الرأي اليوم / ... الهلع !

تصغير
تكبير
هل كتب على الكويت أن تتصرف حكوماتها دائما نتيجة ضغط أو هلع أو خوف أو ردات فعل؟ سؤال يمتلك مشروعية كبيرة في ضوء القرارات التي اتخذت وستتخذ غداة تراجع أسعار النفط وما تلاها من تهاوٍ للبورصات في المنطقة والآثار المتوقعة على مجمل المشاريع الاقتصادية.

الطبيعي، أن الحكومة التي تملك الرؤية، وتعرف كيف تقرأ المستجدات والتطورات وكيف تتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وتؤمن أن الحكم مسؤولية وهيبة في الوقت نفسه. هذه الحكومة يجب أن تمضي في مخططاتها وسياساتها من دون الالتفات لأي طرف أو الخوف من أي صوت طالما أنها تسير في المسار الصحيح بغض النظر عن النجاح الكامل أوالجزئي لهذه المسيرة.


كان الصوت العالي يغير برنامجاً، والتهديد بالتصعيد يلغي قراراً، والتحذير من أزمة يحيل المشاريع إلى مقابر اللجان، والتسويات الخاصة تطيح بمخططات عامة... أو هل نسينا مسيرة الأعوام العشرين السابقة؟

وكان الحديث عن ترشيد أو تقنين أو اتخاذ إجراءات تهدم ذهنية دولة الترف وترسّخ قيم العمل والإنتاج... ضرباً من الخطأ أو التخوين أحياناً. وكل من نادى بذلك وجد نفسه في مرمى نيران المستفيدين من الخطاب الشعبوي الذي دمّر أكثر مما عمّر. تتراجع الحكومة وتتأجل القرارات خوفاً من أن يقال إن التعاون مفقود أو إن «التضييق على الناس تم في عهدي».

اليوم وجدت الحكومة نفسها أمام تراجع أسعار النفط وما سينتج عنه من تراجع في المداخيل. أصيبت الكويت كلها بالهلع وبدأت تظهر تباعاً قرارات ترشّد الإنفاق وتقلص الصرف وتشد الحزام. لماذا؟ ألم يكن من الأجدى أن تتّخذ هذه القرارات وقت الوفرة المالية كي لا تظهر الحكومة بمظهر الضعيف الخائف الذي اضطر نتيجة ظرف طارئ إلى اعتماد إجراءات كان من الطبيعي أن تعتمد منذ زمن طويل؟ هل كان للارتباك الحاصل اليوم مبررات فعلية؟

الجواب واضح، وهو أن النهج الحكومي ما زال أسير نمط معين امتد لعقود ونعتقد أن الفرصة سانحة اليوم لتغييره. ونتمنى (وما نيل المطالب بالتمني) ألا تقتصر إجراءات الحكومة على معالجة تأثير انخفاض أسعار النفط, بل أن تتخذ قرارات مستقبلية بغض النظر عن بقاء الوضع القائم حاليا أو انتهائه، فما اتخذ من قرارات في الأيام الماضية كان يجب أن يتم قبل سنوات طويلة لأن ترسيخ قيم «الدولة الراعية لكل شيء» جريمة حقيقية بحق الأجيال، خصوصاً أن الأمر لم يكن يتم على أسس علمية مستندة إلى أرقام وفوائض بل على أسس مصلحية لإرضاء هذا الطرف أو اتقاء لغضب ذاك الطرف أو من أجل استقطاب شعبية مزيفة قائمة على العطاء والخدمات.

الخطأ كل الخطأ أن تستغل هلع الناس من انخفاض أسعار النفط لتمرير قرارات كان يجب أن تكون في صلب السياسات الحكومية منذ عقود. والصواب كل الصواب أن تتخذ المزيد من القرارات حتى لو عادت أسعار النفط إلى الارتفاع لإلغاء مفهوم «الدولة الراعية لكل شيء».

ومن أقوى صور الارتباك الحكومي المعطوف على «الهلع» الشعبي، قضية تراجع الأسهم في البورصة، حيث ترتفع أصوات اقتصادية ونيابية وشعبية بشعار «وا... أسهماه»، ويبدأ الضغط على الحكومة كي تتدخل لإعادة الروح إلى سوق الأوراق المالية ورفع ما انخفض وضخ المال والشراء وتشكيل محافظ والدخول كشريك إيجابي يرفع الأرباح ويتحمل الخسائر. فعلت الحكومات دائما ذلك واخضرت عيون الوزراء مع الأسهم الصاعدة رغم جملة الأخطاء التي حصلت وازداد مرض البورصة مرضاً.

تعلم الحكومة والمختصون أن لا بورصة حقيقية وفق أسس احترافية مهنية في الكويت بمعنى المرآة التي تعكس حقيقة الاقتصاد. هناك مبنى جميل، ومضاربون، وبعض المضاربين يقامرون بأموالهم من دون الالتفات إلى المعايير الصحيحة وهؤلاء يتحملون مسؤوليتهم، والدليل أن الانخفاضات الكبرى تكون في أسهم الشركات الملتبسة أوضاعها أو التي تمر بأزمات. إضافة إلى ذلك، فإن هبوط البورصة الذي نشهده اليوم هو هبوط إقليمي مرتبط بالتطورات النفطية والمالية والسياسية الدولية وليس هبوطاً مقتصراً على الكويت أو على عوامل اقتصادية ومالية خاصة بالكويت.

وحتى نكون منصفين، فالمسؤولية لا تتحملها الحكومة وحدها، وعلى أعضاء مجلس الأمة أن يغيروا أيضا من نهجهم رحمة بالبلاد وحرصاً على مصالح العباد. وبكل صدق نقول، إنه لا يشرف عضو مجلس أمة أن يعطل قراراً يتعلق بشأن حيوي مستقبلي من أجل بضعة أصوات في الدائرة، وأن يعرف أن الخدمات والمساعدات جائزة إنما تحت سقف القانون، وأن تدمير الإدارة بالواسطات يمنحه رضا الناخبين إلا أنه يحمل ضميره وكاهليه مسؤولية كبيرة، وأن تعطيله قرارات ترشّد الإنفاق العام ودعم أخرى «شعبوية» تزيد من أعباء الموازنة لا يجعلانه ينتصر في مواجهة سلطة أخرى بل ينهزم في بلد تراجعت كل سلطاته.

مرة أخرى، لا نريد أن نقول إن دولة الرفاه انتهت بل يمكن القول إن دولة الترف انتهت. نريد من الحكومة والمجلس إجراءات قاسية للحفاظ على مستوى جيد من الرفاهية تحتاجه الكويت ويستحقه الكويتيون. فأن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً لأن استمرار نهج السلطتين القائم على قرارات الهلع والخوف وردات الفعل أمر مدمر لحاضر الكويت ومستقبلها، وقبل أن نقول دولة رفاه أو دولة تقشف يجب أن تبقى لنا... دولة.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي