... ثم برزت ظاهرة الحركات الإسلامية المتطرفة المسلحة التي ظن كثيرون أنها من آثار الزلزال الأفغاني وستنتهي أو تخف مع اختفاء توابعه إلا أنها استمرت عاكسة واقعاً مأسوياً يعيشه العرب والمسلمون.
لماذا يرث التطرف الديني المسلح عشرات حركات التحرر المحلية والعالمية؟ ولماذا يستحوذ وحده على الصورة الضخمة للإرهاب بينما كانت حركات التمرد أو الثورة تاريخياً أقرب منها إلى الشأن الوطني التحرري رغم جنوح بعضها إلى الإرهاب أو حتى تصنيفها من قبل كثيرين في خانة الإرهاب؟
الموضوع طبعاً أكبر بكثير من أن يعالجه مقال، إنما يبدو أن إرادتين – خارجية وإقليمية – اتفقتا، بقصد أو من دونه، على أن يكون الشكل «المقاوم» لقضايا كثيرة بالإطار الذي يظهر حالياً. نحن لا نقول إن التطرف صنيعة أميركا وحدها بالاتفاق مع عدد من دول المنطقة خلال الحرب على السوفيات في أفغانستان، بل نرى أيضا أن تربتنا النفسية والسياسية والعقائدية تحمل بذوراً طائفية أينعت كل هذه البشاعة، أما من سقاها وغذاها فحدّث بلا حرج... من جرح فلسطين النازف إلى النزف السياسي الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المستمر في بلاد العرب والمسلمين التي تخرج من تخلف لتدخل في تخلف آخر، ناهيك عن القهر والظلم والغبن والديكتاتوريات والتعسف والقمع وانعدام الآفاق وغياب الحريات.
هذا الوحش المتطرف كبر ويكبر باستمرار، وليس صحيحاً أنه أقلية الأقليات في مجتمعاتنا رغم أننا نتمنى ذلك. عندما كانت حركات التطرف الدينية الإسلامية تحبو رأت فيها الأنظمة العربية ورقة تضرب بها خصومها في الداخل من دون أي اهتمام بانعكاس ذلك على تخلف المجتمع بأسره، ورأت فيها الولايات المتحدة تحديداً ورقة تستخدمها في الحرب الباردة من جهة وتهدد بها الأنظمة الحليفة في المنطقة الأخرى من جهة ثانية. وعندما صارت هذه الحركات تمشي وأرادت لعب أوراقها هي لا أن تكون ورقة في أيدي الأنظمة وأميركا ووجهت بحرب مشتركة من الداخل والخارج، وواجهت بضرب أهداف مزدوجة في الداخل والخارج. وأذكر بعد 11 سبتمبر أننا أجرينا استفتاء آنذاك عن نظرة الناس لزعيم «القاعدة» أسامة بن لادن فكان أن غالبية من شاركوا في الاستفتاء رأت فيه... بطلاً!
عندما يتحول التطرف الإسلامي إلى كيان منظم رغم كل الحرب الكونية الدائرة ضده وينتقل من مجموعات إلى «تنظيم» إلى «دولة خلافة» فهذا يعني أن أسلحة الحرب فاسدة وأن أساليب المواجهة عقيمة، ثم يعني أن الاستمرار في الحرب بالأسلحة والأساليب نفسها يفضح ليس جهلاً أميركيا فحسب بل ربما ما هوأكثر.
هل المطلوب أن يكون المسلمون في الألفية الثالثة كيانات طائفية متناحرة لا مجموعات تعيش في دول مستقرة؟ هل المطلوب أن تنتهي قصة حركات التحرر والثورة وتحل محلها حركات طائفية تعتبر أن إخوتها في الوطن والدين أعداءً لها ومحاربتهم أولوية قبل الآخرين؟ هل المطلوب أن نرى شباب العالم يتسابقون على اقتحام الاكتشافات العلمية الخطيرة وأن نرى شبابنا في المغاور يحملون السكاكين تحت الرقاب ويسبون النساء ويمارسون الإبادة باسم الشرع؟
أميركا لن تتغير، وبعض الأنظمة العربية لن يتغير، ووحش التطرف لن ينام إلا إذا استيقظنا... لكن المشكلة أن كهوفنا كبيرة وعميقة، والأطراف الثلاثة التي ذكرناها تتفق - كل على طريقته - في منعنا من رؤية الشمس.
جاسم مرزوق بودي