الرأي اليوم / لبنان.... الخوف المشروع!


أزور لبنان بين فترة وأخرى، وأحرص على أن أراه كما هو بناسه وطرقاته وعفوية مجتمعه أكثر من رؤيته بعيون أهل الصحافة أو أهل السياسة. فالإعلاميون يكثرون من التحليل على حساب المباشرة والسياسيون يعطونك صورة ما يرونه أو يريدون رؤيته.
... لكن لبنان هو لبنان
بصراحة، لا أعرف شعباً مرت عليه صنوف الدهر كما مرت على الشعب اللبناني. لم يترك الرصاص جداراً إلا ومزقه، ولم يترك الوضع الاجتماعي السيئ طبقة الا وطالها سواء بناره أو بدخانه، ولم تترك المصائب قرية أو مدينة أو بلدة إلا وزارتها، ولم يبق جندي إسرائيلي أو أميركي أو أوروبي أو عربي إلا ووطئت قدمه شارعاً وطريقا... ومع ذلك تجد إصراراً غريباً عجيباً على النهوض وإعادة الإعمار وإكمال مسيرة الدنيا لا بمزاج الضرورة بل بمزاج الفرح والجمال ومواكبة التطور في كل شيء.
سر لبنان إنسانه. ثروة لبنان العلم والمعرفة والانفتاح والتعددية. لم يكن التنوع في لبنان مصدر تناقض وتأزيم على الإطلاق. اليوم نكتشف مع انكشافنا على العالم أن فرض الإجماع هو سبب التأزيم وليس التعددية، وأن التعددية مع نظام واحد افضل مليون مرة من إجماع مع أنظمة متعددة، خصوصا إذا احتمى كل خائف من الفرض والقهر بطائفته ومذهبه ومنطقته.
لكن سر لبنان معرض اليوم للانكشاف وثروة لبنان مهددة بالتبدد... وكأن القدر كتب على هذا البلد الصغير أن تظلمه الجغرافيا وأن يدفع أثماناً لا قدرة له عليها مع كل توتر تاريخي على حدوده الجنوبية أو الشرقية - الشمالية. عندما هجرت إسرائيل مئات ألوف الفلسطينيين الى لبنان هجرت أحلام اللبنانيين بمستقبل مستقر مضاجعها وحلت الكوابيس محلها. كان اللبنانيون بيئة حاضنة للقضية القومية الكبرى، قضية فلسطين، وكان أبناؤهم يتسابقون للشهادة دفاعاً عنها، وعندما علت أصوات قليلة جداً لكنها سبقت عصرها في التعقل محذرة من أن تشريع العمل الفدائي المسلح من لبنان بموجب «اتفاق القاهرة» سيشرع الحدود اللبنانية على الأعاصير الإقليمية ويفتح الأبواب لانهيار الاستقرار والاجتياحات العسكرية... لم يستمع أحد ولم ير أحد وانصرف السياسيون وراء شعبية الخطاب وتصفيق المتحمسين.
غرق لبنان باللاجئين الفلسطينيين الذين هجرتهم إسرائيل واغتصبت أرضهم وديارهم. وغرقت مخيمات اللاجئين بكل أنواع الأسلحة في يد فصائل متعددة تمددت خارج المخيمات ومدت خيوطاً مع أحزاب لبنانية كانت تناضل لفرض مطالب إصلاحية في بنية النظام اللبناني. انقسم الكيان اللبناني بين خائف من الانخراط في مشروع الكفاح المسلح وانعكاساته على البلد الصغير وبين من رأى في هذا المشروع فرصة للتغيير محلياً وإقليمياً. ارتكب الجميع الأخطاء بل الخطايا، سواء بالاحتماء بالفلسطيني أو السوري أو العراقي أو الليبي ضد اللبناني أو بالاحتماء بالإسرائيلي والأميركي وأطراف أوروبية وعربية أخرى ضد اللبناني. خسر لبنان ولم يربح أحد وصار ساحة مفتوحة للاجتياحات والصراعات وأصبح لكثير من الدول مواقع قدم فيه أمنية وتجسسية واستخباراتية وأحيانا تيارات سياسية تحارب بسيفها.
انتهت مرحلة وبدأت أخرى. تواصلت الاهتزازات لكن اللبنانيين الذين عركتهم التجربة وأدركوا أن الآخرين يريدونهم أداة في مخططاتهم استطاع بعضهم أن «يتواطأ» مع شريكه في المواطنة لمصلحة الاستقرار كون النار المقبلة لن توفر غرفة في هذا البيت.
