الرأي اليوم / قفز الأرنب !

تصغير
تكبير
فتاتان في سيارة خاصة، تصور إحداهما نفسها وتقول بمزاح إنها تعرِف بصديقتها. تهز صديقتها كتفيها على وقع نشيد «قفز الأرنب» للشاعر سليمان العيسى، بحركة مترافقة مع إشارات يمكن أن تعطي انطباعات يفسرها الإنسان كما يريد وكما تريد مخيلته... إنما المشهد نفسه عادي جدا ونشاهد مثله عشرات المرات في اليوم في المسلسلات التلفزيونية ولا يتجاوز القانون في شيء.

طبعا سيقول البعض إننا في مجتمع محافظ وعلى الفتاة عند استخدام كاميرات الموبايل ألا تضع نفسها في موقع الاسترابة أو الشك، وأن تعرف أن المزاح البريء أو غير البريء قد ينتشر بسرعة لأن وسائل التواصل الاجتماعي لا تنتظر ومستخدميها لا يرحمون، وقد يصنف المزاح في خانة «خدش الحياء العام»... إنما لا بد من كلمة في هذا المجال أتمنى أن تفهم بشكلها الصحيح.


فتاتان تمزحان في سيارة خاصة، أي في مكان يعتبر قانونياً كأنه منزلهما ولا يجوز تفتيشه أو تجريم أي شيء يحصل داخله إلا بإذن من النيابة، يتسرب شريط كلامهما (وأكرر الكلام العادي) من قبل آخرين. وبدل أن يتوقف ويعاقب من سرب الشريط وانتهك الخصوصية يتم توقيف الفتاتين والتحقيق معهما بل يتردد أنهما ستحالان على النيابة، إضافة إلى ما لحق بهما وبذويهما من تشهير.

جميعنا مع القانون، وتحت سقف القانون، إنما مع التطبيق الصحيح له وعدم خضوع هذا التطبيق لمبدأ «الهلع» الذي كتبنا عنه كثيراً. هنا، في حالة الفتاتين تصرف من أوقفهما تحت ضغط تغريدات وسائل التواصل الاجتماعي التي نسي أصحابها كل مشاكل الديرة وحرائق الإقليم وركزوا على «الأرنب» الذي قفز من السيارة إلى موبايلات خلق الله وكأنه فضيحة الفضائح وتهديد للأمن القومي، وأرفقوا ذلك بدعوات للسلطات المختصة بأن تتحرك ولا تتقاعس وإلا فإن التاريخ لن يرحمها والحاضر لن يواطنها والمستقبل لن يستقبلها، فما كان من هذه السلطات إلا التحرك وتوقيف الفتاتين والتحقيق معهما فأجابتا بكل بساطة إن ما حصل هو «سوالف بنات» ومزاح داخلي وانهما لا تعرفان كيف تسرب الشريط وصار قضية عامة.

أرهب بعض المغردين السلطة، ولا بد من الاعتراف أن هؤلاء حولوا «تويتر» إلى مواقع مأجورة تبيع وتشتري, وصاروا أبواقاً لأشخاص يستأجرونهم لتصفية حسابات... وبعض هؤلاء الأشخاص في السلطة أيضا للأسف.

المهم أن رجال المباحث أوقفوا الفتاتين بسرعة قصوى كون الوجوه واضحة في الشريط وكون الفتاتين «تتغشمران» بلا خلفية سياسية أو حزبية وقد يكون ذلك من سوء حظهما، لأن كثيرين مخالفين لديهم خلفيات سياسية وحزبية واجتماعية تحصل مليون واسطة قبل أن يتوجه رجال المباحث لتوقيفهم، وإذا أوقفوا تحصل مليون واسطة لعدم تسجيل قضية، وإن سجلت قضية تحصل مليون واسطة لحفظها، وإن لم تحفظ تحصل مليون واسطة لتغيير إفادات... يقفز أرنب الضغوط السياسية بسرعة شديدة ويتقدم إلى المعاملات وتربط بعض الأمثال الشعبية في مصر اسمه أحيانا بالصفقات فيقال «المعاملة دي فيها أرنب» أي مليون جنيه.

وإذا افترضنا أن ما قامت به الفتاتان هو خدش للحياء العام رغم أن هناك من انتهك الخصوصية ووزع التسجيل، فلماذا لا نرى هذا النشاط الخطير الذي أدى إلى سرعة توقيفهما في مجالات أخرى مثل الجرائم والسرقات والاعتداءات والعنف الشبابي والمنزلي والمخدرات. لست أنا من يقول ذلك بل هو وكيل وزارة الداخلية الذي تحدث مع المباحثيين من مختلف الرتب وقال لهم إن توقيف «المخالفين أخلاقياً» من الجنسين أمر مهم لكنه ليس نهاية المطاف أو أساس العمل، فمكافحة الجريمة والحيلولة دون حصولها أولوية وكذلك ضبط مرتكبيها، واعتقال تجار المخدرات أهم من اعتقال مروجيها، وتوقيف الرؤوس المستوردة لـ «الشبو» أهم من توقيف المتعاطين، وضبط خلية إرهابية أهم من ضبط شبان وشابات يرقصون في مكان خاص أو عام.

والأهم من ذلك كله وكي يكون العدل في الرعية، هل «جريمة» هز الكتفين في «قفز الأرنب» أهم من جريمة القفز على كل المعايير الإنسانية والأخلاقية التي يرتكبها البعض في وسائل التواصل الاجتماعي طاعناً بأعراض الناس وذممهم وكراماتهم؟ هل هي أخطر من شتم شخص لشخص آخر علناً في «تويتر» واتهامه في ذمته المالية ووصفه دون دليل أو إثبات بالسارق أو المخالف أو حتى الخائن؟ هل هي تهدد الأمن القومي وتزعزع الاستقرار أكثر من كلام طائفي بغيض من هنا وهناك؟ أو كلام يمس رموزاً أساسية في الدولة؟ أو كلام متطرف يغسل عقول الشباب ويحرضهم ضد كل ما في الدنيا ويجندهم ليصبحوا قنابل بشرية؟ أو مؤامرات معروفة وجوهها ومكشوفة أهدافها لضرب النظام؟

طبعا سيكون الجواب أن الفتاتين كانتا هدفاً سهلاً للمباحث وكان وجهاهما مكشوفين، وأن عشرات الحسابات التي تسيء لأهل الكويت أصحابها يستخدمون أسماء وهمية وربما أرقاما خارجية. يريدون إقناعنا أن دولة مثل الكويت عاجزة عن الوصول إلى أصحاب حسابات تسيء إلى الناس والمجتمع والنظام فيما كل الدول القريبة والبعيدة تمتلك أجهزة إلكترونية كاشفة، ويريدون إقناعنا أن أجهزة السلطة لا تعرف حقيقة من يقف وراء هذه الحسابات، ويريدون إقناعنا أن السلطة حتى وإن عرفت إلا أن توقيف الشخص المسيء أو «المايسترو» الذي يديره قد يثير مشاكل هي في غنى عنها، ويريدون إقناعنا أن الواسطات لا تتدخل في قضايا الجريمة والسرقات والمخدرات والمخالفات الإدارية والمالية، ويريدون إقناعنا أن غض النظر أحياناًعن الخطاب الطائفي والمذهبي والانقسامي ضرورة لاستمالة هذا الطرف أو ذاك.

فتاتا «قفز الأرنب» تم توقيفهما لأنهما مازحتا أصدقاء لهما ولأنهما مكشوفتا الوجه ولا تشكلان خطراً... وجوه أخرى كثيرة مغطاة ومخفية لا تمزح في مخططاتها وما زالت طليقة رغم الخطر الذي تمثله على الناس والمجتمع والنظام... وجوه كثيرة ظاهرها بشر وباطنها ذئب، والذئاب – لا الأرانب – أولى بالملاحقة.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي