البلدة اللبنانية تحولت حدثاً يومياً مع بدء معركة القلمون السورية وقفزت إلى الصدارة عشية المعركة المرتقبة
«الراي» في عرسال... رائحة البارود تهب من يبرود
جرود مفتوحة على المجهول
نائب رئيس البلدية في جلسة حوار
عرسال... مستودع خوف
• أهالي عرسال يتحدثون عن «مايسترو» يدير لعبة التحريض عليها للاقتصاص من مناصرتها للثورة السورية
• «العراسلة» يتبرأون من أي متورط في أعمال إرهابية لكنهم يحذرون: لن نكون «عبرا» جديدة
• «حزب الله» يحاصر عرسال بعد اتهامها بالتورط في «تصنيع» الانتحاريين والسيارات المفخخة
• «جمهورية الحرمان» تفاخر بماضيها المقاوم وتأييدها الثورة السورية كخيار
• عرسال تحولت مخيماً سورياً يقطنه 60 ألف نازح و40 ألف لبناني من سكانها «الأصليين»
• صورتان تختزلان التحول... عبد الناصر ورفيق الحريري وبعدهما «تمارين تجريبية» لصور أخرى تشبه «الموضة»
• «العراسلة» يتبرأون من أي متورط في أعمال إرهابية لكنهم يحذرون: لن نكون «عبرا» جديدة
• «حزب الله» يحاصر عرسال بعد اتهامها بالتورط في «تصنيع» الانتحاريين والسيارات المفخخة
• «جمهورية الحرمان» تفاخر بماضيها المقاوم وتأييدها الثورة السورية كخيار
• عرسال تحولت مخيماً سورياً يقطنه 60 ألف نازح و40 ألف لبناني من سكانها «الأصليين»
• صورتان تختزلان التحول... عبد الناصر ورفيق الحريري وبعدهما «تمارين تجريبية» لصور أخرى تشبه «الموضة»
هنا عرسال... أرض المعركة «المكتومة» او المعركة «المؤجَّلة» او المعركة «المستحيلة» او معركة «غلطة الشاطر بألف».
هنا عرسال... شبه الجزيرة السنية في بحرٍ شيعي، و«العاصمة» اللبنانية للثورة السورية، والبلدة النائية التي لم تنأ بنفسها.
هنا عرسال... البلدة التي ظلمتها الجغرافيا، ويشاع انها صارت ظالمة في لعبةٍ غامضة لا يُعرف معها مَن الظالم ومَن المظلوم.
إنها عرسال التي كانت حتى الأمس القريب «مرميّة» في اقاصي «الجمهورية» على أعالي البقاع الشمالي، والمترامية على نحو 55 كيلومتراً على الحدود مع سورية.
هذه الـ «عرسال» تستوطن الآن الشاشات ونشرات الاخبار والتقارير الامنية والبيانات الحزبية، كأنها في عين الحدَث او انها الحدَث بعيْنه.
لم تسترِح عرسال يوماً منذ بدء الصراع في سورية قبل ثلاثة اعوام، لكنها تحوّلت حدَثاً يومياً مع بدء معركة القلمون، وها هي في الصدارة عشية معركة يبرود.
«حزب الله» اعلن وبـ «الفم الملآن» انه بدأ حصاراً عسكرياً لعرسال، التي يتّهم جماعات منها بالتورط في إرسال الانتحاريين الى معاقله في غير مكان.
أهالي عرسال يتهمون «حزب الله» بإطلاق حملة دعائية - تحريضية ضدّ بلدتهم انتقاماً من دورها في دعم الثورة السورية وتحضيراً لـ «مكيدة» ضدّها.
الدولة اللبنانية، كعادتها، تدير ظهرها، فالحكومة لا حكومة... وحده الجيش اللبناني يلعب دوراً ما، لا يرضي «حزب الله» تماماً ويغضب عرسال بالتأكيد.
«تيار المستقبل»، المرجعية السنية الأبرز التي تدين له عرسال بالولاء، يبدو كمَن «يقبض على الجمر»... يواظب على إصدار بيانات من دون التأثير على مجريات المواجهة.
هكذا كان الحال عندما قصدتْ «الراي» عرسال على وقع تقارير بأن المنطقة مقبلة على ما هو أسوأ على المقلبيْن السوري واللبناني، تزامُناً مع استعدادات «حزب الله» لمعركة يبرود التي قد تجعل من الحدود مع لبنان اشبه بـ «برميل بارود».
ثلاث ساعات لعبور 130 كيلومتراً، مسافة الطريق من بيروت المسكونة بـ «قلقيْن»:
* قلقٌ من عرسال دأب «حزب الله» على رفع الصوت حياله بعدما وجّه اصابع الاتهام الى هذه البلدة بانها تحوّلت «مستودع» سيارات مفخخة وانتحاريين يعبرون اليها من يبرود السورية و«أخواتها» قبل ان تدوّي انفجاراتهم في الهرمل المجاورة او في الضاحية الجنوبية لبيروت.
* قلقٌ على عرسال التي تتعرض لاعتداءات من النظام في سورية وجيشه، تارةً بالطائرات الحربية وتارةً بالقصف المدفعي، والتي يخاصمها الجوار الشيعي في اللبوة، ويحاصرها «حزب الله» بإجراءات عسكرية وأمنية علنية او غير مرئية، وسط خشية من تدفيعها ثمن مساندتها للمعارضة السورية بالمساعدات الانسانية وبالرجال والسلاح، وبكل ما اوتي لأهلها من امكانات.
فـ «حزب الله»، الذي دهمت بيئته الحاضنة في الضاحية الجنوبية لبيروت سبع عمليات تفجير بالانتحاريين والسيارات المفخخة «انتقاماً» لمشاركته بالقتال في سورية الى جانب جيش النظام، ما برح يردد في الليل والنهار ان عرسال تشكل دفرسواراً تتسلل منه «لعبة الموت» التي صارت تقضّ مضاجع جمهور الحزب الذي وجد نفسه «وجهاً لوجه» امام خطرٍ يصعب مقاومته والتحوّط منه.
اما عرسال، التي كان لسان حالها على الدوام قرْع الناقوس من خطر يُعدّ لها، فغالباً ما تنفض يدها لأنها أعجز من ان تضبط الحدود. فهذه البلدة التي تحتل 5 في المئة من مساحة لبنان (نحو 400 كيلومتراً مربعاً) وتشكل اكبر البلدات اللبنانية في الجغرافيا، ترتبط بشريط حدودي طويل مع سورية، من محافظة ريف دمشق الى محافظة حمص.
في المسافة الطويلة بين بيروت وعرسال لم تعد الأمكنة كما كانت ولا الناس... سهل البقاع صار صعب المزاج... بين بلداته وقراه خطوط تماس سياسية ومذهبية تراها في الوجوه العابسة وفي الوجوم. لم يعد الفقر يوحّد، ولا البساطة رديفة للمحبة، وحدها الغرائز اضحت زراعة رائجة تنافس القمح وحشيشة الكيف في موسم بائس يضع المنطقة بـ «شعوبها» السنية والشيعية على كفّ المجهول.
وكلما اقتربتَ من عرسال، المحاصَرة من جوارها اللبناني والمفتوحة على يبرود، تشتمّ رائحةً كأنها «البارود»... فالتقارير توحي بان معركة «حزب الله» للاستيلاء على هذه المنطقة السورية الاستراتيجية باتت وشيكة، وربما بدأت بـ «مقدّمات» كالحصار والقصف والإنهاك توطئةً لاقتحامها، وتالياً قفْل هذه الثغرة المترامية وعزْل عرسال وإحكام الخناق عليها وشلّ دورها.
ثمة نقاشات كانت تدور في بيروت، لحظة إقلاعنا صعوداً في اتجاه «برميل البارود»، حول جدوى استيلاء «حزب الله» على يبرود الحدودية مع لبنان بعد القصير التي دشّن باقتحامها تدخّله العلني والواسع في سورية. فـ «حزب الله» الذي أوحى ان ذهابه الى سورية هو لقتال التكفيريين قبل ان يأتوا اليه لم يحُلْ تدخله دون استهداف عقر داره في الضاحية الجنوبية بـ «وابل» من العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة رغم كل الهالة الأمنية التي تحوط بمعقله، وها هو يمضي تحت الشعار عيْنه للسيطرة على يبرود بعدما اتهم هذه المنطقة بـ «إنتاج» السيارات المفخخة وصناعة الانتحاريين بـ«التكامل والتضامن» في الأدوار مع عرسال اللبنانية.
لا يأبه «حزب الله» كثيراً لهذا المنطق الذي ينطوي على ما يعتبره «حقائق مقلوبة»، فصحيح انه يريد «قطع رأس الافعى» التكفيرية حيث هي، أي في سورية، لكن الأصحّ ان معركته هناك وجودية وايديولوجية وعقائدية، وتالياً فانها لا تحتاج الى تبريرات الا بالمقدار الذي تتطلبه مقتضيات المعركة، ولاسيما في اطار علاقة الحزب بجمهوره وبالرأي العام وبـ «تكتيكاتٍ» يفرضها الجانبان السياسي والديبلوماسي من المواجهة في المنطقة.
وسط هذا الغبار الكثيف من التناحر بـ «الأسباب والنتائج»، تدخل الى عرسال من «الممر الاجباري» في اللبوة... تشعر بوجود «حزب الله» لكنك لا تراه. و«عيونه» حاضرة على المفترقات وفي التضاريس المطلة بعد عمليتين انتحاريتين ضربتا في الهرمل القريبة، وقال الحزب انها جاءت عن طريق عرسال وبتواطؤ من جماعات فيها، كالشيخ عمر الاطرش الموقوف لدى القضاء العسكري بتهمة نقل سيارات مفخخة وانتحاريين من يبرود.
بعد اللبوة وقبل عرسال، حاجز للجيش اللبناني يقوم بما عليه، والبعض يقول انه يقوم بما هو مطلوب منه... عسكريّ في مقتبل العمر يومي بيده للسيارات بالمرور... عسكريو الحواجز ليسوا في أفضل حال على الأرجح لاعتقادٍ سائدٍ بان اي انتحاري يمكن ان يُكتشف لن يتورّع عن تفجير حزامه الناسف بنفسه وبمَن حوله، وربما هو الامر الذي يفسر الاجراءات العادية وتَمكُّن الانتحاريين من تنفيذ اكثر من عملية رغم التدابير العسكرية الرسمية والحزبية.
تطلّ على عرسال اللبنانية كأنك في أصقاع مخيم سوري كبير. اكثر من 60 الف نازح يقيمون في البلدة التي يبلغ عدد سكانها «الأصليين» من اللبنانيين نحو 40 الفاً... أمكنتها تكاد ان تفيض بالناس والأنفاس بعدما صارت بيوتها وزواياها ودساكرها «كومة بشر»... زحمة خيم وجمعيات اغاثة، شوارع تضج بالحركة وبالاطفال ومشاعر من خليط بين الكبرياء والمكابرة في مناخ صحراوي لا يعرف «تدوير الزوايا».
صورتان تختزلان التحولات العرسالية وتختزنان الكثير من الدلالات، واحدة «عتيقة» لجمال عبد الناصر، وواحدة لم يمض عليها اعوام لرفيق الحريري... وبينهما مشاريع لـ «صور» لا تشبههما وهي أقرب الى «الموضة» الرائجة مع صعود نجم التشدّد الديني. فعرسال التي تجرّعت على مضض سايكس - بيكو وكانت توالي المدّ الناصري ايام حلف بغداد لم تكتشف «سنّيتها السياسية» الا مع اتهام «حزب الله» باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في العام 2005، وها هي تضع ماضيها «اليساري والقومي» جانباً وكأنها في تمرين تجريبي لاكتشاف سنّيتها الدينية بعدما تحرّك «الفالق المذهبي» النائم بفعل ما يجري في سورية.
في البلدية التي تشكل مرجعية «سياسية» وخدماتية وإغاثية لـ «جمهورية» الـ 100 الف نسمة، جمْهرة من الرجال في جلسة يترأسها نائب الرئيس احمد الفليطي وكأنها «حلقة نقاش» لـ«الأحوال والأهوال»، وانضمت اليها «الراي» للوقوف على مقاربة العرساليين لما يجري على «حدودهم» الشرقية (يبرود) والغربية (المناطق المحسوبة على حزب الله)، وخصوصاً في ضوء المخاوف من تدحرج كرة النار من التخوم السورية، والاتهامات بإيوائهم سيارات مفخخة وانتحاريين.
