ظاهرة قديمة إلا أنها تأخذ أشكالاً شتى ولا يلتفت إليها أحد
عقوق الآباء للأبناء.... انتكاسة للفطرة وآلام لها صدى تؤثر على نمو الأولاد وتفكيرهم
كم من أبوين أضاعا مستقبل أبنائهما بتهورهما واستهتارهما
• ما أكثر ما يشكو الآباء من عقوق الأبناء ... ولكن من يرفع شكوى الأبناء من عقوق الآباء؟
• إنه لتناقض عجيب أن يتلقن الأبناء البر كلمات وشعارات... وهم يرون مشاهد الإهانة ليل نهار
• حقوق الأبناء على الآباء كثيرة والقرآن الكريم والسنة النبوية مليئان بالحث عليها
• إنه لتناقض عجيب أن يتلقن الأبناء البر كلمات وشعارات... وهم يرون مشاهد الإهانة ليل نهار
• حقوق الأبناء على الآباء كثيرة والقرآن الكريم والسنة النبوية مليئان بالحث عليها
ظاهرة قديمة، غير أنها تأخذ صورا وأشكالا شتى. ففيما يطالب كل الآباء أبناءهم بأن يبروهم ويعاملوهم بالحسنى، وتنطلق دعاوى العلماء والشيوخ والدعاة محذرة الأبناء من عقوق آبائهم، لا يلتفت أحد من هؤلاء جميعا إلى قضية حقوق الأبناء على آبائهم. بينما يصرخ العديد من الأبناء شاكين منددين بعقوق آبائهم لهم. كثيرا ما سمعنا أو قرأنا أو استنكرنا عقوق الأبناء لآبائهم أو سوء معاملتهم أو تنكرهم لهم أو قيامهم بفعل مسيء بحقهم يرفضه الدين والمجتمع إلا أنه نادرا جدا أن تطرق أحد أو ناقش أوطرح أو تناول موضوع عقوق الآباء أو بمعنى أصح ظلم الوالدين لأبنائهم أو التسبب بإيذائهم ماديا أم معنويا ، ولا نعلم السبب في تجاهل كثير من الناس لهذا الأمر! بل وقد تمادى البعض لتعزيز فكرة أن الوالدين لمجرد أنهما والدان فلهما على الأبناء حقوقا مهما فعلا أو لم يفعلا وبغض النظر عن التزامهما بالقيام بواجبهما على أكمل وجه أم لا! رغم أنه في الإسلام للابن حق على أبيه كما للأب حق الرعاية والتقدير والاحترام...
لقد جعل الاباء اية (ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما) سيفا مصلتاً على الابناء يرهبونهم به ويؤذونهم بحجة انهما والدان.
عجبا هل تحول الدين الى سلاح يمارس القوي فيه سلطاته على الضعيف؟ صحيح نحن لا نملك الحق في محاسبة أهلنا مهما فعلوا وليس ذلك هو ما نهدف إليه بل نرجو لو يضع الأهل سلوكهم ومعاملتهم لأبنائهم تحت المجهر ويراقبون مدى التزامهم بأداء الدور المرجو منهم ويحاسبون هم أنفسهم.
ترى هل يعي جميع الآباء أن لأبنائهم حقا عليهم؟!
الوالدان هما من يعهد إليهما بتربية أبنائهما وبالتالي يعتبران مسؤولين بنسبة كبيرة عن تصرفات أبنائهما ولكن الأبناء لا يختارون آباءهم ولا أهلهم ولا يملكون تربيتهم أو تغييرهم أو تصحيح توجهاتهم الخاطئة وبالتالي فإن مشقة العيش مع والدين أو احدهما يسيء لأبنائه لهي أصعب بكثير من تحمل العيش مع ابن عاق...فكم من أب ظلم أبناءه أو قصر باحتياجاتهم أو مارس عليهم أسلوب القمع والدتكتاتورية في التربية دون أن يحاسب نفسه بما فعل أو يتقي الله بهم؟ وكم من أم أضاعت مستقبل أبنائها بتهورها واستهتارها؟ ما أكثر ما يشكو الآباء من عقوق الأبناء. ولكن من يرفع شكوى الأبناء من عقوق الآباء؟!
هل من معتبر قبل وقوع الجناية.. أو مستدرك قبل فوات الأوان..؟!
إنه لتناقض عجيب أن يتلقن الأبناءُ البرَّ كلمات وشعارات.. وهم يرون مشاهد الإهانة وسوء الخلق ليل نهار! فمن أين يأتي البر المنشود؟!
إنها سلسلة ذات حلقات.. بالسلب أو بالإيجاب.. تتوارثها أجيال عقب أجيال.. وفق سنة لا تتخلف (الجزاء من جنس العمل).. كما في الأثر: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم».
فمن ورث البر كابراً عن كابر.. ورّثه لمن بعده.. وورثه هو «قرة عين» تهنأ بها حياته وتسعد بها ايامه ويضمن النجاة في الاخرة.
لم ينتبه الكثير لظاهرة عقوق الآباء لأبنائهم، على الرغم من أنها ظاهرة قديمة، غير أنها تأخذ صوراً وأشكالاً شتى.. بينما يصرخ العديد من الأبناء شاكين منددين بعقوق آبائهم لهم.
فكما أن للوالد حقاً على ولده، فإن للولد حقاً على والده، ولو أن كليهما عرف حق صاحبه وأدّاه لازداد خيرهما وذهب عنهما ما يسوؤهما، وعمتهما رحمة الله في الدنيا والآخرة، وهذا ما حثنا عليه ديننا الحنيف.
