العفو مع القدرة على الانتقام وإخراج أثر الذنب من النفس / 2-3

الصفح الجميل...

تصغير
تكبير
• الذي يرضاه ربنا ويحبه هو الصفح الجميل وهو الذي يترقى فيه المؤمن إلى الإحسان تجاه من أساء إليه

• الصفح سبيل إلى أن يعيش الإنسان عزيزاً في الدنيا سليم الصدر بعيداً عن الحقد ويجعله يحشر مع أهل الفضل

• أمر الله عزّ وجل رسوله أن يستعبد النفوس بالإحسان وهو أمر فوق العفو وفوق الصفح ... إنه الصفح الجميل
إن المجتمع الإسلامي مجتمع متميز، أساسه العقيدة الصحيحة وأركانه: عبادة صادقة، ومعاملة حسنة، وخلق قويم، وحرص على عمل الخير, والسلف كانوا إن تمكنوا من فعل الخير فعلوه، وإن فاتتهم تأسفوا على فواته، لأن فرص الخير تمرّ سانحة، فعلى المسلم اغتنامها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه، فإنه لا يدري متى يُغلق».

و المتدبر لكتاب الله يلاحظ «أن الله ذكر القبيح ليجتنب، وذكر الأدون الأقل لئلا ترغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتفضله» كما قال الحسن رحمه الله.

قال تعالى في سورة الزمر: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَ‌بِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُ‌ونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُ‌ونَ} (الزمر:54-55)، وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} يعني القرآن، فهو كله حسن (فأحسن) اسم تفضيل مستعمل في معنى كامل الحسن، وليس من باب التفضيل، لأن جميع ما في القرآن حسن.

فالله عزّ وجل يريد أن يؤدبنا بأعلى الآداب، وأفضلها حتى نكون متمزين في سلوكنا وأخلاقنا ليكون ذلك عامل جذب لهذا الدين؛ ولهذا أمرنا ربنا بكل جميل، وبالأكمل من كل خير، وإن كان الكمال طيبة فالأكمل أطيب منه.

فالجزع في المصيبة مستقبح، والصبر طيب تؤجر عليه، ولكن الصبر الجميل أفضل منه. والهجر لمن لا يلتزم حدود الله مجاهراً طيب، ولكن الهجر الجميل الذي لا عتاب معه أفضل منه. والصفح عن زلات المسلم خير، ولكن الصفح الجميل أكثر ثواباً منه.

أصل المعنى

نتكلم اليوم بتوفيق الله عن (الصفح الجميل)؛ لأنه من الطاعات التي أمرنا ربنا بها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر:85)، فما هو الصفح الجميل:

أصل معنى «الصفح» الجنب، ومنه صفحتا السيف؛ أي جانباه ومنه «الصفوح»: وهو المائل المبتعد، المعرض عن عقوبة من آذاه. لذلك وصفت عائشة الصديق أباها بقولها: «كان صفوحاً عن الجاهلين» أي عفّواً، ومنه امرأة صفوح: أي تعرض عن الوحل وتبتعد.

وأصل الصفح الإعراض بصفحة وجهه عن ذنبه. ولذلك كان وصفاً لله تعالى، فهو عزّ وجل «الصفوح» أي العفو عن ذنب العباد، المعرض عن مجازاتهم تكرماً منه، ولذلك لما سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول إذا رأت ليلة القدر؟ قال صلى الله عليه وسلم: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».

فالعفو: هو مسح أثر الذنب الذي فعله غيرك معك، ولكن قد يكون أثره باقياً في النفس.

والصفح: هو العفو مع القدرة على الانتقام، مع إخراج أثر الذنب والخطيئة من بالك.

ولكن الذي يرضاه ربنا ويحبه هو الصفح الجميل: وهو الذي يترقى فيه المؤمن إلى الإحسان إلى من أساء إليه.

فهذه مراحل تبينها الآية: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134). قد يقال لماذا هذا التقسيم؟ والجواب: إن هذه مراحل في التربية، ذلك أن الإسلام يريد من أهله أن يعاملوا من أساء إليهم بالعفو لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم ويقولوا: والله لقد أحسنوا إلينا وأسأنا إليهم، أو يخجلون فلا يقفون في وجه الدعوة.

