خيرالله خيرالله / تركيا عندما تبدو وكأنها ليست تركيا...
تبدو تركيا كأنها ليست تركيا، البلد العضو في الحلف الأطلسي الواثق من نفسه وسياساته والقادر على أن يكون قوة إقليمية تلعب دوراً في إيجاد توازن ما في الشرق الأوسط. ما يمكن قوله في ضوء التطور السلبي الذي طرأ على العلاقات الأميركية -التركية، أنه تطور مرتبط مباشرة بالوضع داخل العراق الذي أثر تأثيراً قوياً على دول الجوار وبينها تركيا. أدى الاحتلال الأميركي للعراق إلى اختلال في العلاقات بين دول المنطقة لم تشف منه تركيا إلى الآن. ويبدو أن شفاءها منه ليس قريباً في ضوء الظروف المعقدة التي تمر بها المنطقة، والتي لا تشبه سوى ظروف إعادة تكوينها أثر انهيار الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى بين 1914 و1918 من القرن الماضي.
وجدت تركيا نفسها بعد حرب العراق الأخيرة التي اعترضت عليها منذ البداية أمام معطيات مختلفة. على سبيل المثال، ليس سهلاً على تركيا البقاء مكتوفة في حال استمرت العمليات التي يشنها حزب «العمال الكردستاني» داخل أراضيها انطلاقًا من كردستان العراق. كذلك ليس سهلاً على تركيا أن تقف موقف المتفرج من الكونغرس الأميركي الساعي إلى اتخاذ موقف يدين المجزرة التي تعرض إليها الأرمن مطلع القرن الماضي في تركيا. والمرجح أن تفشل نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، في جر الكونغرس إلى موقف معاد من تركيا بسبب الأرمن وقضيتهم، رغم أن إحدى اللجان صوتت مع إدانة تركيا بسبب مجازر الأرمن. وليس سهلاً على تركيا أن تكتشف أن إيران هي المنتصر الأول والوحيد من الاحتلال الأميركي للعراق، وأنها صارت لاعباً إقليمياً لا يمكن تجاهله، بعدما صارت تمسك بمعظم الأوراق في العراق وتتحكم بقرارت الأحزاب الشيعية الكبيرة التي ليست سوى امتداد لأجهزتها. وليس سهلاً على تركيا أن تكتشف أيضاً أن كل الأحداث التي يشهدها العراق تصب في اتجاه تهميش دورها على الصعيد الإقليمي، بما في ذلك استمرار حرمانها من النفط العراقي الذي بعض آباره قريبة من حدودها.
لا شك أن أكثر ما يقلق المسؤولين الأتراك ذلك الكيان الكردي الذي نشأ نتيجة حرب العراق، والذي يمكن أن يتحول إلى دولة مستقلة متى تهيّأت الظروف المناسبة لذلك. لا تستطيع تركيا تحمّل دولة كردية مستقلة على حدودها، هي التي تضم بين مواطنيها ملايين الأكراد الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية، ويعتبرون الدولة الكردية المستقلة طموحاً طبيعياً لهم...
هناك بكل بساطة ألف سبب وسبب لتشعر تركيا أنها خاسر كبير من الحرب الأميركية على العراق الذي كان حتى مطلع العشرينات من القرن الماضي جزءاً من الدولة العثمانية...وتتمثل الخسارة الأكبر لتركيا في وجود شبه دولة كردية في كردستان العراق غير قادرة على وضع حدّ للنشاط الإرهابي الذي يمارسه حزب «العمال الكردستاني» الذي نشأ وترعرع أواخر السبعينات من القرن الماضي وحصل في مرحلة لاحقة على حماية سورية له بهدف واضح كل الوضوح يتمثل في استخدامه ورقة ضغط سورية على تركيا في إطار الحرب الباردة. وما لبثت سورية في أواخر التسعينات وقبل أن يخلف بشّار الأسد والده في العام 2000، أن تخلت عن الحزب الكردي وعن زعيمه عبدالله أوجلان في ظل تهديدات تركية مباشرة لها بلغت حد التلويح باجتياح للأراضي السورية. وكان القرار السوري بالرضوخ للمطالب التركية في غاية الحكمة، وقد لعب بشّار الأسد دوراً أساسياً في اتخاذه رغم أنه لم يكن خلف والده بعد. المفارقة الآن أن الرئيس السوري يزور أنقرة لتأكيد دعم بلاده لتدخل عسكري تركي داخل الأراضي العراقية من أجل مواجهة حزب «العمّال الكردستاني» الذي كانت لديه قواعد في مرحلة ما في أراضيها وفي الأراضي اللبنانية التي كانت خاضعة للوصاية السورية، خصوصاً في سهل البقاع!
ما يفترض ألا يغيب عن البال أن الولايات المتحدة غيّرت خريطة الشرق الأوسط في اللحظة التي قرّرت فيها اجتياح العراق. غيّر الأميركيون النظام الإقليمي والتوازنات في الشرق الأوسط كله واستبدلوه بنظام جديد لم تتحدد معالمه بعد، باستثناء أن إيران باتت الطرف الأقوى في العراق وفي الإقليم كله نظراً إلى أنها تمتلك أوراقاً مهمة تمتد من بغداد إلى دمشق إلى بيروت...إلى غزة. ولذلك تبدو تركيا حالياً في وضع من يبحث عن دور في ظل التوازنات الجديدة التي جعلت العراق يتحدث بأكثر من لسان واحد لدى سعيه إلى معالجة ذيول العمليات الإرهابية التي استهدفت الجيش التركي انطلاقاً من شماله. بدا واضحاً أن هناك قراراً سياسياً مستقلاً في شمال العراق لا يأخذ في الاعتبار سوى مصلحة الأكراد!
ستتمكن الإدارة الأميركية، على الأرجح، من معالجة ذيول التصويت في إحدى لجان الكونغرس على إدانة المجازر التي ارتكبت في حق الشعب الأرمني في العام 1915 من القرن الماضي. لكن مشكلة كردستان العراق التي خلفها الاحتلال الأميركي للعراق ستظل تراوح مكانها لفترة طويلة. لن يكون في استطاعة الجيش التركي شن عمليات بالطريقة ذاتها التي كان يفعلها في عهد صدّام حسين الذي أعطى الجيش التركي حرية ملاحقة المسلحين الأكراد داخل الأراضي العراقية. لم يعد دخول شمال العراق نزهة بالنسبة إلى تركيا. هناك واقع جديد على الأرض لا مفر من معالجته بطرق ووسائل مختلفة تتجاوز العمليات العسكرية المحدودة. هناك كيان تركي شبه مستقل شمال العراق، كيان يبدو على استعداد لغض النظر عن حزب «العمال الكردستاني» التركي الذي يتطلع بدوره إلى إقامة كيان مستقل لأكراد تركيا يكون امتداداً لكردستان العراق.
أي دور لتركيا في الشرق الأوسط الجديد الذي هو في صدد التكوين حالياً؟ ليس في الإمكان الأجابة عن هذا السؤال بعد. لكن الأكيد أن تركيا لا يمكن أن تسمح بإعادة تركيب العراق، أو على الأصح بتقسيمه على حسابها، لأن عراقاً مقسماً لا نفوذ لتركيا فيه سيعني تهديداً مباشراً لوحدة تركيا في المدى البعيد، وهو أمر لا يمكن أن تقبل به المؤسسة العسكرية التركية ولا الطبقة السياسية، بغض النظر عن الشخص الذي في موقع رئيس الوزراء أو رئيس الدولة وانتمائه إلى هذا الحزب الأسلامي أو العلماني أو ذاك.
ستستغرق عملية إعادة تكوين الشرق الأوسط أعواماً عدة. الشيء الوحيد الثابت الآن في ضوء ما فعله الأميركيون في العراق أن البلد صار مقسماً. هذا واقع لا مجال لتجاوزه. أما الواقع الآخر الذي لا بدّ من التعامل معه، فإنه يتمثل في الخلفية المذهبية للنزاعات الإقليمية، خصوصاً تلك التي ساحتها العراق ولبنان. عاجلاً أم آجلاً سيتوجب على تركيا اتخاذ قرارات كبيرة في حال كانت لا تريد أن تتبلور صيغة الشرق الأوسط الجديد على حسابها. ربما تنتظر تركيا في المرحلة الراهنة ما ستؤول إليه المواجهة القائمة بين الولايات والمتحدة وإيران لتقرر ما هي خطوتها المقبلة. لكن الانتظار لن يمنعها من التذكير بأن جيشها كبير، وأنها ستلجأ إلى القوة لمنع استمرار العمليات التي تستهدف جنودها انطلاقاً من كردستان العراق من جهة، وأن هناك أقلية تركمانية في العراق باتت في حاجة إلى حماية من جهة أخرى. ستفعل ذلك مستندة إلى سياسة ثابتة اتبعتها كل الحكومات التركية في الأعوام الأخيرة، ولكن في ظروف كان وضع العراق فيها مختلفاً بشكل جذري عما هو عليه الآن. يبقى السؤال الكبير: هل تصلح السياسة الثابتة لتركيا للتعاطي مع التطورات ذات الطابع المصيري التي تشهدها المنطقة، أم ثمة حاجة إلى سياسة جديدة تأخذ في الاعتبار أن الشرق الأوسط يتغير وأن الخريطة الإقليمية يعاد رسمها انطلاقاً من الزلزال العراقي؟
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن