الرأي اليوم / أوباما بين فوق وتحت!

تصغير
تكبير
مشهدان يخيمان على العالم العربي. من فوق انتخابات في أكثر من منطقة، ومن تحت حروب واضطرابات ومآس في أكثر من منطقة، والمشهدان مرتبطان لأن الذي «فوق» بقي في موقعه بسبب تركيبة ما هو «تحت»، والذي «تحت» بقي على حاله بل ساءت أحواله بسبب من هو «فوق».

مشهدان هما في الحقيقة مشهد واحد، وما تأملته شعوبنا بعد وصول باراك أوباما إلى الرئاسة في أميركا واعتماده نظرية الانسحاب العسكري من المنطقة في مقابل تقدم التحريض المجتمعي على التغيير، كان «أمل إبليس بالجنة» لأن الجنة الأميركية الموعودة أيضا اعتمدت شعارات الديكتاتوريين العرب نفسها، فهؤلاء يقولون: «أنا أو الفوضى» والأميركيون قالوا: «إما التغيير عبر القوى التي نريدها وإما العودة إلى الديكتاتورية والفوضى»... والنتيجة، طوابير الشهداء والضحايا والمصابين والمهجرين من جهة، وانتخابات يقودها ويهندسها ويشارك فيها الزعيم نفسه أو القائد نفسه أو الرئيس نفسه.


لنكن صريحين أكثر ونقارب الحقيقة مهما كانت مؤلمة... الثورة شيء والفورة شيء آخر.

عندما تستغل جهات ما حركة شعب يتوق إلى التغيير وتقفز إلى مقدمة القطار لدى اقترابه من محطة الوصول فهذه ليست ثورة بل انتهازية للوصول إلى السلطة.

وعندما تستغل «سلطة» ما في الدولة وضعا مأسويا يعيشه الشعب فتسكب الوقود على نار الحراك ثم تنحاز إلى ذلك «الحراك» ضد «سلطة» أعلى لتعود هي وترسم مستقبل الحكم... فذلك قد يكون أقرب الى انقلاب منه إلى ثورة.

وعندما يهب الشارع أملا بالحرية والعدالة والخبز ومستقبل أفضل، إنما من دون أي آليات تنظيمية وسياسية تؤطر الحراك وتبني مرجعية صالحة له فتلك انتفاضة وليست ثورة، وستتحول مع الأيام إلى فوضى خصوصا إذا كان النظام الذي تواجهه خبيثا ودمويا ولا توجد في قواميسه كلمات عن الإنسان وحقوقه.

وعندما يخرج الناس على حاكم مستبد مسلحين بالورود والتصفيق والتظاهرات، ومسلحين أكثر بدعم سيد البيت الأبيض لهم من أجل التغيير، خصوصا أنه قال لأحد الحكام العرب بأن عليه أن يترك السلطة الآن «والآن تعني أمس»، ثم يتركهم في دولة أخرى فريسة نيران السلطة التي قتلت مئات الآلاف منهم وهو على المعزوفة نفسها: «لن نترككم وحدكم. حاكمكم سيدفع الثمن»، فهذه ليست ثورة ولا انتفاضة... هي طيبة (كي لا نقول أكثر من ذلك) وأوباما هنا شريك بطريقة أو بأخرى في المجازر التي تحصل.

وعندما يخرج الناس على حاكم مستبد بمساعدة دول أوروبية وأميركا ثم تخرج هذه الدول بعد خروج الحاكم من السلطة ويتحول البلد إلى مقاطعات للميليشيات المتقاتلة المتصارعة فهذه أيضا ليست ثورة بل تحلل لدولة.

الاستثناء الوحيد حتى الآن برز في تونس (نقول حتى الآن) نتيجة أسباب عدة أهمها ربما أن قيم المجتمع المدني متجذرة هناك، وأن العلاقات التاريخية مع أوروبا شكلت جسرا من البنى الثقافية والحضارية أمكنها أن تستوعب متناقضات ما بعد التغيير حيث تجاور اليساري النقابي مع الحزبي الإسلامي مع التكنوقراط والليبراليين. إضافة إلى مؤسسة عسكرية قوية حافظت على تماسكها وصيانتها للدستور.

المهم في كل ما عرضناه سابقا ليس الواقع المتخلف الذي نعيشه والذي اكتشفنا من خلال ما جرى ويجري في ليبيا وسورية واليمن مثلا (وبدرجة أقل في دول أخرى) انه أسوأ بكثير مما كنا نظن، المهم اننا اكتشفنا أميركا الجديدة التي اقترب سلوك رئيسها من سلوك رؤساء بعض الدول العربية، فهي تضغط بكل ثقلها خلف حراك سياسي وشعبي في هذه الدولة أملا في وصول طرف بعينه إلى السلطة، فان لم يصل أو اقصي لاحقا فإن «الخطة ب» لدى البيت الابيض هي الفوضى وصولا إلى «الخطة سي» التي تقضي بالتفاوض بعد الخراب أملا في تحصيل ما يمكن تحصيله.

في ليبيا، دخل أوباما الحرب على القذافي من دون أي تشاور مع الروس الذين كانت مصالحهم متجذرة هناك. وحجته المعلنة ان بنغازي كانت ستتعرض لمجزرة. في سورية يقول أوباما منذ ثلاث سنوات انه مع انتفاضة الشعب وأن رأس السلطة سيحاسب لكنه ما زال يحسب كل خطوة بالتنسيق مع الروس على أساس أن الاجماع الدولي مطلوب... لا توجد بنغازي مهددة في سورية. لم تحصل مجازر هناك. وربما (وهو الاهم) أن انتاج سورية من النفط لا يعادل شيئا إذا ما قورن بإنتاج ليبيا. وفي اليمن نحمد الله أن مجلس التعاون الخليجي دخل بكل ثقله لتأمين عملية انتقال للسلطة بأقل الخسائر الممكنة وإلا لكانت «العبقرية» الاميركية حولته إلى خمسة يمنات، مع بقاء اليد على القلب في انتظار ما يخبئه المستقبل.

مشهدان نرصدهما اليوم، انتخابات من فوق وحروب وفوضى ومآس وضياع وخوف من تحت. وبين المشهدين خيط أميركي واضح لا لبس فيه، اما تدخلا او تجاهلا... التجاهل مصيبة والتدخل مصيبة اكبر.

أيام افغانستان كانت الاصولية السنية ممثلة بالمجاهدين «عاقلة» من وجهة نظر الاميركيين. امس، قال اوباما ما معناه إن الاصولية الشيعية ممثلة بإيران عاقلة مقارنة بالأصولية السنية. أول من أمس قال ما معناه إن اكتفاء أميركا من النفط والاكتشافات الجديدة والاستخراجات من الصخور ستمكنه من القول لحكام الخليج أي انظمة تريدها اميركا.

اكتفي بالخلاصة التالية: الحمد لله ان أوباما لم يكن في البيت الأبيض عندما حصل غزو الكويت.

جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي