الرأي اليوم / قصة شخص غير موجود في الكويت

تصغير
تكبير
راقب منذ نعومة أظفاره كيف كان والده يتعاطى مع شؤون الناس وشؤون البلد وشؤون المجتمع. لاحظ طيبته وصدقه وعفويته وانفتاحه على الصغير قبل الكبير، واستغرب كيف كان يؤثر مصالح الآخرين على مصالحه وينذر نفسه للخدمة العامة على حساب أموره الخاصة.

كبر في ظل كبير أسرته وكبر آخرون في ظله أيضاً، لم يكن منزلهم يميز بين الابن والشقيق والضيف والجار والسائل وطالب الحاجة. كان والده يقول له دائما إن إسعاد الناس غاية قد لا تدرك لكن مساعدة الناس غاية تدرك. يكفيه شرف المحاولة كي ينام مرتاح الضمير، فالأعمال بالنيات.


عندما رحل والده شب على شيء من قيمه، لكنه افتقد الميزة الأساسية للراحل: الرؤية والروية. أراد خلق أجواء غير تقليدية حول حركته كي يطرح اسمه كرقم ثابت لا في واجهة العمل العام فحسب بل في العائلة أيضا.

وجد أن من الصعب جداً اعتماد أسلوب الارتقاء التقليدي خصوصا إذا كانت الصفوف طويلة والادوار محددة ومعروفة. لذلك بدأ بالمشاكسة وإعطاء انطباعات معينة بأنه مستعد للتغريد خارج السرب التقليدي. أرسلوا في طلبه مرة وثانية وثالثة وتمنوا عليه أن يلتزم الإطار العام للنظام وفي كل مرة كان يوافق ويخرج سعيداً لأنه تمكن من فرض نفسه تدريجياً في المشهد العام والبيت الداخلي على حد سواء.

لم يكتف بذلك. فقد سخر الذكاء الفطري الذي ورثه عن والده إنما للشأن الخاص لا العام. سمع ورأى، شاهد الخلافات والتذمرات، شهد اختلاف وجهات النظر واتقن فن التسلل بين الأقطاب. تبرع ظاهريا بالدفاع عن قطب بينما كان ينسج علاقة مع منافسه ويوهم الاثنين أنه نصير لهما وأن ما يقوم به هو لمصلحتهما في النهاية.

استفاد من حضوره في دائرة الضوء وبدأ يكون مجموعة ضيقة حوله من أقربائه ويسر لها أنه صاحب مشروع أكبر بكثير مما يتصورونه، وانفتح على مجاميع مختلفة من خارج دائرته الأسرية محاولا ربط ولائها له عبر الخدمات التي قدمها من توظيف وتعيين ونقل وسفر ومنح.

«الولاء أولاً ثم الكفاءة»، شعار رفعه ليجد نفسه بعد فترة قصيرة محاطاً بالكثير الكثير من الناس لكن كمياتهم لم تنتج فرزاً نوعياً يساعده على التقدم خطوات في مشروعه... وربما كان وما زال يعتبر نفسه الأذكى والأقدر على التفكير والتحرك السريع والخروج من الازمات بأقل قدر من الخسائر، ولذلك لم يهتم كثيراً بالحاشية أو البطانة أو المستشارين طالما أنه يعتقد أن الولاء قبل الرأي السديد.

ولأن المشروع والقدرات المالية خطان متوازيان، جهد الرجل فعلا لتأمين مداخيل تكفيه وتفيض عن حاجته. لم يكن تاجراً معروفاً ولم يخض في عالم المال والأعمال ولم يرث مؤسسات ومصانع. كيف صارت ثروته متضخمة؟ كيف اشترى ولاءات ومؤسسات إعلامية؟ كيف وظف مناصبه في خدمة مشروعه وهل تم ذلك بطرق قانونية أو غير قانونية؟ موضوع لا علاقة لنا فيه لكن من يعرفه جيداً يعرف كيف انتقل من حال إلى حال ما بين طرفة عين وانتباهتها، وكيف نجح في ابتزاز حتى من مد له يد المساعدة سواء من داخل أسرته أو من خارجها.

امتلك الحضور. القدرة والنشاط والحركة. العلاقات. الحاشية. المال... لكنه امتلك أيضاً صفات هدامة اهمها الاستعجال والحسابات الخاطئة وغياب الرؤية. لم يميز بين حرق التحالفات وتوظيف الخصومات لمصلحته وبين حرق الثوابت والمبادئ الوطنية وتعبيد طريق الخصومات للزحف على المؤسسات. وعندما ارتدت عليه بعض اعماله واضطرته التطورات إلى الانكفاء رفض ان «يرتاح» واقسم على الانتقام... وهنا اكتشف الجميع خطورة عدم وجود مستشارين وعقلاء حوله خصوصا أن نار الانتقام التي أشعلها كفيلة بأن تحرق يديه وثيابه أولاً.

اعتقد أنه يحرك آخرين في مشروعه الجديد، والآخرون يتندرون في مجالسهم الخاصة بانهم يستخدمونه في مشروعهم. تحالف غريب عجيب.

إذا استرجع المرء كلامه ومواقفه في السنوات السابقة ونظر إلى حلفائه اليوم يجد أنهم هم المعنيون بكل ما قاله وقصده، وإذا استرجع المرء كلام حلفائه ومواقفهم في السنوات السابقة ونظر إليه يجده معنيا بل في صلب ما قالوه وقصدوه... لكنها المواقف المتلونة والمبادئ الراحلة التي تشيع يوميا والمستوى الخطير الذي وصلت إليه الحياة العامة.

خرج عن توازنه، وصار يقوم بأمور لا تخطر على بال أحد وليست مألوفة لا في عائلته ولا في مجتمعه. فطر قلوب أقرب المقربين إليه وهم يرونه يبذل هذا الجهد الكبير كي يخفف اهتزازه. قد يقع في الفخ الذي نصبه لآخرين، وقد يدفع ثمن أفعاله، وقد تنقذه العناية الأسرية مجدداً كوننا جبلنا على التسامح والاستيعاب ومنح الفرص تباعا... ولكنه في كل الأوقات «يكسر الخاطر» لأنه كان مشروعاً واعداً لو سار بخط مستقيم وخفف استعجاله وأحاط نفسه ببطانة صالحة.

أعتقد أن كل ما قلته في هذه القصة صحيح تماما من وجهة نظري... باستثناء العنوان.

جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي