فاصلة / زاجل النصرالله
| فهد توفيق الهندال * |
أتذكر لقائي الأول مع الكاتب خالد النصرالله قبل سنوات، حيث جمعتنا حوارات متعددة حول الكتابة وتقنياتها ونقاش معـه حول أعماله الأولى (كويتي من كوكب آخر، التجربة الانكليزية، الحقيقة لا تقال، هرطقة)، وربما كنت صريحا معه بأن يعيد النظر في كتاباته، والذي شجعني حقيقة هو استماعه ورغبته بأن يتعرف أكثر، وطرحه المستمر للأسئلة. فجاءت مجموعته القصصية الأولى (المنصة) لينعطف بها عن خط كتاباته الأولى صوب تجربة مغايرة ومختلفة بالوعي الكتابي، ما عمّق الثقة لديه بأدواته الجديدة ليصدر روايته الأولى فعلا (زاجل) هذا العام عن الزميلة نوفا بلاس.
الرواية تنطلق من عنوانها وتعود إليه، فـ (زاجل) كما هو معروف اسم نوع من الحمام مشهور عنه حمله للرسائل بين مناطق بعيدة، وذلك لارتباطه بالموطن الذي عاش فيه وقتا طويلا، قد لايكون مسقط رأسه بالضرورة. إضافة إلى دوره التاريخي في نقل رسائل الحروب في مختلف العصور من خلال رسائل «تقيّد» إحدى ساقيه، حتى يضمن وصولها بشكل آمن. والزاجل طير يعشق العيش في أبراج عالية تجعل العالم فسيحا وهو يراقبه من أعلى.
فما علاقة زاجل ببطل الرواية بيشوي؟
بيشوي– الساكن أيضا في أبراج- هو السارد الفعلي والأول للعمل، بصيغتيه المخاطبة والمتكلمة، ولعل هذا يدل على درجة الدراية لديه بكل مجمل وتفاصيل الأحداث والشخصيات والمكان على افتراض أن زمن السرد جاء في الرواية لاحقا، كما يوضحه أيضا التوسع الكبير لديه في الوصف لكائنات الرواية.
كذلك الحوار المتبادل بينه وبين نفسه متكلما ومخاطبا، الذي يقترب إلى شكل الرسائل المتبادلة بينه هو وحده وليس مع طرف آخر دون تحديد المرسل والمتلقي، الناقل بينهما الأسئلة التي تبحث عن أجوبة في سر هويته هنا/ الكويت وهناك/ الأقصر (مصر)، دافعه في ذلك جملة قالها له عمه مرة (تجاوز العقبات الوهمية حتى لو كنت أنا صانعها). وهنا دعوة للتحرر من «قيد» ما!
لتبدأ محيرات النص في تحريك مداراتها حول علاقته بعمه كيف تكونت، فالأب مصري (جرجس) كما هو الواضح من السرد الصريح، في حين بقيت صورة الأم مجهولة في كل شيء. يشاركه في هذا الانشطار (هبة) التي تعيش الحالة ذاتها ولكن بشكل عكسي، لكونها معروفة الهوية من جهة الأب والأم، وإن تدور حولها دوائر الشك لاعترافها بعدم صدقها في روايتها الأولى في كيفية حضورها للكويت، كما هو حال عمه وعلاقـته المبتورة مع هدى التي يتناصف أصلها بين هويتين أيضا، حيث انقطع حبل السرد عنها بعد الغزو العراقي عام 90. إذاً ثمة سرد غير صريح، يدور في متاهته بيشوي، وإلا ما الذي جمع هذه الشخصيات الثلاث في دائرة زمنية واحدة لا تتعدى شهرا واحدا هو عمر تلاقيهم (بيشوي/ عمه/ هبة) ليتضح مع تصاعد الحدث الانشطار المشترك بينهم، ولعل أكثرهم صراع بيشوي، خصوصا بعدما قرأ بعض مخطوطات عمه السرية، وتوقفه عند جملة (عندما سرق الصغير، وجاء إلى أرضك يسير، ثم إلى السماء يطير. أتى إليك فقيرا، كي تتوجه أميرا).
فأي صغير سُرق؟ ومن سرقه؟ وممن؟ ومن أين؟
لهذا جاءت الشخصيات ثانوية كلها- باستثناء بيشوي- تدور كلها بسردها المتداخل حوله وتنقيبه المستمر والمستتر، باستثناء أيمن، حارس أسرار المكان. لنصل إلى إجابة محتملة للسؤال الذي تصدر الرواية: «المكان دون الزمان، أصم. الزمان دون المكان، عدم. من فصل الظرفين إذا؟» بأن الإنسان وحده من فصل بينهما، سواء بإرادته أو دونها.
العمل بلغته المختلفة عن بقية اعمال خالد النصرالله، وبنائه المعقد والمتراوح زمنيا ومكانيا بين محطات متقابلة، يحظى بميزة الوصف العالية لمعظم التفاصيل التي طغت على عموم الرواية، وهو ما أفقد السرد دهشته وجذبه المفترض، آملا أن تكون هذه النقطة محفزا للنصرالله في أعماله المقبلة بأن يراعي أن السرد أصل العمل الروائي، في سبيل بناء يرتقي أكثر إلى طموحه كروائي جاد ومتمكن في المستقبل.
