نافذة / التغيير اللاواعي!

تصغير
تكبير
التغيير، سُنةُ كونية، لا يمكن الانفصال عنها، تجري في كل جزء من هذا الكون، في أنفسنا (عالمنا الداخلي)، وفي كل ما يحيط بنا (عالمنا الخارجي)، متخذةً في كل وقت وحين ثوب التجدد والاستمرارية والحيوية في شتى مناحي الحياة. هذه السُنةُ التي تمثل قانوناً من قوانين الوجود، تتجه دائماً نحو خدمة مقاصد الحياة، فهي ليست قانوناً عبثياً أو عشوائياً!، بل هي عِلّةُ لاستمرار تدفق الدم في شريان الحياة!.

ومادام هناك نبض في هذا الوجود، فإن التغيير وبشكل طبيعي سيُطال كل شيء، ليس للإنسان من مفرٍ إلا أن يتعاطى ويتكيّف معه نحو الأفضل في سبيل الوصول إلى حياة طيبة، لأن عدم التأقلم مع التغيير الطبيعي (الإيجابي) يؤدي بالضرورة إلى تغيير آخر غير طبيعي (في الغالب من دون أن يشعر الإنسان به)، يمكن أن نسميه التغيير اللاواعي، والذي يتجه نحو توقف الحركة في الحياة وشلّها والغفلة عن الواقع والانحدار نحو المنزلقات... إن تأثير هذا التغيير على الفرد أشبه بالذي يحدث لحبة التفاح التي نلقيها عرضة للتأثيرات الخارجية، ولأن ليس لهذه التفاحة حول ولا قوة لأن تُغير مكانها إلى مكان أنسب لها فإنها ستغدو مع مرور الزمن متعفنة غير صالحة للأكل، وإذا مضى على حالها وقت أطول فإنها ستنتفي عن الوجود ولن يبقى منها أثر .. إنه التغيير الذي يحدث لأولئك الذين بلغوا مراحل متقدمة في سلم النجاح ثم لم يلبثوا إلا قليلاً من الوقت حتى تحولت همتهم إلى عجز وكسل، فأخذ بهم التغيير اللاواعي بعد ذلك رويداً رويداً نحو الفشل.

هو ذلك التغيير الذي يحدث لأولئك الذين علّقوا آمالهم على وقوع حدث خارجي أو تغير في المناخ من أجل ان يبدأوا صفحة جديدة من صفحات الحياة، كالعودة إلى جادة الصواب (التوبة إلى الله على سبيل المثال)، فإذا بالتغيير اللاواعي هو الذي يحكم قبضته عليهم ويتسيد المشهد بسبب هذا الشرط الخاطئ والتسويف غير المبرر الذي وقف حاجزاً بينهم في سبيل التغيير الإيجابي، فهم في غياهب اللاوعي تائهون.

وهو أيضاً ذلك التغيير الذي يحدث لمن عرف آيات الله، لكنه بسبب الهوى انسلخ عنها، «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ» (الأعراف: 175)... وهو الذي يحدث لمن طال «عَلَيْهِمُ الْأَمَد فَقَسَتْ قُلُوبهمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ» (الحديد : 15).

... إن البعض في غفلة من أمره، يُسَلِمُ نفسه - بقصد أومن دون قصد - للحياة، متوهماً في قرارة نفسه أن تُحْدِثَ فيه تغييراً إيجابياً (ظاهريا وباطنيا)، وهو يعتقد بأن مرور الزمن كفيل بإحداث هذا التغيير، من دون أن يُحدِثَ شيئاً في سبيل الوصول إليه، ولا يدري بأنه قد سلم نفسه للتغيير اللاواعي!. إن التغيير الذي يتحكم فيه الهوى في حياة المرء، والذي تكاد تنتفي فيه الإرادة الإنسانية، هو تغيير ينقلك إلى سبل المهالك، ويجعلك أهون هالك، تغيير عكسي ينزل بالإنسان من القمة، ليهوي به في مكان سحيق، تغيير يستدرج الإنسان من حيث لا يعلم ويلقي به في غمرات اللاوعي وموت الشعور.

إن هذا التغيير اللاواعي والذي قد يتخذ ثوب الاستدراج «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون»، تغيير يحدث بشكل خفي يُستدرج فيه الإنسان استدراجا قد لا يخلو من تزيين شيطاني لأفعال وسلوكيات الإنسان، فكلما انحدر الإنسان في مستواه همس الشيطان بأذنه فزيّن عمله وحالته الآنية فصده عن السبيل ... إن هذا التغيير أمر محتوم يحدث للإنسان الذي تخلى عن إرادته في اختيار نوعية التغيير الذي يريد، أمر محتوم لمن تخلى عن وعيه ونسي دوره في الحياة وسبب وجوده، أمر محتوم لمن ترك للحياة أن تقرر له كيف تكون مسيرته في هذا الوجود، أمر محتوم لمن انتظر تغيرات المناخ لتجلب له الحظ والسعادة!، أمر محتوم لمن نسي الله، فكانت النتيجة «فأنساهم أنفسهم»، ونسيان النفس هو أبشع صورة من صور الضياع والضلال.

إن أكبر مصيبة في هذا التغيير تكمن في النتيجة المحصلة، ففي آخر محطة في هذا التغيير العكسي قد ينتقل الإنسان إلى مرحلة إماتة نفسه وروحه وإن كان قلبه لم يزل ينبض بالحياة، حتى يصل إلى مرحلة اليأس من الدنيا، وعند بلوغ الأمر ذروته!، في الغالب قد لا يجد خياراً في هذه الحياة سوى الخلاص من نفسه بنفسه!، وليت شعري، فإن المصير الأخروي الذي ينتظر هذا الإنسان أبشع وأشد مما أقدم عليه.

ومن الملفت أن التغيير اللاواعي قد يحدث لنا ونحن لا نشعر، ربما قد تتفاوت مدة مكوثه ونسبة أثره بين إنسان وآخر، إلا أن الإنسان الواعي هو من يستطيع وبسرعة أن يلحظ وجوده في نفسه، وإن وجد وجب عندئذٍ ضرورة إحداث ثورة ذاتية ينهض من خلالها ليتدارك نفسه، ويقطع الطريق على هذا التغيير قبل أن يستفحل ويبلغ مبلغاً يصعب منه الخلاص، «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ»، [الأعراف:201].

همسة أخيرة

إنها مسألة لا تحتمل خياراً ثالثاً، إما أن تسير بوعي في هذه الحياة فتتغير بشكل واعٍ للأفضل، وإلا!، فإن الحياة كفيلة بتغييرك حسب هواها، وهو تغيير لا واعياً سيؤدي في نهاية المطاف إلى إسقاطك، وهلاكك، فاختر ما شئت!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي