فاصلة / الشوارع المنسيّة !
| فهد الهندال |
في أي زيارة لبلد ما، لابد أن تهب لرجليك فرصة العنان لأن تنطلقا على الأرض حبا لنعمة المشي التي وهبها الله لنا، ولكي نتعرف على أنفسنا والعالم المحيط بنا، بعيدا عن زحمة المواصلات وضوضاء النقل في كل اشكالها ووسائلها المترفة، التي جعلت من الإنسان مقعدا باختياره وعاجزا بإرادته عن التفكير في أبسط جماليات الكون، في تنوع ما حولنا من ثقافات وحضارات ومعارف. كما أن لرياضة المشي فوائد كثيرة، أهمها التأمل في جوانب الحياة ولافتات الطرق المؤدية إليها واكتشافات المناطق المختبئة خلفها وزوايا الظل التي تحتاج لضوء ضئيل يسلط عليها من قبلك كسائح في جغرافيا جديدة عليك.
في أكثر زياراتي لعدد من البلدان والمدن، استمتع بهذه الرياضة الروحية (المشي) بين شوارع الضواحي، لأقف عند لوحة تذكارية تعرّفك على هذا الشارع وتاريخه وسبب تسميته، كدليل ثقافي لك وحفظ تاريخي لحقوق المستحقين في التخليد لهم. أذكر في لندن شاهدت الكثير من اللوحات التذكارية المعرّفة لأسماء الشوارع والمباني في المدينة العريقة، فبحسب مجهود أحد الكتاب المهتمين بهذه اللوحات «ديريك سوميراي» وصل إلى إحصائية تشير إلى أن الشخصيات الملكية تحظى بـ 11 لوحة فقط، والبحارة بينهم الاميرال نلسون بـ 14 لوحة. اما الصحافيون والناشرون فيحظون بـ 32 لوحة والحقوقيون بـ 16 لوحة والفلاسفة بسبع لوحات واهل الطب بـ 62 لوحة والموسيقيون بـ 71 لوحة والمحسنون الخيريون والمصلحون بـ 67 لوحة. ولعل اللافت هو نصيب الروائيين لوحدهم من اللوحات كان 105 لوحات، مقابل 91 لوحة لممثلي السينما والمسرح و40 للفنانين الاستعراضين والممثلين . أما الشعراء فيحظون بـ 78 لوحة ومنظرو الاقتصاد السياسي بـ 19 لوحة والمصورون بسبع لوحات والراقصون بخمس فقط . في حين نصبت ست لوحات لمشاهير عالم الطيران ورواده. ليعلق الكاتب على ذلك بأنه لا يحمل كل هذه اللوحات أسماء بريطانية محضة، فلندن عاصمة عالمية وزوارها من كل الجنسيات، واللوحات تشبه خرائط تعيد رسم حركة القدوم والرحيل عن معالمها.
ويذكر سوميراي أن مسؤولية تسمية الشوارع والمباني التذكارية كانت تقع على كاهل الجمعية الملكية للفنون منذ عام 1867 حتى عام 1901 عندما تسلم مجلس اقليم لندن مسؤولية نصب اللوحات التذكارية حتى عام 1985 بعد حل مجلس لندن الكبرى وحلول مجلس التراث الانكليزي مكانه في هذه المهمة ، لتتسلمها حاليا المجالس المحلية والبلديات التي تجعل البصمة التاريخية والمخزون الثقافي أهم عنصري التقدير في وضع النصب التذكاري للشخصية والمناسبة المقصودة .
ولعل هذا التقليد هو متبع أيضا في بقية بلدان دول العالم التي تعتبر هذه الشوارع والمباني مرجعيات تاريخية ثقافية في حفظ تراث وهوية المكان . وهو عكس ما نجده في معظم الدول العربية ، إلا مدن غردت خارج السرب في تخليد شخصياتها ومناسباتها بما تستحق فعلا .
وفي الكويت، كبرنا على أسماء شوارع باتت جزءا من تاريخنا، باتت اليوم معرضة لتغيير أسمائها بدافع الوجاهة أكثر من التقدير، وفق مزاجية المحسوبية التي باتت تقضي على ما تبقى اليوم من الذاكرة.
أذكر بعد التحرير، ارتفعت مطالبات غريبة بإزالة أسماء المدن والشخصيات مثل شوارع: بغداد/ الموصلي/ بابل/ الكوفة/ الفرات وغيرها، على أساس أنها «عراقية « وتذكرنا بالغزو والاحتلال!
واليوم نرى التغيير المستمر غير المنطقي لتاريخ المناطق والشوارع في الكويت، بوضع أسماء قد تكون معروفة على نطاق محدود ومجهولة على نطاق واسع، كما هو حال تسميات المدارس. لدرجة أنك تبحث عن أسماء شخصيات لها تاريخ كبير من العطاء فتجد حظها قليلاً جدا، وعلى رأسهم شهداء الوطن الذين قدموا أرواحهم، فتكاسل المسؤولون عن تكريمهم بتخليد أسمائهم.
في مسلسل (ليالي الحلمية) للكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، يُسمى أحد شوارع الحلمية باسم أحد أبطال المسلسل (طه السماحي ) لكونه أحد شهداء مقاومة الاحتلال الإنكليزي بعدما كان باسم أحد الباشوات، لنتابع في الأجزاء اللاحقة للمسلسل حيث تم تغييره إلى اسم آخر (السلام) بعد اتفاق كامب ديفيد، ولعل فيه من الرمزية الكبيرة بمحاولة تغيير تاريخ المكان بتغيير أسماء شوارعه!
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72
في أكثر زياراتي لعدد من البلدان والمدن، استمتع بهذه الرياضة الروحية (المشي) بين شوارع الضواحي، لأقف عند لوحة تذكارية تعرّفك على هذا الشارع وتاريخه وسبب تسميته، كدليل ثقافي لك وحفظ تاريخي لحقوق المستحقين في التخليد لهم. أذكر في لندن شاهدت الكثير من اللوحات التذكارية المعرّفة لأسماء الشوارع والمباني في المدينة العريقة، فبحسب مجهود أحد الكتاب المهتمين بهذه اللوحات «ديريك سوميراي» وصل إلى إحصائية تشير إلى أن الشخصيات الملكية تحظى بـ 11 لوحة فقط، والبحارة بينهم الاميرال نلسون بـ 14 لوحة. اما الصحافيون والناشرون فيحظون بـ 32 لوحة والحقوقيون بـ 16 لوحة والفلاسفة بسبع لوحات واهل الطب بـ 62 لوحة والموسيقيون بـ 71 لوحة والمحسنون الخيريون والمصلحون بـ 67 لوحة. ولعل اللافت هو نصيب الروائيين لوحدهم من اللوحات كان 105 لوحات، مقابل 91 لوحة لممثلي السينما والمسرح و40 للفنانين الاستعراضين والممثلين . أما الشعراء فيحظون بـ 78 لوحة ومنظرو الاقتصاد السياسي بـ 19 لوحة والمصورون بسبع لوحات والراقصون بخمس فقط . في حين نصبت ست لوحات لمشاهير عالم الطيران ورواده. ليعلق الكاتب على ذلك بأنه لا يحمل كل هذه اللوحات أسماء بريطانية محضة، فلندن عاصمة عالمية وزوارها من كل الجنسيات، واللوحات تشبه خرائط تعيد رسم حركة القدوم والرحيل عن معالمها.
ويذكر سوميراي أن مسؤولية تسمية الشوارع والمباني التذكارية كانت تقع على كاهل الجمعية الملكية للفنون منذ عام 1867 حتى عام 1901 عندما تسلم مجلس اقليم لندن مسؤولية نصب اللوحات التذكارية حتى عام 1985 بعد حل مجلس لندن الكبرى وحلول مجلس التراث الانكليزي مكانه في هذه المهمة ، لتتسلمها حاليا المجالس المحلية والبلديات التي تجعل البصمة التاريخية والمخزون الثقافي أهم عنصري التقدير في وضع النصب التذكاري للشخصية والمناسبة المقصودة .
ولعل هذا التقليد هو متبع أيضا في بقية بلدان دول العالم التي تعتبر هذه الشوارع والمباني مرجعيات تاريخية ثقافية في حفظ تراث وهوية المكان . وهو عكس ما نجده في معظم الدول العربية ، إلا مدن غردت خارج السرب في تخليد شخصياتها ومناسباتها بما تستحق فعلا .
وفي الكويت، كبرنا على أسماء شوارع باتت جزءا من تاريخنا، باتت اليوم معرضة لتغيير أسمائها بدافع الوجاهة أكثر من التقدير، وفق مزاجية المحسوبية التي باتت تقضي على ما تبقى اليوم من الذاكرة.
أذكر بعد التحرير، ارتفعت مطالبات غريبة بإزالة أسماء المدن والشخصيات مثل شوارع: بغداد/ الموصلي/ بابل/ الكوفة/ الفرات وغيرها، على أساس أنها «عراقية « وتذكرنا بالغزو والاحتلال!
واليوم نرى التغيير المستمر غير المنطقي لتاريخ المناطق والشوارع في الكويت، بوضع أسماء قد تكون معروفة على نطاق محدود ومجهولة على نطاق واسع، كما هو حال تسميات المدارس. لدرجة أنك تبحث عن أسماء شخصيات لها تاريخ كبير من العطاء فتجد حظها قليلاً جدا، وعلى رأسهم شهداء الوطن الذين قدموا أرواحهم، فتكاسل المسؤولون عن تكريمهم بتخليد أسمائهم.
في مسلسل (ليالي الحلمية) للكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، يُسمى أحد شوارع الحلمية باسم أحد أبطال المسلسل (طه السماحي ) لكونه أحد شهداء مقاومة الاحتلال الإنكليزي بعدما كان باسم أحد الباشوات، لنتابع في الأجزاء اللاحقة للمسلسل حيث تم تغييره إلى اسم آخر (السلام) بعد اتفاق كامب ديفيد، ولعل فيه من الرمزية الكبيرة بمحاولة تغيير تاريخ المكان بتغيير أسماء شوارعه!
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72