خواطر تقرع الأجراس
خليفة المالِنْخوليا
مصطفى سليمان
حدث في مصر، في القرن الرابع الهجري، أن الخليفة أصابه أرقٌ في الليل، وقلقٌ في النهار. عشق الليل فمكث في العتمة سنين. ثم رأى أن ضوء الشموع يقهر العتمة؛ فأمر أن تُوقَد الشموع ليلاً. ثم فكّر: لماذا لا توقَد نهاراً أيضاً؟ وهكذا كان؛ فقد جلس في ضوء الشموع ليلاً ونهاراً، أياماً وشهوراً. ثم كره القعود، فأخذ يركب ليلاً ونهاراً من غير فتور ولا سكون. فكّر رجال حاشيته الذين كانوا يركبون معه الليل والنهار في أن تبقى الشوارع مضاءة لتؤْنس الخليفة. صدرت الأوامر لتجار مصر أن توقَد القناديل على حوانيتهم ودورهم، وأن يبتاعوا بالليل، فصارت الشوارع والأسواق ليلاً بمنزلة النهار.
وكانت كلاب الليل تنبح عندما يعبر الخليفة الشوارع. فأمر بقتل سائر كلاب مصر، إلا كلاب الصيد. ثم ضعفت صحة الخليفة؛ ولم يعد يقوى على الركوب، فاتّخذوا له محفّةً يجلس فيها، ويستلقي عليها، ويحملها أربعة من رجاله، ثم يدور الليل والنهار.
ورغم هذه الأطوار الغريبة كان يأخذ الرّقاع والمظالم من الناس بشرط ألا يُكتَب فيها إلا سطر واحد وعلى وجه واحد، ويأمر أصحاب الرّقعة أن يأتوا إليه من يمينه، وأن يأتوا في اليوم التالي إلى مكان يعيّنه لهم، وكان يضع توقيعاته وعطاياه في كمّه، ويعطيها لهم يداً بيد.
كان الناس في عصره آمنين على أموالهم، لكن غير مطمئنين على نفوسهم، لأنه إذا غضب فجأة على أحد كان يثب عليه وثبة المجنون. فقد غضب مرة من الخادم الأسود (عين) فقطع يده اليمنى. ثم رضيَ عنه وقرّبه إليه ولقّبه بــ (الأستاذ وقائد القوّاد). ثم حانت ساعة الغضب... فقطع لسانه!
كان الخليفة يميل إلى الورع والزهد والتصوّف؛ فربّى شعره حتى طال على أكتافه، وصار يلبس الكسوة الواحدة مدة طويلة حتى تتلبّد من العرق الدائم والغبار المتصّل. ولم يكن يقلّم أظافره. وواصل الركوب في الصحارى والفيافي، وكان يقصد جبل المقطّم منفرداً بنفسه.
أراد تطبيق الشريعة الأولى؛ فمنع شرب الخمور، وطبّق الحدَّ على المخالفين. لكنه مرض يوماً فأشار عليه طبيبه النصراني بشرب النبيذ لفائدته الصحية، فشرب، ومال إلى اللهو والطّرب والصّخب. وشربت الرّعية، وطربتْ وصخبتْ.
كان إنسانياً؛ فأعتق مماليكه من الذكور والإناث وحرّرهم جميعاً لوجه الله، وأخرج من قصره حظاياه وأمهات أولاده. لكنه كان شغوفاً بالجماع! تميل نفسه إلى الجنس فيلبي لها شهواتها الحمراء. وكان الورع والتقى يتصارعان مع الشهوات الجنسية في أعماق نفسه. فما العمل؟ أمر الخليفة الإنساني بوضع بعضٍ ممّن تميل إليهن نفسه في صناديق، وسُمِّرتْ عليهن، وأُثقِلتْ بالحجارة... وأُلقِيَت في النيل، حتى لا تميل نفسه إلى اللذة الجسدية؟!
يالها من إنسانية، وورع، وتقى، وزهد!
هل تصدّقون أن ما قرأتموه أعلاه تاريخ حقيقي لخليفة حكم مصر في القرن الرابع الهجري؟. والله ليس ما كتبته قصة قصيرة سياسية رمزية، بل وقائع تاريخية مستقاة من مصادر عريقة، وبخاصة من مؤرخ مشهود له بالتوثيق والتدقيق عاصر هذا الخليفة وعالجه لأنه أدرك أنه خليفةُ مالِنْخوليا: مرض نفسي مزاجي، سوداوي.
