الرأي اليوم / علّة الكويتي !

تصغير
تكبير
يبتسم الدكتور عبد الرحمن، المتخرج حديثاً من كندا بتقدير عال، وهو يستمع في الديوانية التي اعتاد حضورها مرة في الأسبوع إلى نظريات طبية عن أحدث علاجات انسداد الشرايين والصمامات أو أنجح أدوية مكافحة الكوليسترول وضبط الضغط. وسبب ابتسامته يعود إلى أنه طبيب القلب الوحيد بين الأشخاص العشرين الجالسين حوله، وإلى أنه اعتاد كل أسبوع أن يبادره أحد بسؤال طبي وقبل أن يفتح فمه ليرد يبدأ الحاضرون بالإجابة... هذا يشخص الحالة، وذاك يتحدث عن الآثار السلبية للدواء وثالث يدخل غرفة العمليات، ورابع يحمل المشرط، وخامس يقفل الجرح، وسادس يفتح غرفة الإنعاش.

وأطرف ما في الموضوع أن النقاش يشتعل بين رواد الديوانية إذا اعتبر أحدهم أن الآخر يدلي بمعلومات غير دقيقة، ويبدأ سجال طبي بين الجميع لا يخلو من الحدة أحيانا يتبعه انسحاب «أبو خالد» مثلا لأن «أبا محمد» طعنه في معلوماته أو شكك بها، ما يستدعي تدخل صاحب الديوانية لإعادته وتغيير الموضوع من الطب إلى حالة المناخ مثلا، ليجد الدكتور عبد الرحمن نفسه محاطاً بعشرين خبيراً جوياً بدل العشرين طبيباً، فيمكث قليلا ثم يستأذن وينصرف وسط شكر وثناء الحاضرين عليه وعلى معلوماته القيّمة التي... لم يدل بها.


هذا المدخل،على طرافته، يؤشر إلى أزمة ما في طريقة التفكير تكبر إذا ما وجدناها انسحبت على الوظيفة والإدارة والنيابة والوزارة والمستشارين وغيرهم، أما عنوان هذه الأزمة فيمكن أن يكون... «عدم التخصص».

وللإنصاف، فإن الكويت شهدت العديد من المشاكل نتيجة زحف مبدأ عدم التخصص على السلطات وبين السلطات. أن تجد في ديوانية واحدة الجميع أطباء والجميع مهندسين والجميع نقاد فن والجميع خبراء مناخ وزراعة وصناعة موضوع اجتماعي يدخل في باب الطرافة أحيانا ولا يتحول إلى مشكلة لأنه محصور في نطاق الكلام، أما إذا أصبح الموضوع حالة عامة امتدت إلى الإدارة فهنا المشكلة بأمها وأبيها.

تخيلوا مشروعاً حيوياً ما، عكف المختصون على دراسته من مختلف جوانبه، ورأوا أنه الأنسب للتنفيذ، وتحدثوا عن فوائده وعن الجوانب السلبية التي يمكن أن ترافقه وكيفية محاربتها، وربطوا بين توقيت البدء بالمشروع والمزايا التي يمكن أن تحصد من خلال هذا الربط سواء لجهة الأسعار أو تقلبات الصرف أو تذبذب أسعار النفط أو فترة الانتهاء نفسها. وتخيلوا أن اعتراضاً واجه المشروع من أطراف عدة أقلها صاحبة اختصاص وغالبيتها المطلقة ممن لا تخصص لديهم ويريدون فقط إما عرقلته لمصلحة ذاتية أو انتخابية أو شخصية أو كيدية، أو نتيجة معلومات معينة تفيد بوجود مثالب بسيطة فيه ويمكن النقاش حولها... إنما ولأن من يعترض لا خبرة لديه فإنه يحمل سيف الرفض على المشروع برمته بدل معالجة النقاط السلبية وينجح في تكوين حالة عامة رافضة فيتجمد المشروع وتوضع ملفاته قرب ملفات المشاريع السابقة المجمدة.

وعدم الاختصاص يقابله عدم اختصاص أيضا، فعندما يتراجع وزير أو وكيل أو مدير أو حكومة عن مشروع ما لأسباب غير فنية وغير مبررة ناتجة فقط عن خوف سياسي أو خوف من فتح ملفات أخرى أو خوف من «لخبطة» صفقة أو تفاهمات يجري العمل على إبرامها مع أكثر من طرف، فهنا أيضا نحن أمام أزمة تؤدي بصاحبها إلى شبهة هو في غنى عنها... أن تحمل مشروعاً حيوياً مكتمل الشروط وتحذر من مغبة التأخر في تنفيذه ثم تتراجع عنه فهذا يعني أحد أمرين: إما أنك متردد وخائف وهذا يعني أنك غير مسؤول وغير متخصص في الإدارة أساساً ولا تستحق منصبك، وإما أن المشروع غير سليم وهذا يعني أنك كنت تحاول تمريره بأساليب ملتوية وأنك من الأساس غير متخصص في مجالك.

إن كنت صاحب اختصاص وفي موقع المسؤولية وفي أي قطاع وعندك مشروع متكامل الأركان، قانوني الجوانب، مفيد للبلد، فلا يوجد أبداً ما يمنعك من المضي فيه حتى النهاية بل لا يوجد ما يمنعك من منع عديمي الاختصاص من التدخل حتى لو وصل سجالك معهم سقفاً عالياً، وإن حصلت ضغوطات «عليا» لحضك على التراجع مقابل أن تبقى في منصبك وأن يهدأ السجال فقمة الشرف أن تستقيل وتعلن الأمور كما هي، لأن الكويتيين ملوا من هذه الاسطوانة المشروخة التي استمرت سنوات وحولت صاحب الاختصاص إلى فاشل و«خايب» فيما حولت عديم الاختصاص إلى ناجح و... بطل.

آن الأوان لأن يتحدث كل مسؤول كويتي باختصاصه ويدافع عنه، مهما كان هذا الاختصاص وفي أي مجال، يتساوى في ذلك متلقي المعاملة في أي إدارة مع صاحب القرار في أي وزارة. وآن الأوان لكي تتوقف كل عمليات زحف الاختصاصات على بعضها وأيضا بدءاً من متلقي المعاملات في أي إدارة وانتهاء بالسلطات الناظمة للحكم. وآن الأوان لأن تتوقف الكويت وأجيالها عن دفع ثمن هذا الخلل الفظيع الذي أدى إلى تجميد مشاريع كثيرة من جهة وخسارتنا لفرص وفرة مالية قد لا تتكرر من جهة أخرى.

بين الأحاديث الاجتماعية وقرارات البلد الاقتصادية قاسم مشترك، إنما على عكس الدكتور عبد الرحمن الذي شكره رواد الديوانية على مداخلاته الطبية التي «لم يدل بها»، فإن الحكومات والإدارات الكويتية ستتلقى لوماً تاريخياً على مشاريعها التي... «لم تقم بها».

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي