الرأي اليوم / أصل العلة ... سوء الإدارة


كلما عدت بالذاكرة إلى النقاشات التي كانت تجري في المجلس أو في الصحافة وأجهزة الإعلام عن عدد من المشاريع الحيوية والمهمة في الكويت أزداد قناعة بأننا في دولة لا إدارة ولا قرار فيها.
أتحدث هنا عن ثلاثين عاماً وربما أكثر. عقود من الزمان مرت على عقود جامعية واستشفائية وإنشائية ونفطية. عقود الزمان عبرت وسارت وعقود المشاريع بقيت مجمدة، تخرج للنقاش والدراسة والصياح والاتهامات المتبادلة بالفساد والانتفاع والتنفيع ثم تعود أدراجها إلى... أدراجها.
ومن المفارقات الصعبة وأنت تستذكر صور تلك المراحل المتعددة،أن الكويت تساهم مثلًا في بناء جامعة في بلد ما فتجد الجامعة حقيقة قائمة خلال ثلاث سنوات، والأمر نفسه ينسحب على المستشفيات والملاعب والطرق والمنشآت... وأحيانا في دول اشتهرت حكوماتها بالفساد. أما عندنا، فعد بالذاكرة إلى نقاش عن حقول الشمال أو الجامعة قبل 30 عاماً لتجد أنه النقاش ذاته الآن مع بعض التعديلات «لزوم الأكشن».
ليس سراً أننا منذ التحرير وحتى اليوم، مصابون بشلل جزئي في جسد الاقتصاد، وأن الجمود ينخر كل خطط التنمية ومشاريعها. وليس سراً أن الحالة السياسية التي ولدت جذباً بين نواب وسياسيين ومعارضين وبين حكومات مترددة لعبت دوراً مهماً في التعطيل. وليس سراً أن «كلمة السر» في السجالات اسمها «الفساد»، أو السلاح الذي يطلق منه صاحبه إبرة تخدير تعيد كل المشاريع إلى الأدراج.
فساد... فساد... فساد. طبعا هو موجود عندنا وعند غيرنا، وإذا راقبنا بدقة التقارير التي تتحدث عن الفساد في العالم قد نجده منتشراً أكثر في الدول الكبرى من عندنا، إنما في الوقت نفسه المشاريع «ماشية» هناك ومنجزة في وقتها، والقضاء يتولى المحاسبة وإعادة حقوق الدولة والأفراد، والناس تتولى المحاسبة السياسية كل دورة انتخابية فتحجب الثقة وتختار الأكفأ.
في الكويت صارت كلمة فساد «سلاحاً» عند البعض. إذا لم تمر معاملة نائب في توظيف أو نقل أو سفر للعلاج في الخارج يرفع صوته متهماً المسؤول أو الإدارة برمتها بالفساد. وإذا أردت أن تحشد لندوة أو ملتقى أو حتى جذب الانتباه في ديوانية تحدث عن الفساد. وإذا أردت وزيراً خائفاً فارم قفاز الفساد في وجهه فيتعطل كل شيء. وإذا أردت التجميد هدد بتفجير قضية فساد فينتقل المسؤول من القرار إلى «اللاقرار».
وربما كانت هذه المقاربة المعتادة للقضية هي السبب في استمرار الفساد بمعدلات عالية في أماكن وقضايا أخرى غير التي يتحدث عنها النائب أو السياسي أو المعارض أو الموالي... وبالتأكيد هي من الأسباب الرئيسية لإعاقة العمل والتقدم كون محاربة الفساد تتم في قنواتها القضائية والقانونية وليست السياسية فحسب، وكون الحكومات في الكويت اعتادت على الخوف من الصوت العالي.
المشكلة بدقة أكثر هي سوء الإدارة. الفساد موجود لكن أصل العلة سوء الإدارة. قد يكون الشخص المسؤول من أفضل الأشخاص خلقاً ومبدأً ونظافة كف لكنه غير مبادر ولا يتقن اتخاذ قرار في الوقت المناسب ولا يحسن إدارة المجموعات ولا يعرف كيف يوظف الطاقات الموجودة في خدمة الإنجاز... هذا على مستوى الأفراد أما على مستوى السلطة فالأمر نفسه يتجلى في البيروقراطية القاتلة والدورات المستندية والقيود الإدارية والتأثر الدائم بالجانب السياسي والخوف من اتخاذ قرار.
منذ التحرير وحتى اليوم، لماذا تتحول قطارات التنمية ومشاريعها إلى خردات صدئة في محطاتها بدل أن تنطلق شمالًا وجنوباً وشرقاً وغرباً في عموم البلاد؟ لأن أحداً لم يقرر أن البلد بحاجة إلى ثورة إدارية حقيقية تجدد شباب المؤسسات بعقليات مرنة متفاعلة مع التطورات وإيقاع العصر السريع وقادرة على اتخاذ قرار رغم كل العقبات التي قد ترافق التنفيذ.