اليوم، جمر العاصفة تحت الرماد. الأزمة السورية التي طالت وربما ستطول أكثر، وصل ما هو أكثر من دخان نارها إلى بلاد الأرز. مئات آلاف السوريين المنتمين إلى النظام والمعارضة والتيارات المختلفة والأفكار المتشددة نزحوا إلى لبنان فاستقبلهم اللبنانيون كأشقاء في بيوتهم أولا ثم أمنت لهم وكالات الأمم المتحدة جزءاً من مصاريف الإيجارات والغذاء والكساء ثم أقيمت بعض المخيمات لاستيعاب الأعداد التي تزداد يوماً بعد يوم. تجاوزت القصة سريعاً قصة واجب وأشقاء ومساعدات إنسانية، ودقت الاستحقاقات السياسية جرس الإنذار. خرج «نازحون» في تظاهرات انتخابية استفزازية، ثم دخل «نازحون» في تظاهرة عسكرية أشعلت عرسال، وبين من خرج هنا ودخل هناك موالاة لبنانية من هذا الطرف أو ذاك.، تترجم انقسامات في السياسة وغيرها.
استمرار الأزمة السورية واتساع ميدانها إقليميا وتفاقم الوضع الاجتماعي للاجئين في لبنان وتهديده للتركيبة السكانية وانقسام القوى السياسية اللبنانية حول الموضوع السوري وفراغ المؤسسات... كلها عوامل تذكر بالأجواء التي رافقت تهجير الفلسطينيين قبل نحو نصف قرن وأدت لاحقاً إلى حرب لبنان وحروب الآخرين على أرضه، خصوصا اذا تابعنا السياسة الأميركية التدميرية للمجتمعات والأوطان، وإذا وجدنا أنفسنا أمام تركيبة إقليمية - دولية جديدة تُشرع وضعاً جديداً للاجئين السوريين في لبنان سياسيا وأمنيا كما حصل في اتفاق القاهرة.
وكي تكتمل صورة بلد «حمال الأسية»، استقبل لبنان أيضاً نحو عشرة آلاف لاجئ عراقي خلال أقل من شهر نزحوا إليه هرباً من تطورات «داعش» وأخواتها.
أتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئا، وأن تكون هواجسي في الوجهة الخطأ، وألا يدفع لبنان ثمن حروب الآخرين مرة جديدة... وأتمنى أكثر أن ترتفع نسبة «التواطؤ» بين اللبنانيين واللبنانيين لتجنيب بلدهم توابع الزلازل في المنطقة لأن أحداً لن يربح في بلد خاسر.
جاسم مرزوق بودي
... لكن لبنان هو لبنان
بصراحة، لا أعرف شعباً مرت عليه صنوف الدهر كما مرت على الشعب اللبناني. لم يترك الرصاص جداراً إلا ومزقه، ولم يترك الوضع الاجتماعي السيئ طبقة الا وطالها سواء بناره أو بدخانه، ولم تترك المصائب قرية أو مدينة أو بلدة إلا وزارتها، ولم يبق جندي إسرائيلي أو أميركي أو أوروبي أو عربي إلا ووطئت قدمه شارعاً وطريقا... ومع ذلك تجد إصراراً غريباً عجيباً على النهوض وإعادة الإعمار وإكمال مسيرة الدنيا لا بمزاج الضرورة بل بمزاج الفرح والجمال ومواكبة التطور في كل شيء.
سر لبنان إنسانه. ثروة لبنان العلم والمعرفة والانفتاح والتعددية. لم يكن التنوع في لبنان مصدر تناقض وتأزيم على الإطلاق. اليوم نكتشف مع انكشافنا على العالم أن فرض الإجماع هو سبب التأزيم وليس التعددية، وأن التعددية مع نظام واحد افضل مليون مرة من إجماع مع أنظمة متعددة، خصوصا إذا احتمى كل خائف من الفرض والقهر بطائفته ومذهبه ومنطقته.
لكن سر لبنان معرض اليوم للانكشاف وثروة لبنان مهددة بالتبدد... وكأن القدر كتب على هذا البلد الصغير أن تظلمه الجغرافيا وأن يدفع أثماناً لا قدرة له عليها مع كل توتر تاريخي على حدوده الجنوبية أو الشرقية - الشمالية. عندما هجرت إسرائيل مئات ألوف الفلسطينيين الى لبنان هجرت أحلام اللبنانيين بمستقبل مستقر مضاجعها وحلت الكوابيس محلها. كان اللبنانيون بيئة حاضنة للقضية القومية الكبرى، قضية فلسطين، وكان أبناؤهم يتسابقون للشهادة دفاعاً عنها، وعندما علت أصوات قليلة جداً لكنها سبقت عصرها في التعقل محذرة من أن تشريع العمل الفدائي المسلح من لبنان بموجب «اتفاق القاهرة» سيشرع الحدود اللبنانية على الأعاصير الإقليمية ويفتح الأبواب لانهيار الاستقرار والاجتياحات العسكرية... لم يستمع أحد ولم ير أحد وانصرف السياسيون وراء شعبية الخطاب وتصفيق المتحمسين.
غرق لبنان باللاجئين الفلسطينيين الذين هجرتهم إسرائيل واغتصبت أرضهم وديارهم. وغرقت مخيمات اللاجئين بكل أنواع الأسلحة في يد فصائل متعددة تمددت خارج المخيمات ومدت خيوطاً مع أحزاب لبنانية كانت تناضل لفرض مطالب إصلاحية في بنية النظام اللبناني. انقسم الكيان اللبناني بين خائف من الانخراط في مشروع الكفاح المسلح وانعكاساته على البلد الصغير وبين من رأى في هذا المشروع فرصة للتغيير محلياً وإقليمياً. ارتكب الجميع الأخطاء بل الخطايا، سواء بالاحتماء بالفلسطيني أو السوري أو العراقي أو الليبي ضد اللبناني أو بالاحتماء بالإسرائيلي والأميركي وأطراف أوروبية وعربية أخرى ضد اللبناني. خسر لبنان ولم يربح أحد وصار ساحة مفتوحة للاجتياحات والصراعات وأصبح لكثير من الدول مواقع قدم فيه أمنية وتجسسية واستخباراتية وأحيانا تيارات سياسية تحارب بسيفها.
انتهت مرحلة وبدأت أخرى. تواصلت الاهتزازات لكن اللبنانيين الذين عركتهم التجربة وأدركوا أن الآخرين يريدونهم أداة في مخططاتهم استطاع بعضهم أن «يتواطأ» مع شريكه في المواطنة لمصلحة الاستقرار كون النار المقبلة لن توفر غرفة في هذا البيت.
اليوم، جمر العاصفة تحت الرماد. الأزمة السورية التي طالت وربما ستطول أكثر، وصل ما هو أكثر من دخان نارها إلى بلاد الأرز. مئات آلاف السوريين المنتمين إلى النظام والمعارضة والتيارات المختلفة والأفكار المتشددة نزحوا إلى لبنان فاستقبلهم اللبنانيون كأشقاء في بيوتهم أولا ثم أمنت لهم وكالات الأمم المتحدة جزءاً من مصاريف الإيجارات والغذاء والكساء ثم أقيمت بعض المخيمات لاستيعاب الأعداد التي تزداد يوماً بعد يوم. تجاوزت القصة سريعاً قصة واجب وأشقاء ومساعدات إنسانية، ودقت الاستحقاقات السياسية جرس الإنذار. خرج «نازحون» في تظاهرات انتخابية استفزازية، ثم دخل «نازحون» في تظاهرة عسكرية أشعلت عرسال، وبين من خرج هنا ودخل هناك موالاة لبنانية من هذا الطرف أو ذاك.، تترجم انقسامات في السياسة وغيرها.
استمرار الأزمة السورية واتساع ميدانها إقليميا وتفاقم الوضع الاجتماعي للاجئين في لبنان وتهديده للتركيبة السكانية وانقسام القوى السياسية اللبنانية حول الموضوع السوري وفراغ المؤسسات... كلها عوامل تذكر بالأجواء التي رافقت تهجير الفلسطينيين قبل نحو نصف قرن وأدت لاحقاً إلى حرب لبنان وحروب الآخرين على أرضه، خصوصا اذا تابعنا السياسة الأميركية التدميرية للمجتمعات والأوطان، وإذا وجدنا أنفسنا أمام تركيبة إقليمية - دولية جديدة تُشرع وضعاً جديداً للاجئين السوريين في لبنان سياسيا وأمنيا كما حصل في اتفاق القاهرة.
وكي تكتمل صورة بلد «حمال الأسية»، استقبل لبنان أيضاً نحو عشرة آلاف لاجئ عراقي خلال أقل من شهر نزحوا إليه هرباً من تطورات «داعش» وأخواتها.
أتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئا، وأن تكون هواجسي في الوجهة الخطأ، وألا يدفع لبنان ثمن حروب الآخرين مرة جديدة... وأتمنى أكثر أن ترتفع نسبة «التواطؤ» بين اللبنانيين واللبنانيين لتجنيب بلدهم توابع الزلازل في المنطقة لأن أحداً لن يربح في بلد خاسر.
جاسم مرزوق بودي