وعقوق الآباء لأبنائهم ظاهرة يتجاهلها كثير من الآباء رغم أنها خطيرة جداً... فنجد أن بعض الآباء يكذب أمام ابنه الصغير وهو لا يبالي، والبعض الآخر لا يهتم بابنه إلا في المأكل والمشرب، ولا يسأل ابنه هل صلى في جماعة، أم كم حفظ من كتاب الله، ومن هم أصدقاؤه، والبعض الآخر يتشاجر مع زوجته أمام ابنهما. وهذا كله عقوق للأبناء.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو ولده فأرسل عمر رضي الله عنه إلى الولد وقال له: أما تتقي الله في والدك الشيخ الكبير فحقه على ولده كذا وكذا فقال الولد أليس لي حق عليه، قال: نعم وعليه أن يحسن اسمه ويختار أمه ويعلمه القرآن. فقال لم يفعل يا أمير المؤمنين فقد سماني جعلها أي جعراناً (حشرة) وأمي امرأة زنجية كانت أمة لرجل مجوسي ولم يعلمني من القرآن شيئاً. فنظر عمر إلى الوالد وقال له: أجئت تشكو عقوق ولدك وقد عققته قبل أن يعقك؟ إليك عني.
حقوق الأبناء
إن حقوق الأبناء على الآباء كثيرة والقرآن الكريم والسنة المطهرة مليئان بالحث عليها ومنها:
* تربيتهم، تربية صالحة ينجو بها من النار ويسعد في الدنيا والآخرة، قال تعالى لرسوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [ طه : 132 ]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ}الآية [ التحريم : 6 ] أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة. وتبدأ العناية بالطفل قبل أن يدخل إلى رحم أمه؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره»
* ومنها: تسميتهم بالأسماء الحسنة، والإحسان إليهم في المعاملة، وتعليمهم، والعدل بينهم في العطية، والإحسان والحنان والعطف والعطية، لحديث النعمان بن بشير المتفق عليه: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم».
* ومنها: وجوب النفقة عليهم إن كانوا فقراء، قال الله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم :» كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول»؛ رواه احمد وابو داود وصححه الإمام النووي.
* ومنها: تربيته على الفضائل وإبعاده عن الرذائل، ويعلم علوم الدين، ويدرب على الصلاة وعلى العبادات الأخرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :»مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع»..رواه أبو داود
ومع التوجيه والإصلاح؛ قال صلى الله عليه وسلم الله : «كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته، فالأب راع في بيته ومسئول عن رعيته»؛ متفق عليه.
* ومنها: اختيار الأم الصالحة الطيبة ذات الأصل الطيب والخلق القويم، ففي الصحيحين وغيرهما قال صلى الله عليه وسلم:» تنكح المرأة لأربع وذكر منها: ذات الدين فقال: فاظفر بذات الدين تربت يداك»
إن الله تعالى من عدله بين عباده أوجب على الأبناء حقوقاً تجاه آبائهم وأوجب كذلك في المقابل للأبناء حقوقاً على الآباء فكما أن على الأبناء الإحسان إلى الآباء، وطاعتهما وبرهما، والإنفاق عليهما عند القدرة إذا كانوا فقراء، فكذلك للأبناء على الآباء حقوق.
وليعلم أن تقصير الآباء في حقوق الأبناء لا يبرر عقوق وتقصير الأبناء، فإذا كان كفر الوالدين بالله العظيم لا يُسقط حقهم في البر والإحسان فبالأحرى ألا يسقطه تضييعهما لحق الولد وإنما على الأبناء الاجتهاد في طاعتهما وكسب رضاهما.
يرى بعض العلماء أن هذه الظاهرة انتكاسة للفطرة، فعندما يجد الأبناء الآباء لا وظيفة لهم في الحياة، فقد يصل هذا إلى حد الكره والرفض لهم. وإن كان الله تعالى قد طالب الأبناء بالدعاء لآبائهم كما قال تعالى:{وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} (الإسراء:24).
فأين هذه التربية لكي يرحمهما الله؟ هؤلاء آباء عقوا أبناءهم، والعقوق هنا مختلف، فالمعروف عقوق الأبناء للآباء، ولكن ما يحدث العكس. لذلك يصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليعن ولده على بره». فالمطلوب من الأب إعانة ولده على بره؛ وإلا فإنه سيحاسب على عقوقه لولده، كما يحاسب ولده على عقوقه.
سوء المعاملة
إلا أن فريق من علماء علم الاجتماع لا يرون أن ما يحدث من الآباء للأبناء عقوق، بل هو نوع من سوء المعاملة. و من أهم أسباب سوء المعاملة أن كثيرا من الناس غير راغبين في الإنجاب مما يؤثر على سلوكهم مع أبنائهم، وأن بعضهم يرى أن الأبناء يتربون بدون أحد، فالدنيا تربيهم، ولا حاجة لهم في أن يتعبوا أنفسهم، وأن بعضهم مشغولون بمشاغل الحياة من الطعام والشراب، ولا وقت عنده للاهتمام بعملية التربية، وأسباب اجتماعية أخرى.
ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أن التربية الآن كثيرا ما يغلب عليها انعدام لغة الحوار بين الآباء والأبناء، وسادت لغة الأمر الواجب تنفيذه بدون مراجعة، وصار الوالد في البيت هو «سي السيد» كما صوره نجيب محفوظ في بعض رواياته. ولكن من المهم أن يسمع كل منهما للآخر، فالزمن غير الزمن، والجيل غير الجيل، واللغة غير اللغة، وعند هذا الاختلاف يكون الحوار والتفاهم والسماع والإقناع من أهم وسائل التربية الحديثة.
اما الداعية الاسلامية الدكتورة عبلة الكحلاوى فقد قالت ان ظلم الأم والأب للأبناء في هذا الزمن شلالات نار وآلام لها صدى تؤثر على نمو أولادهم وتفكيرهم وتعد تقصيرا في إعدادهم، وهذا ما يعرف بعقوق الآباء، إلا أن هذه الظاهرة لا يلتفت إليها أحدا.
دوافع العقوق
وحتى يمكن الوصول إلى حلول مناسبة لهذه القضية، فسنحاول خلال هذه السطور رصد دوافع سوء معاملة الآباء للأبناء والتي جاءت على النحو التالي:
الصراع بين الأجيال : الانفتاح على العالم في كافة الجوانب الثقافية والاقتصادية والقيمية: وهذا له أثر على ظهور أنماط وأساليب لا تتفق مع قيم آبائنا الأخلاقية. ومن هنا يأتي ما يسمى بالصراع بين الأجيال، كما تشير الدكتورة سهير العطار في كتابها «علم اجتماع عائلي».
الخوف الشعوري واللاشعوري: أما الدكتور وائل أبو هندي- أستاذ للطب النفسي بجامعة الزقازيق، فيرى أن هذه الظاهرة تعود غالبا إلى نوعين من الدوافع، دوافع شعورية، ودوافع لا شعورية. ففي النوع الأول: يسيطر خوف الآباء من التغيرات الحاصلة في المجتمع علي طريقة التعامل مع الأبناء. أما في النوع الثاني فيظهر خوف فقدان السيطرة؛ فالشاب الذي يكبر يمكن أن يكشف عن بعض نقاط الضعف في والده الذي لم يحب أن يعرفها ابنه عنه.
التغيرات المتلاحقة في كافة أوجه النشاط الإنساني في المجتمع وما يصاحبه من تغيرات في القيم والاتجاهات والعادات: فلا شك أن لهذا أثره على أداء الأسرة لدورها التربوي والأخلاقي؛ إذ إنها تواجه العديد من التيارات الفكرية التي تتناقض مع القيم التي يعمل الآباء على دمجها في شخصية أبنائهم. وهذا ما حدث في حالة الفتاة الملتزمة خوف أبيها من الاندماج في أي تيار إسلامي ولهذا نجد التشدد في المعاملة عليها.
زيادة المتطلبات الأسرية نتيجة الانفتاح علي العالم: وتدني المستوى الاقتصادي للأسرة يلجأ الآباء إلى السفر لتوفير متطلبات أبنائهم المادية؛ وينسون أهم متطلب وهو الحاجة المعنوية للأبناء كما يرى. عبد الباسط عبد المعطي في كتابه «نظرية في علم الاجتماع». وهذا ما حدث مع الشاب الذي فقد أباه نتيجة لسفره بالخارج.
خروج المرأة لمجال العمل أدى إلى تغير في توزيع الدوار بين أفراد الأسرة: فبعد أن كان الأب مسؤولا على الإنفاق في الدور الأول والأم مسؤولة عن التربية، أصبح دور التربية يقوم به مؤسسات وحضانات؛ فبالتالي فقد الابن لغة الحوار مع أهله، حسب رؤية الدكتور حسن الخولي في كتابه «علم اجتماع المرأة».
ورغم تلك الدوافع التي جعلت الأسرة تفقد جزءا كبيرا من وظيفتها، وهي التربية، مما نتج عنه عقوق الآباء للأبناء، فتبقى المشكلة كما هي، فهل يعي الآباء الخطر الذي يحيط بهم، أم يستسلموا لدوامة الحياة، وعواصف العولمة التي تجتاح مجتمعاتنا؟! عليهم أن يختاروا.. إما المقاومة وإما الاستسلام.
صور العقوق
وتعالوا بنا في جولة سريعة نرى بها مجموعة من عقوق الاباء لأبنائهم:
سوء اختيار الام هو اهم دليل على عقوق الابناء لوالديهم. عندما يختار الاب اما لاهية لا هم لها سوى تمضية الوقت في النوادي او التجول في الاسواق مع صديقاتها او الاهتمام بالزينة والموضة مهملة ابناءها تاركة الاهتمام بهم للخادمة. عندما تكبر هذه الام فلن تجد ابناءها الى جانبها كي يساعدوها بل قد يضعونها هي او والدهم في دار المسنين. الابناء محتاجون الى عطف الام واهتمامها. وكم من كوارث حصلت بسبب عدم حصول الابن على الرعاية اللازمة من امه. الابن عندما يرى امه لاهية فإنه يبحث عمن يعوضه عن الفراغ العاطفي الذي خلفه غياب الام فنجد هذا الابن قد انضم الى رفقة السوء ويقضي جل وقته في الخارج ولا يعود الا ليلا. اذا كانت الام قد تخلت عن امومتها عندما كان الابناء بحاجة لها فكيف تطلب منهم الاهتمام بها؟ لن يقبل الابناء بذلك ابدا. ومن يذهب الى المحاكم النظامية والشرعية فسيرى من القضايا ما يشيب له الولدان وكلها دعوى من الام او الاب على ابنائهما متهميهم بالتقصير في حقهما. ولو تأملنا تفاصيل تلك القضايا لعرفنا ان الوالدين قد اهملا حقوق ابنائهما فكيف يطلبان حقهما ممن اهملوهما؟
وكذلك الاب اذا كان مستهترا يقضي اغلب وقته مع اصدقائه ويهمل ابناءه بحجة انه وفر لهم ما يحتاجونه من مأكل ومشرب وملبس ونسي انهم يحتاجونه هو كأب وليس كحصالة نقود! الابن بالذات يحتاج الى ابيه فاذا تخلى عنه الاب فلماذا نلوم الابن عندما يتخلى عن ابيه فيما بعد؟
ومن الامثلة كذلك الايذاء البدني والنفسي الذي يمارسه الاباء بحق ابنائهم الذين لا حول لهم ولا قوة. فعندما يخطئ احد ابنائهم تجد سيلا من الشتائم ينهال على رأس هذا الابن مع جمل الاهانة والتنقيص منهم كجملة انت غبي او طول عمرك جاهل منذ متى انت تعرف شيئا؟ ولكن الوالدين لا يوجهانه الى التصرف الصحيح او ردة الفعل اللازمة لكل موقف. بمعنى اخر يعاقبونهم ولا يوجهونهم بل ويطلبون من الابن ان يعرف كيف يتصرف وكيف يرد! كيف يعرف هذا الابن ما عليه ان لم يعلمه احد؟
ومن الامثلة التي نراها كثيرا في مجتمعاتنا المعاصرة هي رغبة الاباء ان يكون الابناء نسخة عنهم وهذا محال. فللأبناء شخصية مستقلة يقوم الاباء بتسلطهم ورغبتهم في السيطرة واعتقادا منهم ان ابناءهم ملك لهم يحق لهم ان يفعلوا بهم ما يريدون يقوم الاباء بسبب ذلك بسحق شخصية ابنائهم ومحوها من الوجود. فالآباء يعتقدون ان ما تربوا عليه يجب ان يطبق على ابنائهم ونسي الاباء ان الزمان غير الزمان وان المكان غير المكان. فلقد تغيرت القيم والمفاهيم وفقدت معانيها القديمة واكتسبت معاني جديدة لم تكن في زمان الاباء. وهنا ينشأ الابناء في صراع مستمر بين بناء شخصيتهم المستقلة وبين رغبة الاباء المتسلطة. وبسبب هذا تهتز شخصية الابن وينمو وقد صار عاملا مفسدا في المجتمع لا عامل بناء. بل قد يتدخل الوالدان في حياة ابنائهم حتى في القرارات المصيرية ويفرضون عليهم ما يريدون لا ما يريده الابناء.
ومن الامثلة كذلك هي ما يمارسه الكثير من حرمان بناتهم مما يبيحونه لأبنائهم بل وصل الامر في بعض الدول الى قتل البنت كي تحرم من الميراث ويتم اتهام البنت بشرفها للتغطية على هذه الجريمة. وقد يتآمر الوالدين مع ابنائهم الذكور بمنحهم ما لديهم من متاع الدنيا وحرمان البنات منها وحجتم في ذلك ان مال البنت سيذهب الى غريب اي زوجها! اي انهم يحرمون ان يذهب نصيب ابنتهم الى رجل غريب ويبيحون ان تأخذ امرأة غريبة انصبة ابنائهم! اليس هذا منطق اعوج؟
بعد كل ذلك ألا يوجد عقوق الآباء؟ ألا يجدر بالآباء الاعتراف بحقوق أبنائهم واحترامها وتحمل مسئولية واجباتهم؟
ومنها التفرقة في المعاملة بين الأبناء فتورث الضغينة:- فبعض الآباء والأمهات يجد بعض الأبناء أقرب إلى قلوبهم، فيظهرون هذا في معاملتهم؛ وهو ما يولد حقدا وكرها من الولد للأم والأب والإخوة أيضا.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(سورة التحريم:6)..
فكم من أب ظلم أبناءه أو قصر باحتياجاتهم أو مارس عليهم أسلوب القمع والديكتاتورية في التربية دون أن يحاسب نفسه بما فعل أو يتقي الله بهم؟ وكم من أم أضاعت مستقبل أبنائها بتهورها واستهتارها؟
ما أكثر ما يشكو الآباء من عقوق الأبناء... ولكن من يرفع شكوى الأبناء من عقوق الآباء؟!
أبناء يشكون العقوق
لو فتحنا المجال لسماع قصص وحكايات عن عقوق بعض الآباء لأبنائهم لاحتجنا إلى صفحات تفوق الحصر ولسمعنا العجب العجاب... لكننا سنعرض في هذه المساحة البسيطة لبعض النماذج على سبيل المثال فقط.
تحكى احدى الفتيات وتقول :»ولدت في أسرة لا تحب إنجاب البنات؛ قاموا معي بأشد أنواع القسوة من الضرب والإهانة، كان لي أخ يصغرني بثماني سنوات، فكان يتحكم في، كان يضربني ويحاسبني ولا أحد يكلمه. وعندما أتكلم وأحتج على ما يحدث معي يتم ضربي وإهانتي؛ مما يجعلني أتكلم معه بقسوة محاولة مقاومة هذا الظلم.
وتقول فتاة اخرى، وكان من المفروض أن تكون في الفرقة الرابعة، غير أن معاملة البيت لها كانت السبب في تأخرها في الدراسة حسبما ترى هي.
وتعبر فتاة عن عقوق أمها لها فتقول: ما شعرت يوما بحنان الأب والأم؛ فالأم لاهية في شؤون البيت والعمل، وكذلك الأب لا يسأل عني، كنت أتمنى أن يكون لي أب وأم، فهما موجودان معي، لكنهما غائبان دائما».
وتقول فتاة اخرى، وتتعجب من رفض والدها من تدينها، وتحكي عن نفسها قائلة: «الحمد لله... أنا ملتزمة، ولدت في أسرة لا تعرف أي نوع من أنواع الالتزام. كان أحب إلي والدي أن أقول له: أنا سأذهب إلى النادي ولا أقول له: إني ذاهبة إلى مسجد.
وعندما أحتج على هذا يتم ضربي وسبي، فكنت أكذب لكي أنزل إلى المسجد أو أحضر درس علم، وأقول أنا ذاهبة إلى النادي، أو إني سأذهب إلى إحدى صديقاتي نتنزه وسأرجع متأخرة. ليس هذا فقط، بل عندما يتقدم لي شاب ملتزم يتم رفضه وطرده، لأنه ملتزم».
وهذه فتاة تقول أنها كانت تجد الحنان لدى أمها دون والدها، لكنها فقدت أمها بعدما ماتت، ولم يبق إلا الوالد الذي لم ينجح أن ينشئ حوارا بينه وبينها، فهو دائم الصراخ فيها، شديد العصبية معها، بل تكاد الفتاة تبكي حين تذكر لشبكة «إسلام أون لاين.نت» أن أباها لم يقبلها مرة في العمر.
والأمر ليس حصرا على البنات، فهذا شاب طالب بكلية الطب يبث همومه فيقول:
«أنا شاب نشأت في أسرة لا أرى فيها أبي كثيرا، فهو كثير السفر، كل همه أن يأتي بالمال، اشترى لنا شقة في مكان مميز، واشترى لي سيارة. كل شيء أريده معي، غير أبي، تعرفت على أصحابي، ألهو وأعبث معهم، أسهر الليالي، أنجح في دراستي «بالعافية»، غير أني سئمت الحياة، كرهت الغنى، ليتني كنت فقيرا ومعي أبي».
هذه نماذج نعتبر أنها غيض من فيض، وقليل من كثير، ولو كشف الغطاء عن عقوق الآباء لأبنائهم لرأينا عجبا.
لقد جعل الاباء اية (ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما) سيفا مصلتاً على الابناء يرهبونهم به ويؤذونهم بحجة انهما والدان.
عجبا هل تحول الدين الى سلاح يمارس القوي فيه سلطاته على الضعيف؟ صحيح نحن لا نملك الحق في محاسبة أهلنا مهما فعلوا وليس ذلك هو ما نهدف إليه بل نرجو لو يضع الأهل سلوكهم ومعاملتهم لأبنائهم تحت المجهر ويراقبون مدى التزامهم بأداء الدور المرجو منهم ويحاسبون هم أنفسهم.
ترى هل يعي جميع الآباء أن لأبنائهم حقا عليهم؟!
الوالدان هما من يعهد إليهما بتربية أبنائهما وبالتالي يعتبران مسؤولين بنسبة كبيرة عن تصرفات أبنائهما ولكن الأبناء لا يختارون آباءهم ولا أهلهم ولا يملكون تربيتهم أو تغييرهم أو تصحيح توجهاتهم الخاطئة وبالتالي فإن مشقة العيش مع والدين أو احدهما يسيء لأبنائه لهي أصعب بكثير من تحمل العيش مع ابن عاق...فكم من أب ظلم أبناءه أو قصر باحتياجاتهم أو مارس عليهم أسلوب القمع والدتكتاتورية في التربية دون أن يحاسب نفسه بما فعل أو يتقي الله بهم؟ وكم من أم أضاعت مستقبل أبنائها بتهورها واستهتارها؟ ما أكثر ما يشكو الآباء من عقوق الأبناء. ولكن من يرفع شكوى الأبناء من عقوق الآباء؟!
هل من معتبر قبل وقوع الجناية.. أو مستدرك قبل فوات الأوان..؟!
إنه لتناقض عجيب أن يتلقن الأبناءُ البرَّ كلمات وشعارات.. وهم يرون مشاهد الإهانة وسوء الخلق ليل نهار! فمن أين يأتي البر المنشود؟!
إنها سلسلة ذات حلقات.. بالسلب أو بالإيجاب.. تتوارثها أجيال عقب أجيال.. وفق سنة لا تتخلف (الجزاء من جنس العمل).. كما في الأثر: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم».
فمن ورث البر كابراً عن كابر.. ورّثه لمن بعده.. وورثه هو «قرة عين» تهنأ بها حياته وتسعد بها ايامه ويضمن النجاة في الاخرة.
لم ينتبه الكثير لظاهرة عقوق الآباء لأبنائهم، على الرغم من أنها ظاهرة قديمة، غير أنها تأخذ صوراً وأشكالاً شتى.. بينما يصرخ العديد من الأبناء شاكين منددين بعقوق آبائهم لهم.
فكما أن للوالد حقاً على ولده، فإن للولد حقاً على والده، ولو أن كليهما عرف حق صاحبه وأدّاه لازداد خيرهما وذهب عنهما ما يسوؤهما، وعمتهما رحمة الله في الدنيا والآخرة، وهذا ما حثنا عليه ديننا الحنيف.
وعقوق الآباء لأبنائهم ظاهرة يتجاهلها كثير من الآباء رغم أنها خطيرة جداً... فنجد أن بعض الآباء يكذب أمام ابنه الصغير وهو لا يبالي، والبعض الآخر لا يهتم بابنه إلا في المأكل والمشرب، ولا يسأل ابنه هل صلى في جماعة، أم كم حفظ من كتاب الله، ومن هم أصدقاؤه، والبعض الآخر يتشاجر مع زوجته أمام ابنهما. وهذا كله عقوق للأبناء.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو ولده فأرسل عمر رضي الله عنه إلى الولد وقال له: أما تتقي الله في والدك الشيخ الكبير فحقه على ولده كذا وكذا فقال الولد أليس لي حق عليه، قال: نعم وعليه أن يحسن اسمه ويختار أمه ويعلمه القرآن. فقال لم يفعل يا أمير المؤمنين فقد سماني جعلها أي جعراناً (حشرة) وأمي امرأة زنجية كانت أمة لرجل مجوسي ولم يعلمني من القرآن شيئاً. فنظر عمر إلى الوالد وقال له: أجئت تشكو عقوق ولدك وقد عققته قبل أن يعقك؟ إليك عني.