فالله عزّ وجل أمر رسوله أن يستعبد النفوس بالإحسان، وهو أمر فوق العفو، وفوق الصفح، إنه الصفح الجميل الذي تحسن فيه إلى من أساء إليك. ولكن هناك نفوس لا يستعبدها إحسان، بل وتتمرد على الخير والحق فما الموقف؟ والجواب: إنه لا بد عندها من أن يشمر المؤمن عن ساعد الجد ويفعل ما يأمره الله له، فلا بد من الحزم عندئذ، وهكذا خاطب الله عزّ وجل نبيه بقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ‌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُ‌دُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُـــــــفَّارً‌ا حَسَدـــــــــًا مِّنْ عِــــــندِ أَنفُسِهــــــِم مِّن بَعْدِ مَــــــا تَبــــَيَّنَ لَــــــــهـــــُمُ الْحَــــــقُّ فَــــــاعْـــــــفُوا وَاصــــْفَحُوا حَــــتَّى يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِ‌هِ} (البقرة:109) وهذا التعبير: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِ‌هِ} تهديد ووعيد، أي سنأمرك يا محمد بتأديبهم في مرحلة آتية لاحقة.

قال العلماء: «وهذه عملية فطرية إنسانية وقد عرفها العرب قبل الإسلام وجاء الإسلام فأكدها». فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة ومرة ومرة، وعندما يرى أن الإحسان لم يثمر، قام إلى القوة.

فضل الصفح وثوابه

يكفينا في بيان ثوابه وفضله حديث عقبة بن عامر، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فابتدرني، فأخذ بيدي فقال: «يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق الدنياو الآخرة، تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك». ذلك لأن العفو يجعلك تعيش في الدنيا عزيزاً، سليم الصدر، بعيداً عن الحقد وعن معاداة الرجال، لأن معاداة الرجال تجعلك تعيش في قلق وأرق.

بل الصفح سبيل إلى زيادة عزّ الرجل؛ ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للصدّيق: «يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق، ما من عبد ظلم بمظلمة فيفضي عنها لله تعالى إلا أعزه الله، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بأكثر، وما من رجل يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة»، وفي الحديث: «ما زاد الله عبداً يـــعـــــفـــو إلا عــــزّاً»، وفيــــ الحــــــديث: «التواضع لا يزيد العبد إلا رفقاً، والعفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فاعفوا يعزكم الله».

و العفو والصفح يجعلك تحشر مع أهل الفضل، فقد روى أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: «أيكم أهل الفضل؟»، فيقوم ناس من الناس، فيقال: «انطلقوا إلى الجنة «، فتتلقاهم الملائكة: «إلى أين؟»، فيقولون: «إلى الجنة»، قالوا: «قبل الحساب؟»، قالوا: «نعم»، قالوا: «من أنتم؟»، قالوا: «نحن أهل الفضل»، قالوا: «وما كان فضلكم؟»، قالوا: «إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا سيء إلينا عفونا»، فيقال لهم: «ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين». ومن حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقف العباد يوم القيامة، نادى منادٍ ليقم من كان أجره على الله فليدخل الجنة، فلا يقوم إلا من عفا».

الصفحُ من أخلاق العظماء

دين الإسلام دين كامل، أنزله الله تعالى ليسعد الخلق، وليعيشوا حياتهم بهناء وراحة بال وطمأنينة، فشرع الشرائع التي تضبط العلاقة بين العبد وربه، وكذا العلائق التي تكون بين البشر بعضهم ببعض، فكانت الأخلاق السامية، والفضائل العالية التي جاء بها الإسلام هي من أسمى الأخلاق التي عرفتها البشرية نبلاً وكرماً وسماحةً.

وإن من بين الأخلاق الكريمة التي جاء بها الإسلام: خلق الصفح. والصفح ترك المؤاخذة، وتصفية القلب ظاهراً وباطناً، ولقد دعا الله جل وعلا إلى الصفح ووصفه بالجميل، فقال سبحانه وتعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]. وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لا عِتَابَ مَعَهُ، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

والصفح أبلغ من العفو، ولذلك قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].

قال الكفوي: «الصّفح أبلغ من العفو، لأنّ الصّفح تجاوز عن الذّنب بالكلّيّة واعتباره كأن لم يكن، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاط اللّوم والذّمّ فقط، ولا يقتضى حصول الثّواب».

وقد جاء الأمر بالصفح في عدة مواضع من القرآن الكريم مقروناً بالعفو في بعضها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالصفح عن مناوئيه.

قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13].

وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم أيما تمثل، بل كان صلى الله عليه وسلم موصوفاً بالصفح والتجاوز، كما روى الإمام أحمد وغيره وأصله في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لمّا سُئِلَت عن خلُق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح».

وكان من صفحه الكريم ما فعله يوم فتح مكة كما روى البيهقي في سننه: أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ - أي كفار مكة -: «مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟». قَالُوا: خَيْرًا. أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».

كما أمر الله المؤمنين مِن عباده بالعفو والصفح ووعدهم بالرحمة والمغفرة إن هم فعلوا ذلك.

وكان الصفح مِنْ أخلاق مَنْ سلف من الصحابة والتابعين، كما روى البخاري في صحيحه معلقاً حيث قال: وذُكِرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: «كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا».

وقال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: «لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى، لقبِلتُ عذرَه». [الآداب الشرعية لابن مفلح 1/319].

وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: «إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه، فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ، ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تُحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو، فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور، لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان». [أدب المجالسة لابن عبد البر 116].

فهذا خلق الصفح الذي أمرت به الشريعة، وتلك نماذج من صفح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وذاك ما امتثل به الرعيل الأول، فهلا عاد هذا الخلق الكريم الذي كاد أن يندثر في حياة الناس، ويمتثله الذين ينتسبون لهذا الدين القويم، ليكون نبراساً لمن لا يعرف حقيقة الإسلام ويكون سبباً في هدايته ومحبته لهذا الدين.

الصفح والعفو

العلماء قالوا: هناك فرق بين العفو وبين الصفح، فالعفو أن تتجاوز هذا الذنب فلا تعاقب عليه، لكن الصفح أن تنساه كلياً، أن تعفو عن صاحبه، ولا تعاتبه إطلاقاً، فربنا عز وجل أمر النبي عليه الصلاة والسلام قائلاً له: ?فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ?.

وبعض علماء اللغة يقول: الصفح ترك التثريب، والتثريب هو اللوم، وترك التثريب أبلغ من العفو، فقد يعفو المرء ولا يصفح، قوله: عفوت عنه أي: لم يصفح عنه، لقد أساء إلي فعفوت عنه، ولم أعاقبه، هذا تثريب، فهذا تذكر أنك لا تنسى هذا العمل، فعفوت عنه، ولكن تذكر ذنبه وعفوك عنه، فهذا ليس صفحاً جميلاً. ?فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ?

صفحة جديدة

الصفح الجميل، أي: أن تعرض عن صفحة ذنبه، هذه صفحة ذنبه تطويها، وانتهى الأمر، هذه هو الصفح، أو أن تفتح له صفحة جديدة في تعامله معك، والصفح هو العفو مع ترك التثريب، وترك الملامة والذكر والامتنان.

النبي عليه الصلاة والسلام يأمره الواحد الديان أن يصفح الصفح الجميل، اصفح، فتخلّقوا عباد الله بأخلاق الله. ?فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ?

كأن الله عز وجل يقول: ما دام الله بصيراً بحالهم، وسيحاسبهم على أعمالهم، لأن الساعة آتية، فاصفح عنهم الصفح الجميل، يعني هذا الذي أساء إليك لا بدّ من أن يقف يوم القيامة ليحاسب على إساءته، ولا بدّ من أن يندم على فعلته، ولا بدّ من أن يلقى جزاءه، إذاً أنت فاصفح عنهم.

ثلاث خصال

والمظلوم مخير بين واحدة من ثلاث خصال:

إما أن يستوفي حقه، وهو العدل، وهو فعل الصالحين.

وإما أن يأخذ أكثر من حقه، وهو صفة الأرذال والظلمة.

وإما أن يعفو ويصفح، وهو اختيار الأنبياء والصديقين.

فإذا كان الصفح معه إحسان، فذلك الصفح الجميل الذي رغّب الله فيخ، فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُ‌ونَ. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُ‌هُ عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:39-40].
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي