الرأي اليوم / الوزن النسبي ... للحكومة !


لست خبيراً تربوياً لتقييم أنظمة وسياسات ومناهج الوزارة، لكنني أعلم أن كل الأنظمة التعليمية في العالم توضع بعناية فائقة لأنها تتعلق بالتنشئة وتكوين المعارف والشخصيات ولأنها الجسر الفعلي للعبور إلى مستقبل مهني.
في الكويت، دخلت الحكومة قبل أيام إلى مجلس الأمة فوجدت وجوهاً عابسةً وسمعت همهمات ولمست تحذيرات، فما كان منها إلا أن أوعزت إلى وزير التربية بسرعة تجميد نظام الوزن النسبي الذي يعطي الأفضلية للمواد الأساسية ويدمج بين الأداء العام والحضور والمتابعة والمشاركة من جهة وبين الامتحانات من جهة أخرى، فانفرجت أسارير النواب وانقلبت الوجوه العابسة إلى أخرى فرحة وحلت تصريحات الإشادة بالوزير والحكومة محل تصريحات التنديد التي كانت محضّرة، ووعدت الحكومة بإيجاد نظام آخر خلال شهر.
أكرر، لست خبيراً تربوياً لتقييم الأنظمة، لكنني أزعم أن أي كويتي صار خبيراً في تشخيص علة الحكومات الكويتية وهي ترددها وتراجعها في أمور استراتيجية أمام عوائق ظرفية. والمفروض في الدول الراقية أن النظام التربوي عندما يوضع فإنما يبنى على تاريخ طويل من البحث والدراسة واستلهام التجارب، ويعطى فرصته في التجربة لتكوين إطار عام يحكم العملية التعليمية. أما أن يجمد بعد ذلك كله لأن طلاباً رفضوه ولأن نواباً هددوا بالهجوم على الحكومة (هذه المرة لم يهاجموا بل هددوا فقط) فتلك أم العيوب... خصوصا مع تبرير الحكومة غداة التجميد أن نظام الوزن النسبي فائدته غير معروفة و«لا تفسير دقيقاً له».
التربية يا جماعة الخير ليست مختبراً يجوز للحكومة في أي وقت أن تجري تجاربها المترددة فيه وأبناؤنا ليسوا فئران اختبار، والوضع التعليمي المتردي في بعض المراحل يعكس تماماً علل الحكومات وخيباتها، فالتنمية ليست جسراً يبنى أو شارعاً يشق أو أبراجاً تنطح السحاب فهذه كلها من دون بناء الإنسان وتكوين معارفه بالشكل الصحيح تساوي أصفاراً. والتعليم ليس صفقة تجارية تخضع لعوامل التجاذب بين نواب ووزراء بل هو جوهر أي تنمية والأساس الذي تبنى عليه المجتمعات وتتحصن به الدول.
نعود إلى الموضوع الرئيسي... إلى علة الحكومة. نستذكر طالما نتحدث عن التربية جملة قرارات تمت العودة عنها. نتذكر كيف تغيرت القرارات في جامعة الشدادية المتعلقة تحديداً بكلية الطب من إقامة مبنى واحد، إلى مبنى بجناحين منفصلين، إلى مبنيين منفصلين، وهو الأمر الذي أدى إلى تأخير عشر سنوات وربما أكثر. نتذكر اتخاذ قرار بحذف عبارات من المناهج ثم التراجع. نتذكر قرار فصل ولي الأمر عن ابنه الطالب في المدرسة نفسها ثم التراجع عنه.
ومن التربية إلى غيرها، نستذكر جميعا قصة تأسيس شركة مساهمة عامة للخدمات اللوجستية، والمعلوم أن الشركات كي تتأسس تمر بمراحل كثيرة من الدراسات والمتطلبات التي يجب الإيفاء بها، وعندما تتأسس ترتبط هذه الشركات بالتزامات مادية وأدبية وتنفق الكثير لمراحل الانطلاق، إنما فجأة وبسبب مؤثرات سياسية مصحوبة بضغوط نيابية بحجج تتعلق بوجوب وجود أرض للشركة قبل تأسيسها تلغي الحكومة، كالمعتاد، مرسوم تأسيس الشركة برمته مع أن البدائل المتاحة أمامها لتصحيح الأوضاع وإيجاد حلول للسبب التقني كثيرة جداً.
«داو» كيميكال وما أدراك ما الـ«داو»، وهو الموضوع الأكثر وضوحاً ربما على التخبط في اتخاذ القرار والتداخل في الصلاحيات، وقرارات بالجملة تتعلق بالمرور ونسب السرعة وتعديل القوانين فتارةً السير بسرعة معينة مسموح وطوراً ممنوع، والسير على حارة الأمان ممنوع فمسموح فممنوع فمسموح جزئيا، وقرارات تتعلق بالشؤون والعمالة وحقوق الانتقال من مادة إلى أخرى في بنود الإقامة والزيارة... وكلها مثل البورصة أحيانا في التعديل والتبديل والمنح والمنع. وجميعنا يذكر كيف انبرى نائب قبل خمس سنوات مهاجماً مندداً بقرار رئيس الأركان في ما يتعلق بتسجيل الطلبة في كلية علي صباح السالم ثم استجابت الحكومة لطلبه وألغت قرار رئيس الأركان، ناهيك عن التخبط في قضايا الجنسية وإلغاء ما تضمنته مراسيم في هذا الشأن، وقرارات عدم التجديد للقياديين في مجلس الوزراء وديوان الخدمة والنفط وغيرها من المؤسسات ثم التجديد لهم بصورة مفاجئة.
هذا غيض بسيط من فيض التردد والتراجع عن القرار. وإذا فتحنا الباب لأمثلة من مختلف القطاعات لما أمكن إقفاله. ونحن هنا لا ندافع عن القرار الموجود أو نعتبره مثالياً إنما ندافع عن حق المواطن العادي في رؤية حكومة تتخذ قراراً وتدافع عنه وتعطيه حقه في التجربة ثم تطلب تقييمه أو تخضع للمساءلة في شأنه. ندافع عن حق الناس في رؤية حكومة لا تضيع الوقت والجهد والمال ثم تخرج بعد سنوات من الدراسة والبحث وفرق المستشارين ومكاتب وشركات دولية متخصصة بقرار تلغيه قبل أن تضعه موضع التنفيذ.
مرة أخرى لسنا خبراء في اختيار الأنظمة التربوية والتعليمية الأفضل، ولا نقول إن «الوزن النسبي» أفضل من غيره، ولسنا خبراء في وضع قوانين تنظيم العمل للشركات والمؤسسات، ولا بالنسبة لقوانين المرور ولا لمراسيم الجنسية ولا شؤون المؤسسات العسكرية والأمنية... لكننا نعرف أن الحكم قرار وأن غياب القرار ينتقص من هيبة الحكم، ونعرف أكثر أن «الوزن النسبي» للحكومة اليوم لا يتمتع بالثقل المطلوب.
إما أن الحكومة لا تعرف كيف تتخذ قراراً وتلك مصيبة، وإما أنها تتراجع عن القرار خوفاً من احتجاج هنا أو مساءلة هناك وتلك مصيبة أكبر... وفي الحالتين الكويتيون يستحقون نهجاً أفضل من ذلك.
جاسم مرزوق بودي
في الكويت، دخلت الحكومة قبل أيام إلى مجلس الأمة فوجدت وجوهاً عابسةً وسمعت همهمات ولمست تحذيرات، فما كان منها إلا أن أوعزت إلى وزير التربية بسرعة تجميد نظام الوزن النسبي الذي يعطي الأفضلية للمواد الأساسية ويدمج بين الأداء العام والحضور والمتابعة والمشاركة من جهة وبين الامتحانات من جهة أخرى، فانفرجت أسارير النواب وانقلبت الوجوه العابسة إلى أخرى فرحة وحلت تصريحات الإشادة بالوزير والحكومة محل تصريحات التنديد التي كانت محضّرة، ووعدت الحكومة بإيجاد نظام آخر خلال شهر.
أكرر، لست خبيراً تربوياً لتقييم الأنظمة، لكنني أزعم أن أي كويتي صار خبيراً في تشخيص علة الحكومات الكويتية وهي ترددها وتراجعها في أمور استراتيجية أمام عوائق ظرفية. والمفروض في الدول الراقية أن النظام التربوي عندما يوضع فإنما يبنى على تاريخ طويل من البحث والدراسة واستلهام التجارب، ويعطى فرصته في التجربة لتكوين إطار عام يحكم العملية التعليمية. أما أن يجمد بعد ذلك كله لأن طلاباً رفضوه ولأن نواباً هددوا بالهجوم على الحكومة (هذه المرة لم يهاجموا بل هددوا فقط) فتلك أم العيوب... خصوصا مع تبرير الحكومة غداة التجميد أن نظام الوزن النسبي فائدته غير معروفة و«لا تفسير دقيقاً له».
التربية يا جماعة الخير ليست مختبراً يجوز للحكومة في أي وقت أن تجري تجاربها المترددة فيه وأبناؤنا ليسوا فئران اختبار، والوضع التعليمي المتردي في بعض المراحل يعكس تماماً علل الحكومات وخيباتها، فالتنمية ليست جسراً يبنى أو شارعاً يشق أو أبراجاً تنطح السحاب فهذه كلها من دون بناء الإنسان وتكوين معارفه بالشكل الصحيح تساوي أصفاراً. والتعليم ليس صفقة تجارية تخضع لعوامل التجاذب بين نواب ووزراء بل هو جوهر أي تنمية والأساس الذي تبنى عليه المجتمعات وتتحصن به الدول.
نعود إلى الموضوع الرئيسي... إلى علة الحكومة. نستذكر طالما نتحدث عن التربية جملة قرارات تمت العودة عنها. نتذكر كيف تغيرت القرارات في جامعة الشدادية المتعلقة تحديداً بكلية الطب من إقامة مبنى واحد، إلى مبنى بجناحين منفصلين، إلى مبنيين منفصلين، وهو الأمر الذي أدى إلى تأخير عشر سنوات وربما أكثر. نتذكر اتخاذ قرار بحذف عبارات من المناهج ثم التراجع. نتذكر قرار فصل ولي الأمر عن ابنه الطالب في المدرسة نفسها ثم التراجع عنه.
ومن التربية إلى غيرها، نستذكر جميعا قصة تأسيس شركة مساهمة عامة للخدمات اللوجستية، والمعلوم أن الشركات كي تتأسس تمر بمراحل كثيرة من الدراسات والمتطلبات التي يجب الإيفاء بها، وعندما تتأسس ترتبط هذه الشركات بالتزامات مادية وأدبية وتنفق الكثير لمراحل الانطلاق، إنما فجأة وبسبب مؤثرات سياسية مصحوبة بضغوط نيابية بحجج تتعلق بوجوب وجود أرض للشركة قبل تأسيسها تلغي الحكومة، كالمعتاد، مرسوم تأسيس الشركة برمته مع أن البدائل المتاحة أمامها لتصحيح الأوضاع وإيجاد حلول للسبب التقني كثيرة جداً.
«داو» كيميكال وما أدراك ما الـ«داو»، وهو الموضوع الأكثر وضوحاً ربما على التخبط في اتخاذ القرار والتداخل في الصلاحيات، وقرارات بالجملة تتعلق بالمرور ونسب السرعة وتعديل القوانين فتارةً السير بسرعة معينة مسموح وطوراً ممنوع، والسير على حارة الأمان ممنوع فمسموح فممنوع فمسموح جزئيا، وقرارات تتعلق بالشؤون والعمالة وحقوق الانتقال من مادة إلى أخرى في بنود الإقامة والزيارة... وكلها مثل البورصة أحيانا في التعديل والتبديل والمنح والمنع. وجميعنا يذكر كيف انبرى نائب قبل خمس سنوات مهاجماً مندداً بقرار رئيس الأركان في ما يتعلق بتسجيل الطلبة في كلية علي صباح السالم ثم استجابت الحكومة لطلبه وألغت قرار رئيس الأركان، ناهيك عن التخبط في قضايا الجنسية وإلغاء ما تضمنته مراسيم في هذا الشأن، وقرارات عدم التجديد للقياديين في مجلس الوزراء وديوان الخدمة والنفط وغيرها من المؤسسات ثم التجديد لهم بصورة مفاجئة.
هذا غيض بسيط من فيض التردد والتراجع عن القرار. وإذا فتحنا الباب لأمثلة من مختلف القطاعات لما أمكن إقفاله. ونحن هنا لا ندافع عن القرار الموجود أو نعتبره مثالياً إنما ندافع عن حق المواطن العادي في رؤية حكومة تتخذ قراراً وتدافع عنه وتعطيه حقه في التجربة ثم تطلب تقييمه أو تخضع للمساءلة في شأنه. ندافع عن حق الناس في رؤية حكومة لا تضيع الوقت والجهد والمال ثم تخرج بعد سنوات من الدراسة والبحث وفرق المستشارين ومكاتب وشركات دولية متخصصة بقرار تلغيه قبل أن تضعه موضع التنفيذ.
مرة أخرى لسنا خبراء في اختيار الأنظمة التربوية والتعليمية الأفضل، ولا نقول إن «الوزن النسبي» أفضل من غيره، ولسنا خبراء في وضع قوانين تنظيم العمل للشركات والمؤسسات، ولا بالنسبة لقوانين المرور ولا لمراسيم الجنسية ولا شؤون المؤسسات العسكرية والأمنية... لكننا نعرف أن الحكم قرار وأن غياب القرار ينتقص من هيبة الحكم، ونعرف أكثر أن «الوزن النسبي» للحكومة اليوم لا يتمتع بالثقل المطلوب.
إما أن الحكومة لا تعرف كيف تتخذ قراراً وتلك مصيبة، وإما أنها تتراجع عن القرار خوفاً من احتجاج هنا أو مساءلة هناك وتلك مصيبة أكبر... وفي الحالتين الكويتيون يستحقون نهجاً أفضل من ذلك.
جاسم مرزوق بودي