وسوء الإدارة ينطبق على القرارات كما ينطبق على الأفراد. عندما تُكدس الموظفين فوق بعضهم في مجمع الوزارات فأنت سيئ إدارياً. عندما يتخرج المهندس وتقول له «مش حالك» اليوم في عمل مكتبي إلى أن نجد لك فرصة للعمل في مجالك فأنت سيئ إدارياً. عندما يقتصر عملك على الجلوس بين كرسي ومكتب تقرأ البريد بين فينة وأخرى فتوقع أو لا توقع وتحول الورق إلى الإدارات الأخرى للنظر فيه فأنت سيئ إدارياً. عندما تصلك مسودة مشروع فتحولها إلى اللجان لدراستها ثم إلى لجان أخرى ثم تجمدها لخلاف في وجهات النظر مثلا بين وكلاء أو مستشارين فأنت سيئ إدارياً. عندما يكون المشروع مكتمل الأركان فتوقفه سنوات لوجود ثغرة بسيطة يمكن تصحيحها خلال التنفيذ فأنت سيئ إدارياً. عندما تتأخر في إقرار جملة قوانين تنفض الغبار عن القطاع العام وتعطيه دفعات إنعاشية فأنت سيئ إدارياً. وعندما تكتشف شبهة فساد وتنفيع في بعض القطاعات فتوقف كل البرامج خوفاً من المساءلة فأنت سيئ إدارياً لأن المفروض أن تحاسب وتعاقب وتحيل إلى النيابة وتستمر في برامجك خصوصا إذا كانت حيوية وتهم الناس مباشرة.
الأمثلة تطول، لكن السياسيين في الكويت نسوا أن تزاوج السوء مع الإدارة هو الذي ينجب الفشل والجمود والهدر والتعطيل والفساد. توقفوا عند الفساد فقط لأنه كلمة يعتقد معها أصحاب الأصوات العالية أنها شعبية، ويعتقد معها المسؤول أنها تعفيه من العمل كي لا يتهم بها.
لنعد إلى أصل العلة... سوء الإدارة هو الأصل والباقي فروع. طهروا الإدارة من الشلل والبيروقراطية والجمود والخوف وانعدام المبادرة، وجددوا شبابها كي يتجدد شباب الكويت.
جاسم مرزوق بودي
أتحدث هنا عن ثلاثين عاماً وربما أكثر. عقود من الزمان مرت على عقود جامعية واستشفائية وإنشائية ونفطية. عقود الزمان عبرت وسارت وعقود المشاريع بقيت مجمدة، تخرج للنقاش والدراسة والصياح والاتهامات المتبادلة بالفساد والانتفاع والتنفيع ثم تعود أدراجها إلى... أدراجها.
ومن المفارقات الصعبة وأنت تستذكر صور تلك المراحل المتعددة،أن الكويت تساهم مثلًا في بناء جامعة في بلد ما فتجد الجامعة حقيقة قائمة خلال ثلاث سنوات، والأمر نفسه ينسحب على المستشفيات والملاعب والطرق والمنشآت... وأحيانا في دول اشتهرت حكوماتها بالفساد. أما عندنا، فعد بالذاكرة إلى نقاش عن حقول الشمال أو الجامعة قبل 30 عاماً لتجد أنه النقاش ذاته الآن مع بعض التعديلات «لزوم الأكشن».
ليس سراً أننا منذ التحرير وحتى اليوم، مصابون بشلل جزئي في جسد الاقتصاد، وأن الجمود ينخر كل خطط التنمية ومشاريعها. وليس سراً أن الحالة السياسية التي ولدت جذباً بين نواب وسياسيين ومعارضين وبين حكومات مترددة لعبت دوراً مهماً في التعطيل. وليس سراً أن «كلمة السر» في السجالات اسمها «الفساد»، أو السلاح الذي يطلق منه صاحبه إبرة تخدير تعيد كل المشاريع إلى الأدراج.
فساد... فساد... فساد. طبعا هو موجود عندنا وعند غيرنا، وإذا راقبنا بدقة التقارير التي تتحدث عن الفساد في العالم قد نجده منتشراً أكثر في الدول الكبرى من عندنا، إنما في الوقت نفسه المشاريع «ماشية» هناك ومنجزة في وقتها، والقضاء يتولى المحاسبة وإعادة حقوق الدولة والأفراد، والناس تتولى المحاسبة السياسية كل دورة انتخابية فتحجب الثقة وتختار الأكفأ.
في الكويت صارت كلمة فساد «سلاحاً» عند البعض. إذا لم تمر معاملة نائب في توظيف أو نقل أو سفر للعلاج في الخارج يرفع صوته متهماً المسؤول أو الإدارة برمتها بالفساد. وإذا أردت أن تحشد لندوة أو ملتقى أو حتى جذب الانتباه في ديوانية تحدث عن الفساد. وإذا أردت وزيراً خائفاً فارم قفاز الفساد في وجهه فيتعطل كل شيء. وإذا أردت التجميد هدد بتفجير قضية فساد فينتقل المسؤول من القرار إلى «اللاقرار».
وربما كانت هذه المقاربة المعتادة للقضية هي السبب في استمرار الفساد بمعدلات عالية في أماكن وقضايا أخرى غير التي يتحدث عنها النائب أو السياسي أو المعارض أو الموالي... وبالتأكيد هي من الأسباب الرئيسية لإعاقة العمل والتقدم كون محاربة الفساد تتم في قنواتها القضائية والقانونية وليست السياسية فحسب، وكون الحكومات في الكويت اعتادت على الخوف من الصوت العالي.
المشكلة بدقة أكثر هي سوء الإدارة. الفساد موجود لكن أصل العلة سوء الإدارة. قد يكون الشخص المسؤول من أفضل الأشخاص خلقاً ومبدأً ونظافة كف لكنه غير مبادر ولا يتقن اتخاذ قرار في الوقت المناسب ولا يحسن إدارة المجموعات ولا يعرف كيف يوظف الطاقات الموجودة في خدمة الإنجاز... هذا على مستوى الأفراد أما على مستوى السلطة فالأمر نفسه يتجلى في البيروقراطية القاتلة والدورات المستندية والقيود الإدارية والتأثر الدائم بالجانب السياسي والخوف من اتخاذ قرار.
منذ التحرير وحتى اليوم، لماذا تتحول قطارات التنمية ومشاريعها إلى خردات صدئة في محطاتها بدل أن تنطلق شمالًا وجنوباً وشرقاً وغرباً في عموم البلاد؟ لأن أحداً لم يقرر أن البلد بحاجة إلى ثورة إدارية حقيقية تجدد شباب المؤسسات بعقليات مرنة متفاعلة مع التطورات وإيقاع العصر السريع وقادرة على اتخاذ قرار رغم كل العقبات التي قد ترافق التنفيذ.
وسوء الإدارة ينطبق على القرارات كما ينطبق على الأفراد. عندما تُكدس الموظفين فوق بعضهم في مجمع الوزارات فأنت سيئ إدارياً. عندما يتخرج المهندس وتقول له «مش حالك» اليوم في عمل مكتبي إلى أن نجد لك فرصة للعمل في مجالك فأنت سيئ إدارياً. عندما يقتصر عملك على الجلوس بين كرسي ومكتب تقرأ البريد بين فينة وأخرى فتوقع أو لا توقع وتحول الورق إلى الإدارات الأخرى للنظر فيه فأنت سيئ إدارياً. عندما تصلك مسودة مشروع فتحولها إلى اللجان لدراستها ثم إلى لجان أخرى ثم تجمدها لخلاف في وجهات النظر مثلا بين وكلاء أو مستشارين فأنت سيئ إدارياً. عندما يكون المشروع مكتمل الأركان فتوقفه سنوات لوجود ثغرة بسيطة يمكن تصحيحها خلال التنفيذ فأنت سيئ إدارياً. عندما تتأخر في إقرار جملة قوانين تنفض الغبار عن القطاع العام وتعطيه دفعات إنعاشية فأنت سيئ إدارياً. وعندما تكتشف شبهة فساد وتنفيع في بعض القطاعات فتوقف كل البرامج خوفاً من المساءلة فأنت سيئ إدارياً لأن المفروض أن تحاسب وتعاقب وتحيل إلى النيابة وتستمر في برامجك خصوصا إذا كانت حيوية وتهم الناس مباشرة.
الأمثلة تطول، لكن السياسيين في الكويت نسوا أن تزاوج السوء مع الإدارة هو الذي ينجب الفشل والجمود والهدر والتعطيل والفساد. توقفوا عند الفساد فقط لأنه كلمة يعتقد معها أصحاب الأصوات العالية أنها شعبية، ويعتقد معها المسؤول أنها تعفيه من العمل كي لا يتهم بها.
لنعد إلى أصل العلة... سوء الإدارة هو الأصل والباقي فروع. طهروا الإدارة من الشلل والبيروقراطية والجمود والخوف وانعدام المبادرة، وجددوا شبابها كي يتجدد شباب الكويت.
جاسم مرزوق بودي