لنؤكد أن الهوية كانت وما زالت هي المحرك الأساسي في كل الأعمال الأدبية، ومنها السردية، التي يراها بول ريكور أنها تسكن عالمين، عالم القارئ من جهة وعالم النص من جهة ثانية، يحتكمان إلى الواقعي من جهة وإلى تخييلي من جهة ثانية، منطلقا من مقولة مهمة أن الحياة في سيرورتها سرد مستمر تبحث عن مطابقة مرة وعلى الاختلاف مرات.
فكم تحتمل حياتنا المطابقة بينها وبين الآخر، كذلك هو الاختلاف؟!
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72
الرواية تنطلق من عنوانها وتعود إليه، فـ (زاجل) كما هو معروف اسم نوع من الحمام مشهور عنه حمله للرسائل بين مناطق بعيدة، وذلك لارتباطه بالموطن الذي عاش فيه وقتا طويلا، قد لايكون مسقط رأسه بالضرورة. إضافة إلى دوره التاريخي في نقل رسائل الحروب في مختلف العصور من خلال رسائل «تقيّد» إحدى ساقيه، حتى يضمن وصولها بشكل آمن. والزاجل طير يعشق العيش في أبراج عالية تجعل العالم فسيحا وهو يراقبه من أعلى.
فما علاقة زاجل ببطل الرواية بيشوي؟
بيشوي– الساكن أيضا في أبراج- هو السارد الفعلي والأول للعمل، بصيغتيه المخاطبة والمتكلمة، ولعل هذا يدل على درجة الدراية لديه بكل مجمل وتفاصيل الأحداث والشخصيات والمكان على افتراض أن زمن السرد جاء في الرواية لاحقا، كما يوضحه أيضا التوسع الكبير لديه في الوصف لكائنات الرواية.
كذلك الحوار المتبادل بينه وبين نفسه متكلما ومخاطبا، الذي يقترب إلى شكل الرسائل المتبادلة بينه هو وحده وليس مع طرف آخر دون تحديد المرسل والمتلقي، الناقل بينهما الأسئلة التي تبحث عن أجوبة في سر هويته هنا/ الكويت وهناك/ الأقصر (مصر)، دافعه في ذلك جملة قالها له عمه مرة (تجاوز العقبات الوهمية حتى لو كنت أنا صانعها). وهنا دعوة للتحرر من «قيد» ما!
لتبدأ محيرات النص في تحريك مداراتها حول علاقته بعمه كيف تكونت، فالأب مصري (جرجس) كما هو الواضح من السرد الصريح، في حين بقيت صورة الأم مجهولة في كل شيء. يشاركه في هذا الانشطار (هبة) التي تعيش الحالة ذاتها ولكن بشكل عكسي، لكونها معروفة الهوية من جهة الأب والأم، وإن تدور حولها دوائر الشك لاعترافها بعدم صدقها في روايتها الأولى في كيفية حضورها للكويت، كما هو حال عمه وعلاقـته المبتورة مع هدى التي يتناصف أصلها بين هويتين أيضا، حيث انقطع حبل السرد عنها بعد الغزو العراقي عام 90. إذاً ثمة سرد غير صريح، يدور في متاهته بيشوي، وإلا ما الذي جمع هذه الشخصيات الثلاث في دائرة زمنية واحدة لا تتعدى شهرا واحدا هو عمر تلاقيهم (بيشوي/ عمه/ هبة) ليتضح مع تصاعد الحدث الانشطار المشترك بينهم، ولعل أكثرهم صراع بيشوي، خصوصا بعدما قرأ بعض مخطوطات عمه السرية، وتوقفه عند جملة (عندما سرق الصغير، وجاء إلى أرضك يسير، ثم إلى السماء يطير. أتى إليك فقيرا، كي تتوجه أميرا).
فأي صغير سُرق؟ ومن سرقه؟ وممن؟ ومن أين؟
لهذا جاءت الشخصيات ثانوية كلها- باستثناء بيشوي- تدور كلها بسردها المتداخل حوله وتنقيبه المستمر والمستتر، باستثناء أيمن، حارس أسرار المكان. لنصل إلى إجابة محتملة للسؤال الذي تصدر الرواية: «المكان دون الزمان، أصم. الزمان دون المكان، عدم. من فصل الظرفين إذا؟» بأن الإنسان وحده من فصل بينهما، سواء بإرادته أو دونها.
العمل بلغته المختلفة عن بقية اعمال خالد النصرالله، وبنائه المعقد والمتراوح زمنيا ومكانيا بين محطات متقابلة، يحظى بميزة الوصف العالية لمعظم التفاصيل التي طغت على عموم الرواية، وهو ما أفقد السرد دهشته وجذبه المفترض، آملا أن تكون هذه النقطة محفزا للنصرالله في أعماله المقبلة بأن يراعي أن السرد أصل العمل الروائي، في سبيل بناء يرتقي أكثر إلى طموحه كروائي جاد ومتمكن في المستقبل.
لنؤكد أن الهوية كانت وما زالت هي المحرك الأساسي في كل الأعمال الأدبية، ومنها السردية، التي يراها بول ريكور أنها تسكن عالمين، عالم القارئ من جهة وعالم النص من جهة ثانية، يحتكمان إلى الواقعي من جهة وإلى تخييلي من جهة ثانية، منطلقا من مقولة مهمة أن الحياة في سيرورتها سرد مستمر تبحث عن مطابقة مرة وعلى الاختلاف مرات.
فكم تحتمل حياتنا المطابقة بينها وبين الآخر، كذلك هو الاختلاف؟!
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72