لا يحتاج المرء لطرح الكثير من الأسئلة حتى تكرّ سبحة الكلام. يكفي ان يستفسر عن سر الهدوء الذي يبدو وكأنه يسبق العاصفة... يأخذ نائب الرئيس الكلام ويقول: «قبل مدة كان الوضع مريحاً نسبياً، وحركة النزوح خفيفة، فالمناطق السورية القريبة من عرسال لم تكن تشهد معارك فعلية. الضوضاء الاعلامية التي تحدثت سابقاً عن اتجاه لحسم معركة القلمون لم تكن في مكانها، لان النظام السوري لا يملك طاقات بشرية كبيرة للإمساك بمناطق شاسعة مساحتها نحو 700 كيلومتر مربع، فالاستيلاء عليها يحتاج جيشاً كبيراً لتغطيتها، وخصوصاً ان الكتائب المعارِضة تتحصن فيها وقد انضمت اليها جبهة النصرة».
ربما كان الأمر أشبه بـ «استراحة محارب» لإمرار مفاوضات «جنيف - 2»؟ سألنا، فكان الردّ «ان الاوضاع غير مرتبطة بجنيف بدليل سقوط الكمية الأكبر من البراميل المتفجرة على حلب وقتل نحو 2000 شخص خلال الجولة الاولى من مفاوضات جنيف». وتبعاً لذلك، بدا «نائب الرئيس» اكثر ميلاً للقول ان «الهدوء كان مرتبطاً بالأجواء التي رافقت المساعي لتشكيل الحكومة في لبنان، لان أي معركة بمحاذاة عرسال سيتأثر بها الداخل اللبناني ولا يمكن لأحد الاختباء وراء اصبعه في هذه المسألة».
والسؤال الذي كان من البدهي طرحه هو: هل ستسْلم عرسال بعدما صارت الاتهامات بتورّط جماعات فيها بالعمليات الارهابية مقرونة باعترافات بعضهم؟...
في الاول من فبراير الماضي، أي قبل نحو عام، حدث ما يمكن وصفه بالتحول في اتهام عرسال من داعِمة للثورة السورية وحاضِنة للاجئين، الى داعِمة للارهاب وحاضِنة للتكفيريين. ما حدث يومها كان قتل خالد حميد بحجة محاولة توقيفه لصدور مذكرة بحث وتحر بحقه للاشتباه بدوره في مسائل، قال المحامون يومها ان عقوبتها تراوح بين 3 اشهر و6 اشهر سجن، الامر الذي ترك علامات استفهام حول الطريقة التي تشبه الإعدام التي اعتمدت في قتْله، واشتُمّت منها محاولة للايقاع بين الجيش اللبناني وعرسال، ثم انطلقت حملة مبرمجة بدأت باتهام البلدة بانها تحولت بيئة تكفيرية ووصلت الى حد تحميلها مسؤولية إرسال السيارات المفخخة الى الضاحية الجنوبية والهرمل.
أحد الحاضرين، وهو رجل ستيني، دخل على الخط شارحاً: «نحن نقول انه حتى لو تبيّن ضلوع احد ابناء عرسال بهذه الجرائم، فهذا لا يبرر اتهام البلدة واهلها، فلا يمكن تحميل الناس وزر تصرفات شخص اذا كان مرتكباً»، في اشارة الى ما تم التداول به عن اعترافات للشيخ عمر الاطرش «العرسالي» بتورّطه، وهو الامر الذي لم يرُق لاحدهم، فبادر قائلاً: «نحن نعرف مسار التحقيقات في لبنان، وكيف يتمّ تركيب الملفات لأسباب سياسية، وجميعنا يذكر ان وزير الوصاية على وزارة الدفاع (فايز غصن من 8 آذار) كان اول مَن اتهم عرسال بأنها تأوي القاعدة (تنظيم القاعدة). ولذا لا نستبعد ان يذهب الضباط والعسكريون والقضاة في هذا المنحى، فاذا كان ربّ البيت بالدف مولع فشيمة اهل البيت كلّهم الرقص».
«لا دخان من دون نار» قلنا لهم، فجاء الجواب «نعم... ما من فبركة في المطلق، قد يكون لعمر الاطرش اصبع ما في مكان ما لكن من الصعب تصديق الاتهامات المسندة اليه». ثم تكرّ سبحة الحديث عن هذا الرجل «ابن العائلة المتوسطة الحال، التي حال وضعها المادي دون انتسابه الى الجامعة، فالتحق بالعلوم الدينية في دار الفتوى وصار شيخاً، وهو كأيّ شاب عرسالي ناصر الثورة السورية ويمكن ان يكون قاتَل في سورية».
المرافعات عن عمر الاطرش تنهال من غير شخص في «جلسة البلدية». احدهم يقول ان هذا الشيخ كان عمله يقتصر على نقل الجرحى من السوريين والاهتمام بالمساعدات الانسانية لهم، وآخر يضيف: «نحن نعرف انه خريج دار الفتوى وفي الفقه الذي تعلّمه انه لا يمكن ان تزر وازرة وزر اخرى، فلا يعقل ان يكون متورطاً بتفجيرات في شارع يعبره المدنيون الابرياء شيعة وسنّة ومسيحيين او اياً كان».
ثم يطلب آخر الكلام بـ «النظام» ليوضح «اذا كان عمر الاطرش ضالعاً في مثل هذه الاعمال المدانة، فمن المستبعد ان يكون دوره تجاوز بيع سيارة او شراء سيارة لا اكثر ولا اقل، ومن دون علمه بأن في الامر تفخيخاً او غير ذلك».
لكن لماذا كل هذا الضجيج؟ هل من شيء ما يُدبر لعرسال؟... يجيب نائب رئيس البلدية: «انا لست مع نظرية المؤامرة دائماً. وفي المجتمعات هناك مَن يخطئ ومَن يصيب، لكننا نلاحظ ان الاعلام وحتى القضاء يتعامل بمعايير مزدوجة، فعندما يتعلق الامر بمناطق اخرى يجري تجهيل الاسم، اما عندما ترتبط المسألة بعرسال فالتصويب يكون على انه تم توقيف فلان الفلاني من عرسال، فثمة حملة مدروسة علينا يديرها مايسترو واحد».
ويذكّر الفليطي بانه «قبل عام وعشية قتل حميد، فوجئنا بانسحاب الجيش السوري النظامي من نحو 40 نقطة حدودية كان يتمركز فيها على المقلب المقابل لعرسال من دون ان يكون تعرّض لأي هجمات، فأصبحت الحدود مشرعة لانه منذ انتهاء عهد الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون عقب اضطرابات الـ1958 لم يعد من جيش لبناني على الحدود، وأوكلت مهمة ضبط ايقاع الخروج والدخول غير الشرعي للسوريين»، موضحاً ان «لا معابر شرعية على طول هذه الحدود البالغة نحو 55 كيلومتراً».
والادهى من ذلك، بحسب نائب رئيس بلدية عرسال ان «الدولة اللبنانية تعتبرنا خارج حدودها بدليل التعاطي مع حاجز الجيش اللبناني بين اللبوة وعرسال على انه نقطة حدودية». وقال: «الجيش اللبناني يقيم تسع نقاط بين البيوت ويطوّق 3 كيلومترات مأهولة، تاركاً الحدود فلتانة، وتالياً هل ضبْط الحدود مسؤولية اهالي عرسال وبلدية عرسال ومخاتير عرسال حتى يتمّ تحميلنا مسؤولية ما يجري؟ واذا كانت الدولة عاجزة فلينشروا قوات اليونيفيل ويقفلوا منافذ البلاء».
ويروي الفليطي «ان عناصر من الجهاز الامني لحزب الله تقف ببذاتها واجهزتها وسياراتها عند حاجز الجيش اللبناني بين اللبوة وعرسال ومعها لوائح اسمية بمَن أغاث جريحاً او قدّم حصة غذائية او باع طلقة رصاص»، كاشفاً عن انه «عندما تنزل سيارة من عرسال تقلّ احداً من هؤلاء، سرعان ما «تُغير» عليها سيارتان من امن حزب الله وتعترض سبيلها وتقتادها الى طريق فرعية، فيأخذون اوراق السيارة والسائق ويصوّرون الركاب ويتم الدخول الى هواتفهم ونقل الداتا منها، وإذا تبين وجود شخص مدرج اسمه على لوائحهم يجري تحذيره او شتمه او ضربه... هذا ما يحدث منذ نحو ثلاثة اسابيع وقد اتصلنا بقائد الجيش، وتالياً على رئيس الجمهورية العمل على ضمان حرية انتقال اللبنانيين داخل وطنهم»، شاكياً من «استهداف العرساليين بلقمة عيشهم خلال نقلهم بضائعهم، فاحياناً يتم تسجيل اكثر من عشر عمليات سلب يومية يتعرض لها هؤلاء».
ولم يتردد الحاضرون في مقر البلدية من ابداء خشيتهم من «سيناريوات باتت معروفة»، مستذكرين «ما جرى في نهر البارد (قرب طرابلس) وفي عبرا (في صيدا)، وبالتأكيد «الطبّاخ» لديه فكرة جاهزة، لكنه ينتظر التنفيذ».
وكيف ستردّون؟... يردّون بـ «صوت واحد» وبلغة واحدة: «لا خيار لنا سوى الجيش اللبناني، وفي الضيعة هنا (البلدة) مثَل يقول: «يلي بيحب مرته (زوجته) ما بجبلها ضرّة»، هذا يعني ان الجيش اللبناني هو القوة العسكرية الشرعية الوحيدة، وتالياً فان ضرّته تتمثل في القوة العسكرية التي قامت في موازاته (حزب الله)».
ولعل الكلام الاكثر دلالة على حدة الاحتقان في عرسال، بحسب هؤلاء، ما قيل عن «ان 60 في المئة من الجيش اللبناني هم من السنّة. ومن عرسال وحدها يوجد 3000 عسكري في الجيش. واذا تم ضرب الجيش بالشعب لن يبقى من ثلاثية «حزب الله»: الجيش والشعب والمقاومة، الا المقاومة»، من دون ان ينسوا التذكير بـ «ان على الجميع الانتباه ففي عرسال مئة ألف سني، وتالياً لن تكون الامور كما يشتهونها».
لا يفكر اهالي عرسال بـ «الامن الذاتي» لمواجهة أي مفاجآت محتملة: «نحن لا نملك مقومات الامن الذاتي ولا نريده، فعرسال كسواها من المناطق (السنية) المناصرة لتيار المستقبل. والشيخ سعد الحريري (زعيم التيار رئيس الحكومة السابق) حامل قلم و«ماشي» و«قد ما بدهن عندو قلام». العراسلة لن يقبلوا بالامن الذاتي فنحن مواطنون لبنانيون ورهاننا على الدولة ومؤسساتها رغم اننا موجودين على خط زلازل يجعل من عرسال اكثر شهرة من شارع الحمراء (بيروت) وسوق الكسليك (جونية) لاننا محاطون من جهة بمحافظتين من سورية ومن جهة أخرى بخزان المقاومة في الهرمل وبعلبك. نحن مع الثورة السورية وهم يقاتلون دفاعاً عن نظام (الرئيس السوري بشار) الاسد، وتالياً فالانقسام يزداد حدة وعرسال تدفع الثمن».
ما يقال في البلدية يردده السواد الاعظم من ابناء هذه البلدة التي تفاخر بانها كانت السبّاقة في تقديم شهداء من ابنائها من اجل فلسطين وجنوب لبنان: «لم نكن نشعر يوماً باننا مختلفون عن جوارنا، السنّة تعلّموا في مدارس الشيعة والشيعة تعلّموا في مدارسنا، لم نكن نعرف مَن هو الشيعي ومَن هو السني، كان يجمعنا الفضاء العربي الفسيح وتجاربنا في اليسار وايام الحركة الوطنية اللبنانية».
اصل المشكلة، في رأي عرساليّ غادر اليسار في وقت مبكر من دون ان يغادر «جدلياتها»، ان «حزب الله» يغلّب الاقليمي على المحلي «وهو بغطرسته وسلوكه وتورُّطه في سورية بدا كمَن يزرع الريح ليحصد العاصفة»، مشيراً الى «اننا لم نختلف يوماً حول قضية المقاومة، فنحن قاومنا منذ أمد بعيد، وكل المشكلة ان خيارنا الدولة واننا نقف الى جانب الشعب السوري وثورته كخيار وليس كرهان، وتالياً لا مشكلة سنية - شيعية في العمق بقدر ما هناك مشكلة خيارات سياسية».
كلام كثير يقال في عرسال، وكلام أكثر قد يقال عنها ومن حولها... الأكيد ان مساراً مأسوياً شقّ طريقه الى تلك المناطق التي كانت يوماً مُطْمَئنة ومتضامنة رغم فقرها وحرمانها.
هنا عرسال... رائحة البارود تطلّ من يبرود، فأيّ ايام تنتظرها؟
هنا عرسال... شبه الجزيرة السنية في بحرٍ شيعي، و«العاصمة» اللبنانية للثورة السورية، والبلدة النائية التي لم تنأ بنفسها.
هنا عرسال... البلدة التي ظلمتها الجغرافيا، ويشاع انها صارت ظالمة في لعبةٍ غامضة لا يُعرف معها مَن الظالم ومَن المظلوم.
إنها عرسال التي كانت حتى الأمس القريب «مرميّة» في اقاصي «الجمهورية» على أعالي البقاع الشمالي، والمترامية على نحو 55 كيلومتراً على الحدود مع سورية.
هذه الـ «عرسال» تستوطن الآن الشاشات ونشرات الاخبار والتقارير الامنية والبيانات الحزبية، كأنها في عين الحدَث او انها الحدَث بعيْنه.
لم تسترِح عرسال يوماً منذ بدء الصراع في سورية قبل ثلاثة اعوام، لكنها تحوّلت حدَثاً يومياً مع بدء معركة القلمون، وها هي في الصدارة عشية معركة يبرود.
«حزب الله» اعلن وبـ «الفم الملآن» انه بدأ حصاراً عسكرياً لعرسال، التي يتّهم جماعات منها بالتورط في إرسال الانتحاريين الى معاقله في غير مكان.
أهالي عرسال يتهمون «حزب الله» بإطلاق حملة دعائية - تحريضية ضدّ بلدتهم انتقاماً من دورها في دعم الثورة السورية وتحضيراً لـ «مكيدة» ضدّها.
الدولة اللبنانية، كعادتها، تدير ظهرها، فالحكومة لا حكومة... وحده الجيش اللبناني يلعب دوراً ما، لا يرضي «حزب الله» تماماً ويغضب عرسال بالتأكيد.
«تيار المستقبل»، المرجعية السنية الأبرز التي تدين له عرسال بالولاء، يبدو كمَن «يقبض على الجمر»... يواظب على إصدار بيانات من دون التأثير على مجريات المواجهة.
هكذا كان الحال عندما قصدتْ «الراي» عرسال على وقع تقارير بأن المنطقة مقبلة على ما هو أسوأ على المقلبيْن السوري واللبناني، تزامُناً مع استعدادات «حزب الله» لمعركة يبرود التي قد تجعل من الحدود مع لبنان اشبه بـ «برميل بارود».
ثلاث ساعات لعبور 130 كيلومتراً، مسافة الطريق من بيروت المسكونة بـ «قلقيْن»:
* قلقٌ من عرسال دأب «حزب الله» على رفع الصوت حياله بعدما وجّه اصابع الاتهام الى هذه البلدة بانها تحوّلت «مستودع» سيارات مفخخة وانتحاريين يعبرون اليها من يبرود السورية و«أخواتها» قبل ان تدوّي انفجاراتهم في الهرمل المجاورة او في الضاحية الجنوبية لبيروت.
* قلقٌ على عرسال التي تتعرض لاعتداءات من النظام في سورية وجيشه، تارةً بالطائرات الحربية وتارةً بالقصف المدفعي، والتي يخاصمها الجوار الشيعي في اللبوة، ويحاصرها «حزب الله» بإجراءات عسكرية وأمنية علنية او غير مرئية، وسط خشية من تدفيعها ثمن مساندتها للمعارضة السورية بالمساعدات الانسانية وبالرجال والسلاح، وبكل ما اوتي لأهلها من امكانات.
فـ «حزب الله»، الذي دهمت بيئته الحاضنة في الضاحية الجنوبية لبيروت سبع عمليات تفجير بالانتحاريين والسيارات المفخخة «انتقاماً» لمشاركته بالقتال في سورية الى جانب جيش النظام، ما برح يردد في الليل والنهار ان عرسال تشكل دفرسواراً تتسلل منه «لعبة الموت» التي صارت تقضّ مضاجع جمهور الحزب الذي وجد نفسه «وجهاً لوجه» امام خطرٍ يصعب مقاومته والتحوّط منه.
اما عرسال، التي كان لسان حالها على الدوام قرْع الناقوس من خطر يُعدّ لها، فغالباً ما تنفض يدها لأنها أعجز من ان تضبط الحدود. فهذه البلدة التي تحتل 5 في المئة من مساحة لبنان (نحو 400 كيلومتراً مربعاً) وتشكل اكبر البلدات اللبنانية في الجغرافيا، ترتبط بشريط حدودي طويل مع سورية، من محافظة ريف دمشق الى محافظة حمص.
في المسافة الطويلة بين بيروت وعرسال لم تعد الأمكنة كما كانت ولا الناس... سهل البقاع صار صعب المزاج... بين بلداته وقراه خطوط تماس سياسية ومذهبية تراها في الوجوه العابسة وفي الوجوم. لم يعد الفقر يوحّد، ولا البساطة رديفة للمحبة، وحدها الغرائز اضحت زراعة رائجة تنافس القمح وحشيشة الكيف في موسم بائس يضع المنطقة بـ «شعوبها» السنية والشيعية على كفّ المجهول.
وكلما اقتربتَ من عرسال، المحاصَرة من جوارها اللبناني والمفتوحة على يبرود، تشتمّ رائحةً كأنها «البارود»... فالتقارير توحي بان معركة «حزب الله» للاستيلاء على هذه المنطقة السورية الاستراتيجية باتت وشيكة، وربما بدأت بـ «مقدّمات» كالحصار والقصف والإنهاك توطئةً لاقتحامها، وتالياً قفْل هذه الثغرة المترامية وعزْل عرسال وإحكام الخناق عليها وشلّ دورها.
ثمة نقاشات كانت تدور في بيروت، لحظة إقلاعنا صعوداً في اتجاه «برميل البارود»، حول جدوى استيلاء «حزب الله» على يبرود الحدودية مع لبنان بعد القصير التي دشّن باقتحامها تدخّله العلني والواسع في سورية. فـ «حزب الله» الذي أوحى ان ذهابه الى سورية هو لقتال التكفيريين قبل ان يأتوا اليه لم يحُلْ تدخله دون استهداف عقر داره في الضاحية الجنوبية بـ «وابل» من العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة رغم كل الهالة الأمنية التي تحوط بمعقله، وها هو يمضي تحت الشعار عيْنه للسيطرة على يبرود بعدما اتهم هذه المنطقة بـ «إنتاج» السيارات المفخخة وصناعة الانتحاريين بـ«التكامل والتضامن» في الأدوار مع عرسال اللبنانية.
لا يأبه «حزب الله» كثيراً لهذا المنطق الذي ينطوي على ما يعتبره «حقائق مقلوبة»، فصحيح انه يريد «قطع رأس الافعى» التكفيرية حيث هي، أي في سورية، لكن الأصحّ ان معركته هناك وجودية وايديولوجية وعقائدية، وتالياً فانها لا تحتاج الى تبريرات الا بالمقدار الذي تتطلبه مقتضيات المعركة، ولاسيما في اطار علاقة الحزب بجمهوره وبالرأي العام وبـ «تكتيكاتٍ» يفرضها الجانبان السياسي والديبلوماسي من المواجهة في المنطقة.
وسط هذا الغبار الكثيف من التناحر بـ «الأسباب والنتائج»، تدخل الى عرسال من «الممر الاجباري» في اللبوة... تشعر بوجود «حزب الله» لكنك لا تراه. و«عيونه» حاضرة على المفترقات وفي التضاريس المطلة بعد عمليتين انتحاريتين ضربتا في الهرمل القريبة، وقال الحزب انها جاءت عن طريق عرسال وبتواطؤ من جماعات فيها، كالشيخ عمر الاطرش الموقوف لدى القضاء العسكري بتهمة نقل سيارات مفخخة وانتحاريين من يبرود.
بعد اللبوة وقبل عرسال، حاجز للجيش اللبناني يقوم بما عليه، والبعض يقول انه يقوم بما هو مطلوب منه... عسكريّ في مقتبل العمر يومي بيده للسيارات بالمرور... عسكريو الحواجز ليسوا في أفضل حال على الأرجح لاعتقادٍ سائدٍ بان اي انتحاري يمكن ان يُكتشف لن يتورّع عن تفجير حزامه الناسف بنفسه وبمَن حوله، وربما هو الامر الذي يفسر الاجراءات العادية وتَمكُّن الانتحاريين من تنفيذ اكثر من عملية رغم التدابير العسكرية الرسمية والحزبية.
تطلّ على عرسال اللبنانية كأنك في أصقاع مخيم سوري كبير. اكثر من 60 الف نازح يقيمون في البلدة التي يبلغ عدد سكانها «الأصليين» من اللبنانيين نحو 40 الفاً... أمكنتها تكاد ان تفيض بالناس والأنفاس بعدما صارت بيوتها وزواياها ودساكرها «كومة بشر»... زحمة خيم وجمعيات اغاثة، شوارع تضج بالحركة وبالاطفال ومشاعر من خليط بين الكبرياء والمكابرة في مناخ صحراوي لا يعرف «تدوير الزوايا».
صورتان تختزلان التحولات العرسالية وتختزنان الكثير من الدلالات، واحدة «عتيقة» لجمال عبد الناصر، وواحدة لم يمض عليها اعوام لرفيق الحريري... وبينهما مشاريع لـ «صور» لا تشبههما وهي أقرب الى «الموضة» الرائجة مع صعود نجم التشدّد الديني. فعرسال التي تجرّعت على مضض سايكس - بيكو وكانت توالي المدّ الناصري ايام حلف بغداد لم تكتشف «سنّيتها السياسية» الا مع اتهام «حزب الله» باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في العام 2005، وها هي تضع ماضيها «اليساري والقومي» جانباً وكأنها في تمرين تجريبي لاكتشاف سنّيتها الدينية بعدما تحرّك «الفالق المذهبي» النائم بفعل ما يجري في سورية.
في البلدية التي تشكل مرجعية «سياسية» وخدماتية وإغاثية لـ «جمهورية» الـ 100 الف نسمة، جمْهرة من الرجال في جلسة يترأسها نائب الرئيس احمد الفليطي وكأنها «حلقة نقاش» لـ«الأحوال والأهوال»، وانضمت اليها «الراي» للوقوف على مقاربة العرساليين لما يجري على «حدودهم» الشرقية (يبرود) والغربية (المناطق المحسوبة على حزب الله)، وخصوصاً في ضوء المخاوف من تدحرج كرة النار من التخوم السورية، والاتهامات بإيوائهم سيارات مفخخة وانتحاريين.
لا يحتاج المرء لطرح الكثير من الأسئلة حتى تكرّ سبحة الكلام. يكفي ان يستفسر عن سر الهدوء الذي يبدو وكأنه يسبق العاصفة... يأخذ نائب الرئيس الكلام ويقول: «قبل مدة كان الوضع مريحاً نسبياً، وحركة النزوح خفيفة، فالمناطق السورية القريبة من عرسال لم تكن تشهد معارك فعلية. الضوضاء الاعلامية التي تحدثت سابقاً عن اتجاه لحسم معركة القلمون لم تكن في مكانها، لان النظام السوري لا يملك طاقات بشرية كبيرة للإمساك بمناطق شاسعة مساحتها نحو 700 كيلومتر مربع، فالاستيلاء عليها يحتاج جيشاً كبيراً لتغطيتها، وخصوصاً ان الكتائب المعارِضة تتحصن فيها وقد انضمت اليها جبهة النصرة».