حقوق الأبناء
إن حقوق الأبناء على الآباء كثيرة والقرآن الكريم والسنة المطهرة مليئان بالحث عليها ومنها:
* تربيتهم، تربية صالحة ينجو بها من النار ويسعد في الدنيا والآخرة، قال تعالى لرسوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [ طه : 132 ]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ}الآية [ التحريم : 6 ] أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة. وتبدأ العناية بالطفل قبل أن يدخل إلى رحم أمه؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره»
* ومنها: تسميتهم بالأسماء الحسنة، والإحسان إليهم في المعاملة، وتعليمهم، والعدل بينهم في العطية، والإحسان والحنان والعطف والعطية، لحديث النعمان بن بشير المتفق عليه: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم».
* ومنها: وجوب النفقة عليهم إن كانوا فقراء، قال الله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم :» كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول»؛ رواه احمد وابو داود وصححه الإمام النووي.
* ومنها: تربيته على الفضائل وإبعاده عن الرذائل، ويعلم علوم الدين، ويدرب على الصلاة وعلى العبادات الأخرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :»مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع»..رواه أبو داود
ومع التوجيه والإصلاح؛ قال صلى الله عليه وسلم الله : «كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته، فالأب راع في بيته ومسئول عن رعيته»؛ متفق عليه.
* ومنها: اختيار الأم الصالحة الطيبة ذات الأصل الطيب والخلق القويم، ففي الصحيحين وغيرهما قال صلى الله عليه وسلم:» تنكح المرأة لأربع وذكر منها: ذات الدين فقال: فاظفر بذات الدين تربت يداك»
إن الله تعالى من عدله بين عباده أوجب على الأبناء حقوقاً تجاه آبائهم وأوجب كذلك في المقابل للأبناء حقوقاً على الآباء فكما أن على الأبناء الإحسان إلى الآباء، وطاعتهما وبرهما، والإنفاق عليهما عند القدرة إذا كانوا فقراء، فكذلك للأبناء على الآباء حقوق.
وليعلم أن تقصير الآباء في حقوق الأبناء لا يبرر عقوق وتقصير الأبناء، فإذا كان كفر الوالدين بالله العظيم لا يُسقط حقهم في البر والإحسان فبالأحرى ألا يسقطه تضييعهما لحق الولد وإنما على الأبناء الاجتهاد في طاعتهما وكسب رضاهما.
يرى بعض العلماء أن هذه الظاهرة انتكاسة للفطرة، فعندما يجد الأبناء الآباء لا وظيفة لهم في الحياة، فقد يصل هذا إلى حد الكره والرفض لهم. وإن كان الله تعالى قد طالب الأبناء بالدعاء لآبائهم كما قال تعالى:{وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} (الإسراء:24).
فأين هذه التربية لكي يرحمهما الله؟ هؤلاء آباء عقوا أبناءهم، والعقوق هنا مختلف، فالمعروف عقوق الأبناء للآباء، ولكن ما يحدث العكس. لذلك يصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليعن ولده على بره». فالمطلوب من الأب إعانة ولده على بره؛ وإلا فإنه سيحاسب على عقوقه لولده، كما يحاسب ولده على عقوقه.
سوء المعاملة
إلا أن فريق من علماء علم الاجتماع لا يرون أن ما يحدث من الآباء للأبناء عقوق، بل هو نوع من سوء المعاملة. و من أهم أسباب سوء المعاملة أن كثيرا من الناس غير راغبين في الإنجاب مما يؤثر على سلوكهم مع أبنائهم، وأن بعضهم يرى أن الأبناء يتربون بدون أحد، فالدنيا تربيهم، ولا حاجة لهم في أن يتعبوا أنفسهم، وأن بعضهم مشغولون بمشاغل الحياة من الطعام والشراب، ولا وقت عنده للاهتمام بعملية التربية، وأسباب اجتماعية أخرى.
ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أن التربية الآن كثيرا ما يغلب عليها انعدام لغة الحوار بين الآباء والأبناء، وسادت لغة الأمر الواجب تنفيذه بدون مراجعة، وصار الوالد في البيت هو «سي السيد» كما صوره نجيب محفوظ في بعض رواياته. ولكن من المهم أن يسمع كل منهما للآخر، فالزمن غير الزمن، والجيل غير الجيل، واللغة غير اللغة، وعند هذا الاختلاف يكون الحوار والتفاهم والسماع والإقناع من أهم وسائل التربية الحديثة.
اما الداعية الاسلامية الدكتورة عبلة الكحلاوى فقد قالت ان ظلم الأم والأب للأبناء في هذا الزمن شلالات نار وآلام لها صدى تؤثر على نمو أولادهم وتفكيرهم وتعد تقصيرا في إعدادهم، وهذا ما يعرف بعقوق الآباء، إلا أن هذه الظاهرة لا يلتفت إليها أحدا.
دوافع العقوق
وحتى يمكن الوصول إلى حلول مناسبة لهذه القضية، فسنحاول خلال هذه السطور رصد دوافع سوء معاملة الآباء للأبناء والتي جاءت على النحو التالي:
الصراع بين الأجيال : الانفتاح على العالم في كافة الجوانب الثقافية والاقتصادية والقيمية: وهذا له أثر على ظهور أنماط وأساليب لا تتفق مع قيم آبائنا الأخلاقية. ومن هنا يأتي ما يسمى بالصراع بين الأجيال، كما تشير الدكتورة سهير العطار في كتابها «علم اجتماع عائلي».
الخوف الشعوري واللاشعوري: أما الدكتور وائل أبو هندي- أستاذ للطب النفسي بجامعة الزقازيق، فيرى أن هذه الظاهرة تعود غالبا إلى نوعين من الدوافع، دوافع شعورية، ودوافع لا شعورية. ففي النوع الأول: يسيطر خوف الآباء من التغيرات الحاصلة في المجتمع علي طريقة التعامل مع الأبناء. أما في النوع الثاني فيظهر خوف فقدان السيطرة؛ فالشاب الذي يكبر يمكن أن يكشف عن بعض نقاط الضعف في والده الذي لم يحب أن يعرفها ابنه عنه.
التغيرات المتلاحقة في كافة أوجه النشاط الإنساني في المجتمع وما يصاحبه من تغيرات في القيم والاتجاهات والعادات: فلا شك أن لهذا أثره على أداء الأسرة لدورها التربوي والأخلاقي؛ إذ إنها تواجه العديد من التيارات الفكرية التي تتناقض مع القيم التي يعمل الآباء على دمجها في شخصية أبنائهم. وهذا ما حدث في حالة الفتاة الملتزمة خوف أبيها من الاندماج في أي تيار إسلامي ولهذا نجد التشدد في المعاملة عليها.
زيادة المتطلبات الأسرية نتيجة الانفتاح علي العالم: وتدني المستوى الاقتصادي للأسرة يلجأ الآباء إلى السفر لتوفير متطلبات أبنائهم المادية؛ وينسون أهم متطلب وهو الحاجة المعنوية للأبناء كما يرى. عبد الباسط عبد المعطي في كتابه «نظرية في علم الاجتماع». وهذا ما حدث مع الشاب الذي فقد أباه نتيجة لسفره بالخارج.
خروج المرأة لمجال العمل أدى إلى تغير في توزيع الدوار بين أفراد الأسرة: فبعد أن كان الأب مسؤولا على الإنفاق في الدور الأول والأم مسؤولة عن التربية، أصبح دور التربية يقوم به مؤسسات وحضانات؛ فبالتالي فقد الابن لغة الحوار مع أهله، حسب رؤية الدكتور حسن الخولي في كتابه «علم اجتماع المرأة».
ورغم تلك الدوافع التي جعلت الأسرة تفقد جزءا كبيرا من وظيفتها، وهي التربية، مما نتج عنه عقوق الآباء للأبناء، فتبقى المشكلة كما هي، فهل يعي الآباء الخطر الذي يحيط بهم، أم يستسلموا لدوامة الحياة، وعواصف العولمة التي تجتاح مجتمعاتنا؟! عليهم أن يختاروا.. إما المقاومة وإما الاستسلام.
صور العقوق
وتعالوا بنا في جولة سريعة نرى بها مجموعة من عقوق الاباء لأبنائهم:
سوء اختيار الام هو اهم دليل على عقوق الابناء لوالديهم. عندما يختار الاب اما لاهية لا هم لها سوى تمضية الوقت في النوادي او التجول في الاسواق مع صديقاتها او الاهتمام بالزينة والموضة مهملة ابناءها تاركة الاهتمام بهم للخادمة. عندما تكبر هذه الام فلن تجد ابناءها الى جانبها كي يساعدوها بل قد يضعونها هي او والدهم في دار المسنين. الابناء محتاجون الى عطف الام واهتمامها. وكم من كوارث حصلت بسبب عدم حصول الابن على الرعاية اللازمة من امه. الابن عندما يرى امه لاهية فإنه يبحث عمن يعوضه عن الفراغ العاطفي الذي خلفه غياب الام فنجد هذا الابن قد انضم الى رفقة السوء ويقضي جل وقته في الخارج ولا يعود الا ليلا. اذا كانت الام قد تخلت عن امومتها عندما كان الابناء بحاجة لها فكيف تطلب منهم الاهتمام بها؟ لن يقبل الابناء بذلك ابدا. ومن يذهب الى المحاكم النظامية والشرعية فسيرى من القضايا ما يشيب له الولدان وكلها دعوى من الام او الاب على ابنائهما متهميهم بالتقصير في حقهما. ولو تأملنا تفاصيل تلك القضايا لعرفنا ان الوالدين قد اهملا حقوق ابنائهما فكيف يطلبان حقهما ممن اهملوهما؟
وكذلك الاب اذا كان مستهترا يقضي اغلب وقته مع اصدقائه ويهمل ابناءه بحجة انه وفر لهم ما يحتاجونه من مأكل ومشرب وملبس ونسي انهم يحتاجونه هو كأب وليس كحصالة نقود! الابن بالذات يحتاج الى ابيه فاذا تخلى عنه الاب فلماذا نلوم الابن عندما يتخلى عن ابيه فيما بعد؟
ومن الامثلة كذلك الايذاء البدني والنفسي الذي يمارسه الاباء بحق ابنائهم الذين لا حول لهم ولا قوة. فعندما يخطئ احد ابنائهم تجد سيلا من الشتائم ينهال على رأس هذا الابن مع جمل الاهانة والتنقيص منهم كجملة انت غبي او طول عمرك جاهل منذ متى انت تعرف شيئا؟ ولكن الوالدين لا يوجهانه الى التصرف الصحيح او ردة الفعل اللازمة لكل موقف. بمعنى اخر يعاقبونهم ولا يوجهونهم بل ويطلبون من الابن ان يعرف كيف يتصرف وكيف يرد! كيف يعرف هذا الابن ما عليه ان لم يعلمه احد؟
ومن الامثلة التي نراها كثيرا في مجتمعاتنا المعاصرة هي رغبة الاباء ان يكون الابناء نسخة عنهم وهذا محال. فللأبناء شخصية مستقلة يقوم الاباء بتسلطهم ورغبتهم في السيطرة واعتقادا منهم ان ابناءهم ملك لهم يحق لهم ان يفعلوا بهم ما يريدون يقوم الاباء بسبب ذلك بسحق شخصية ابنائهم ومحوها من الوجود. فالآباء يعتقدون ان ما تربوا عليه يجب ان يطبق على ابنائهم ونسي الاباء ان الزمان غير الزمان وان المكان غير المكان. فلقد تغيرت القيم والمفاهيم وفقدت معانيها القديمة واكتسبت معاني جديدة لم تكن في زمان الاباء. وهنا ينشأ الابناء في صراع مستمر بين بناء شخصيتهم المستقلة وبين رغبة الاباء المتسلطة. وبسبب هذا تهتز شخصية الابن وينمو وقد صار عاملا مفسدا في المجتمع لا عامل بناء. بل قد يتدخل الوالدان في حياة ابنائهم حتى في القرارات المصيرية ويفرضون عليهم ما يريدون لا ما يريده الابناء.
ومن الامثلة كذلك هي ما يمارسه الكثير من حرمان بناتهم مما يبيحونه لأبنائهم بل وصل الامر في بعض الدول الى قتل البنت كي تحرم من الميراث ويتم اتهام البنت بشرفها للتغطية على هذه الجريمة. وقد يتآمر الوالدين مع ابنائهم الذكور بمنحهم ما لديهم من متاع الدنيا وحرمان البنات منها وحجتم في ذلك ان مال البنت سيذهب الى غريب اي زوجها! اي انهم يحرمون ان يذهب نصيب ابنتهم الى رجل غريب ويبيحون ان تأخذ امرأة غريبة انصبة ابنائهم! اليس هذا منطق اعوج؟
بعد كل ذلك ألا يوجد عقوق الآباء؟ ألا يجدر بالآباء الاعتراف بحقوق أبنائهم واحترامها وتحمل مسئولية واجباتهم؟
ومنها التفرقة في المعاملة بين الأبناء فتورث الضغينة:- فبعض الآباء والأمهات يجد بعض الأبناء أقرب إلى قلوبهم، فيظهرون هذا في معاملتهم؛ وهو ما يولد حقدا وكرها من الولد للأم والأب والإخوة أيضا.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(سورة التحريم:6)..
فكم من أب ظلم أبناءه أو قصر باحتياجاتهم أو مارس عليهم أسلوب القمع والديكتاتورية في التربية دون أن يحاسب نفسه بما فعل أو يتقي الله بهم؟ وكم من أم أضاعت مستقبل أبنائها بتهورها واستهتارها؟
ما أكثر ما يشكو الآباء من عقوق الأبناء... ولكن من يرفع شكوى الأبناء من عقوق الآباء؟!
أبناء يشكون العقوق
لو فتحنا المجال لسماع قصص وحكايات عن عقوق بعض الآباء لأبنائهم لاحتجنا إلى صفحات تفوق الحصر ولسمعنا العجب العجاب... لكننا سنعرض في هذه المساحة البسيطة لبعض النماذج على سبيل المثال فقط.
تحكى احدى الفتيات وتقول :»ولدت في أسرة لا تحب إنجاب البنات؛ قاموا معي بأشد أنواع القسوة من الضرب والإهانة، كان لي أخ يصغرني بثماني سنوات، فكان يتحكم في، كان يضربني ويحاسبني ولا أحد يكلمه. وعندما أتكلم وأحتج على ما يحدث معي يتم ضربي وإهانتي؛ مما يجعلني أتكلم معه بقسوة محاولة مقاومة هذا الظلم.
وتقول فتاة اخرى، وكان من المفروض أن تكون في الفرقة الرابعة، غير أن معاملة البيت لها كانت السبب في تأخرها في الدراسة حسبما ترى هي.
وتعبر فتاة عن عقوق أمها لها فتقول: ما شعرت يوما بحنان الأب والأم؛ فالأم لاهية في شؤون البيت والعمل، وكذلك الأب لا يسأل عني، كنت أتمنى أن يكون لي أب وأم، فهما موجودان معي، لكنهما غائبان دائما».
وتقول فتاة اخرى، وتتعجب من رفض والدها من تدينها، وتحكي عن نفسها قائلة: «الحمد لله... أنا ملتزمة، ولدت في أسرة لا تعرف أي نوع من أنواع الالتزام. كان أحب إلي والدي أن أقول له: أنا سأذهب إلى النادي ولا أقول له: إني ذاهبة إلى مسجد.
وعندما أحتج على هذا يتم ضربي وسبي، فكنت أكذب لكي أنزل إلى المسجد أو أحضر درس علم، وأقول أنا ذاهبة إلى النادي، أو إني سأذهب إلى إحدى صديقاتي نتنزه وسأرجع متأخرة. ليس هذا فقط، بل عندما يتقدم لي شاب ملتزم يتم رفضه وطرده، لأنه ملتزم».
وهذه فتاة تقول أنها كانت تجد الحنان لدى أمها دون والدها، لكنها فقدت أمها بعدما ماتت، ولم يبق إلا الوالد الذي لم ينجح أن ينشئ حوارا بينه وبينها، فهو دائم الصراخ فيها، شديد العصبية معها، بل تكاد الفتاة تبكي حين تذكر لشبكة «إسلام أون لاين.نت» أن أباها لم يقبلها مرة في العمر.
والأمر ليس حصرا على البنات، فهذا شاب طالب بكلية الطب يبث همومه فيقول:
«أنا شاب نشأت في أسرة لا أرى فيها أبي كثيرا، فهو كثير السفر، كل همه أن يأتي بالمال، اشترى لنا شقة في مكان مميز، واشترى لي سيارة. كل شيء أريده معي، غير أبي، تعرفت على أصحابي، ألهو وأعبث معهم، أسهر الليالي، أنجح في دراستي «بالعافية»، غير أني سئمت الحياة، كرهت الغنى، ليتني كنت فقيرا ومعي أبي».
هذه نماذج نعتبر أنها غيض من فيض، وقليل من كثير، ولو كشف الغطاء عن عقوق الآباء لأبنائهم لرأينا عجبا.