لم أتدخّل في الرواية التاريخية إلا بتعليق عابر لا يتعدّى عشر كلمات لربط السياق. ابحثوا عن تاريخ هذا الخليفة، لن أذكر اسمه؛ حتى تعودوا إلى المصادر القديمة. ففي البحث عن الحقيقة مشقة... ومتعة.
*كاتب سوري
وكانت كلاب الليل تنبح عندما يعبر الخليفة الشوارع. فأمر بقتل سائر كلاب مصر، إلا كلاب الصيد. ثم ضعفت صحة الخليفة؛ ولم يعد يقوى على الركوب، فاتّخذوا له محفّةً يجلس فيها، ويستلقي عليها، ويحملها أربعة من رجاله، ثم يدور الليل والنهار.
ورغم هذه الأطوار الغريبة كان يأخذ الرّقاع والمظالم من الناس بشرط ألا يُكتَب فيها إلا سطر واحد وعلى وجه واحد، ويأمر أصحاب الرّقعة أن يأتوا إليه من يمينه، وأن يأتوا في اليوم التالي إلى مكان يعيّنه لهم، وكان يضع توقيعاته وعطاياه في كمّه، ويعطيها لهم يداً بيد.
كان الناس في عصره آمنين على أموالهم، لكن غير مطمئنين على نفوسهم، لأنه إذا غضب فجأة على أحد كان يثب عليه وثبة المجنون. فقد غضب مرة من الخادم الأسود (عين) فقطع يده اليمنى. ثم رضيَ عنه وقرّبه إليه ولقّبه بــ (الأستاذ وقائد القوّاد). ثم حانت ساعة الغضب... فقطع لسانه!
كان الخليفة يميل إلى الورع والزهد والتصوّف؛ فربّى شعره حتى طال على أكتافه، وصار يلبس الكسوة الواحدة مدة طويلة حتى تتلبّد من العرق الدائم والغبار المتصّل. ولم يكن يقلّم أظافره. وواصل الركوب في الصحارى والفيافي، وكان يقصد جبل المقطّم منفرداً بنفسه.
أراد تطبيق الشريعة الأولى؛ فمنع شرب الخمور، وطبّق الحدَّ على المخالفين. لكنه مرض يوماً فأشار عليه طبيبه النصراني بشرب النبيذ لفائدته الصحية، فشرب، ومال إلى اللهو والطّرب والصّخب. وشربت الرّعية، وطربتْ وصخبتْ.
كان إنسانياً؛ فأعتق مماليكه من الذكور والإناث وحرّرهم جميعاً لوجه الله، وأخرج من قصره حظاياه وأمهات أولاده. لكنه كان شغوفاً بالجماع! تميل نفسه إلى الجنس فيلبي لها شهواتها الحمراء. وكان الورع والتقى يتصارعان مع الشهوات الجنسية في أعماق نفسه. فما العمل؟ أمر الخليفة الإنساني بوضع بعضٍ ممّن تميل إليهن نفسه في صناديق، وسُمِّرتْ عليهن، وأُثقِلتْ بالحجارة... وأُلقِيَت في النيل، حتى لا تميل نفسه إلى اللذة الجسدية؟!
يالها من إنسانية، وورع، وتقى، وزهد!
هل تصدّقون أن ما قرأتموه أعلاه تاريخ حقيقي لخليفة حكم مصر في القرن الرابع الهجري؟. والله ليس ما كتبته قصة قصيرة سياسية رمزية، بل وقائع تاريخية مستقاة من مصادر عريقة، وبخاصة من مؤرخ مشهود له بالتوثيق والتدقيق عاصر هذا الخليفة وعالجه لأنه أدرك أنه خليفةُ مالِنْخوليا: مرض نفسي مزاجي، سوداوي.
لم أتدخّل في الرواية التاريخية إلا بتعليق عابر لا يتعدّى عشر كلمات لربط السياق. ابحثوا عن تاريخ هذا الخليفة، لن أذكر اسمه؛ حتى تعودوا إلى المصادر القديمة. ففي البحث عن الحقيقة مشقة... ومتعة.
*كاتب سوري