ربما كان الأمر أشبه بـ «استراحة محارب» لإمرار مفاوضات «جنيف - 2»؟ سألنا، فكان الردّ «ان الاوضاع غير مرتبطة بجنيف بدليل سقوط الكمية الأكبر من البراميل المتفجرة على حلب وقتل نحو 2000 شخص خلال الجولة الاولى من مفاوضات جنيف». وتبعاً لذلك، بدا «نائب الرئيس» اكثر ميلاً للقول ان «الهدوء كان مرتبطاً بالأجواء التي رافقت المساعي لتشكيل الحكومة في لبنان، لان أي معركة بمحاذاة عرسال سيتأثر بها الداخل اللبناني ولا يمكن لأحد الاختباء وراء اصبعه في هذه المسألة».
والسؤال الذي كان من البدهي طرحه هو: هل ستسْلم عرسال بعدما صارت الاتهامات بتورّط جماعات فيها بالعمليات الارهابية مقرونة باعترافات بعضهم؟...
في الاول من فبراير الماضي، أي قبل نحو عام، حدث ما يمكن وصفه بالتحول في اتهام عرسال من داعِمة للثورة السورية وحاضِنة للاجئين، الى داعِمة للارهاب وحاضِنة للتكفيريين. ما حدث يومها كان قتل خالد حميد بحجة محاولة توقيفه لصدور مذكرة بحث وتحر بحقه للاشتباه بدوره في مسائل، قال المحامون يومها ان عقوبتها تراوح بين 3 اشهر و6 اشهر سجن، الامر الذي ترك علامات استفهام حول الطريقة التي تشبه الإعدام التي اعتمدت في قتْله، واشتُمّت منها محاولة للايقاع بين الجيش اللبناني وعرسال، ثم انطلقت حملة مبرمجة بدأت باتهام البلدة بانها تحولت بيئة تكفيرية ووصلت الى حد تحميلها مسؤولية إرسال السيارات المفخخة الى الضاحية الجنوبية والهرمل.
أحد الحاضرين، وهو رجل ستيني، دخل على الخط شارحاً: «نحن نقول انه حتى لو تبيّن ضلوع احد ابناء عرسال بهذه الجرائم، فهذا لا يبرر اتهام البلدة واهلها، فلا يمكن تحميل الناس وزر تصرفات شخص اذا كان مرتكباً»، في اشارة الى ما تم التداول به عن اعترافات للشيخ عمر الاطرش «العرسالي» بتورّطه، وهو الامر الذي لم يرُق لاحدهم، فبادر قائلاً: «نحن نعرف مسار التحقيقات في لبنان، وكيف يتمّ تركيب الملفات لأسباب سياسية، وجميعنا يذكر ان وزير الوصاية على وزارة الدفاع (فايز غصن من 8 آذار) كان اول مَن اتهم عرسال بأنها تأوي القاعدة (تنظيم القاعدة). ولذا لا نستبعد ان يذهب الضباط والعسكريون والقضاة في هذا المنحى، فاذا كان ربّ البيت بالدف مولع فشيمة اهل البيت كلّهم الرقص».
«لا دخان من دون نار» قلنا لهم، فجاء الجواب «نعم... ما من فبركة في المطلق، قد يكون لعمر الاطرش اصبع ما في مكان ما لكن من الصعب تصديق الاتهامات المسندة اليه». ثم تكرّ سبحة الحديث عن هذا الرجل «ابن العائلة المتوسطة الحال، التي حال وضعها المادي دون انتسابه الى الجامعة، فالتحق بالعلوم الدينية في دار الفتوى وصار شيخاً، وهو كأيّ شاب عرسالي ناصر الثورة السورية ويمكن ان يكون قاتَل في سورية».
المرافعات عن عمر الاطرش تنهال من غير شخص في «جلسة البلدية». احدهم يقول ان هذا الشيخ كان عمله يقتصر على نقل الجرحى من السوريين والاهتمام بالمساعدات الانسانية لهم، وآخر يضيف: «نحن نعرف انه خريج دار الفتوى وفي الفقه الذي تعلّمه انه لا يمكن ان تزر وازرة وزر اخرى، فلا يعقل ان يكون متورطاً بتفجيرات في شارع يعبره المدنيون الابرياء شيعة وسنّة ومسيحيين او اياً كان».
ثم يطلب آخر الكلام بـ «النظام» ليوضح «اذا كان عمر الاطرش ضالعاً في مثل هذه الاعمال المدانة، فمن المستبعد ان يكون دوره تجاوز بيع سيارة او شراء سيارة لا اكثر ولا اقل، ومن دون علمه بأن في الامر تفخيخاً او غير ذلك».
لكن لماذا كل هذا الضجيج؟ هل من شيء ما يُدبر لعرسال؟... يجيب نائب رئيس البلدية: «انا لست مع نظرية المؤامرة دائماً. وفي المجتمعات هناك مَن يخطئ ومَن يصيب، لكننا نلاحظ ان الاعلام وحتى القضاء يتعامل بمعايير مزدوجة، فعندما يتعلق الامر بمناطق اخرى يجري تجهيل الاسم، اما عندما ترتبط المسألة بعرسال فالتصويب يكون على انه تم توقيف فلان الفلاني من عرسال، فثمة حملة مدروسة علينا يديرها مايسترو واحد».
ويذكّر الفليطي بانه «قبل عام وعشية قتل حميد، فوجئنا بانسحاب الجيش السوري النظامي من نحو 40 نقطة حدودية كان يتمركز فيها على المقلب المقابل لعرسال من دون ان يكون تعرّض لأي هجمات، فأصبحت الحدود مشرعة لانه منذ انتهاء عهد الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون عقب اضطرابات الـ1958 لم يعد من جيش لبناني على الحدود، وأوكلت مهمة ضبط ايقاع الخروج والدخول غير الشرعي للسوريين»، موضحاً ان «لا معابر شرعية على طول هذه الحدود البالغة نحو 55 كيلومتراً».
والادهى من ذلك، بحسب نائب رئيس بلدية عرسال ان «الدولة اللبنانية تعتبرنا خارج حدودها بدليل التعاطي مع حاجز الجيش اللبناني بين اللبوة وعرسال على انه نقطة حدودية». وقال: «الجيش اللبناني يقيم تسع نقاط بين البيوت ويطوّق 3 كيلومترات مأهولة، تاركاً الحدود فلتانة، وتالياً هل ضبْط الحدود مسؤولية اهالي عرسال وبلدية عرسال ومخاتير عرسال حتى يتمّ تحميلنا مسؤولية ما يجري؟ واذا كانت الدولة عاجزة فلينشروا قوات اليونيفيل ويقفلوا منافذ البلاء».
ويروي الفليطي «ان عناصر من الجهاز الامني لحزب الله تقف ببذاتها واجهزتها وسياراتها عند حاجز الجيش اللبناني بين اللبوة وعرسال ومعها لوائح اسمية بمَن أغاث جريحاً او قدّم حصة غذائية او باع طلقة رصاص»، كاشفاً عن انه «عندما تنزل سيارة من عرسال تقلّ احداً من هؤلاء، سرعان ما «تُغير» عليها سيارتان من امن حزب الله وتعترض سبيلها وتقتادها الى طريق فرعية، فيأخذون اوراق السيارة والسائق ويصوّرون الركاب ويتم الدخول الى هواتفهم ونقل الداتا منها، وإذا تبين وجود شخص مدرج اسمه على لوائحهم يجري تحذيره او شتمه او ضربه... هذا ما يحدث منذ نحو ثلاثة اسابيع وقد اتصلنا بقائد الجيش، وتالياً على رئيس الجمهورية العمل على ضمان حرية انتقال اللبنانيين داخل وطنهم»، شاكياً من «استهداف العرساليين بلقمة عيشهم خلال نقلهم بضائعهم، فاحياناً يتم تسجيل اكثر من عشر عمليات سلب يومية يتعرض لها هؤلاء».
ولم يتردد الحاضرون في مقر البلدية من ابداء خشيتهم من «سيناريوات باتت معروفة»، مستذكرين «ما جرى في نهر البارد (قرب طرابلس) وفي عبرا (في صيدا)، وبالتأكيد «الطبّاخ» لديه فكرة جاهزة، لكنه ينتظر التنفيذ».
وكيف ستردّون؟... يردّون بـ «صوت واحد» وبلغة واحدة: «لا خيار لنا سوى الجيش اللبناني، وفي الضيعة هنا (البلدة) مثَل يقول: «يلي بيحب مرته (زوجته) ما بجبلها ضرّة»، هذا يعني ان الجيش اللبناني هو القوة العسكرية الشرعية الوحيدة، وتالياً فان ضرّته تتمثل في القوة العسكرية التي قامت في موازاته (حزب الله)».
ولعل الكلام الاكثر دلالة على حدة الاحتقان في عرسال، بحسب هؤلاء، ما قيل عن «ان 60 في المئة من الجيش اللبناني هم من السنّة. ومن عرسال وحدها يوجد 3000 عسكري في الجيش. واذا تم ضرب الجيش بالشعب لن يبقى من ثلاثية «حزب الله»: الجيش والشعب والمقاومة، الا المقاومة»، من دون ان ينسوا التذكير بـ «ان على الجميع الانتباه ففي عرسال مئة ألف سني، وتالياً لن تكون الامور كما يشتهونها».
لا يفكر اهالي عرسال بـ «الامن الذاتي» لمواجهة أي مفاجآت محتملة: «نحن لا نملك مقومات الامن الذاتي ولا نريده، فعرسال كسواها من المناطق (السنية) المناصرة لتيار المستقبل. والشيخ سعد الحريري (زعيم التيار رئيس الحكومة السابق) حامل قلم و«ماشي» و«قد ما بدهن عندو قلام». العراسلة لن يقبلوا بالامن الذاتي فنحن مواطنون لبنانيون ورهاننا على الدولة ومؤسساتها رغم اننا موجودين على خط زلازل يجعل من عرسال اكثر شهرة من شارع الحمراء (بيروت) وسوق الكسليك (جونية) لاننا محاطون من جهة بمحافظتين من سورية ومن جهة أخرى بخزان المقاومة في الهرمل وبعلبك. نحن مع الثورة السورية وهم يقاتلون دفاعاً عن نظام (الرئيس السوري بشار) الاسد، وتالياً فالانقسام يزداد حدة وعرسال تدفع الثمن».
ما يقال في البلدية يردده السواد الاعظم من ابناء هذه البلدة التي تفاخر بانها كانت السبّاقة في تقديم شهداء من ابنائها من اجل فلسطين وجنوب لبنان: «لم نكن نشعر يوماً باننا مختلفون عن جوارنا، السنّة تعلّموا في مدارس الشيعة والشيعة تعلّموا في مدارسنا، لم نكن نعرف مَن هو الشيعي ومَن هو السني، كان يجمعنا الفضاء العربي الفسيح وتجاربنا في اليسار وايام الحركة الوطنية اللبنانية».
اصل المشكلة، في رأي عرساليّ غادر اليسار في وقت مبكر من دون ان يغادر «جدلياتها»، ان «حزب الله» يغلّب الاقليمي على المحلي «وهو بغطرسته وسلوكه وتورُّطه في سورية بدا كمَن يزرع الريح ليحصد العاصفة»، مشيراً الى «اننا لم نختلف يوماً حول قضية المقاومة، فنحن قاومنا منذ أمد بعيد، وكل المشكلة ان خيارنا الدولة واننا نقف الى جانب الشعب السوري وثورته كخيار وليس كرهان، وتالياً لا مشكلة سنية - شيعية في العمق بقدر ما هناك مشكلة خيارات سياسية».
كلام كثير يقال في عرسال، وكلام أكثر قد يقال عنها ومن حولها... الأكيد ان مساراً مأسوياً شقّ طريقه الى تلك المناطق التي كانت يوماً مُطْمَئنة ومتضامنة رغم فقرها وحرمانها.
هنا عرسال... رائحة البارود تطلّ من يبرود، فأيّ ايام تنتظرها؟