علي الرز / فيروز وهيكل ... وجهة نظر!
| علي الرز |
قبل نحو 15 عاما، ذهبت وزملاء مهنة لحضور حفلة المطربة الكبيرة والفنانة العظيمة فيروز في قاعة الاولمبيا في لندن. القاعة كبيرة جدا وتتسع لعشرة آلاف مقعد تقريبا لكن الحضور في الامسيتين اللتين احيتهما لم يتجاوز الآلاف الثلاثة في افضل تقدير اي 1500 شخص في كل امسية.
كانت الفرقة الموسيقية الانكليزية تعزف في مكان وفيروز تغني في مكان آخر. لا تنسيق ولا ايقاع متناغماً، وصوت المطربة يضيع بين خلل تقني بسيط هنا و«نشاز» موسيقي هناك. زميلي المثقف الذي يجلس الى جانبي كان كثير التبرم: «هل يعقل ان القاعة فارغة بهذا الشكل؟ كيف رضيت السيدة فيروز ان تغني مع فرقة غير مدربة ولا تمت الى روح الالحان الشرقية بصلة؟ لماذا صوتها خافت؟» ... الى آخر الاسئلة المحقة.
فوجئت في اليوم التالي بزميلي، صاحب الاسئلة، يكتب ان حضور الحفلة تجاوز الثمانية آلاف شخص، وان التناغم بين الفرقة البريطانية وفيروز كان متكاملا الى درجة مثيرة للاعجاب، وان قوة صوتها كادت تجعل جدران الاولمبيا تتمايل طربا. سألته عن سبب كتابته عكس ما عايش تماما خصوصا ان احدى الفضائيات نقلت مباشرة بعض وقائع الحفلة واظهرت ضعفها، فنظر الي نظرة هي مزيج من العتاب ولفت النظر و«التخوين» اذا اردت، ورد: «انها فيروز، سفيرتنا الى النجوم، هل تريدني ان اطعن تاريخا لبنانيا بأكمله من اجل حفلة لم يحالفها الحظ؟». انسحبت فورا من النقاش وادركت ان «الهالات المقدسة» التي رسمها بعضنا لرموز بعينها اصعب من ان تمسها حقائق، على رغم ان لا شيء كان يعيب من وجهة نظري ان يقال ان الجمهور لم يقبل على الحضور لخلل في التنظيم، وان اختيار الفرقة البريطانية كان خطأ، وان مهندسي الصوت والاضاءة مثلا لم يقوموا بعملهم كما يجب. ولم اكن لاعتقد لحظة، لو لم يرمقني زميلي بتلك النظرة، انني انتقص من مكانة فنية تاريخية كمكانة السيدة فيروز بل اعتقدت، خاطئا ربما، ان مكانتها تحديدا هي التي تفرض على الاعلاميين والمثقفين ان يسلطوا الضوء على الخلل كي لا يتكرر.
تذكرت تلك الحادثة وانا اقرأ محاضرة الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل في نادي القضاة في مصر قبل ايام. فللرجل ايضا «هالة مقدسة» لدى الكثير من اتباعه ومريديه والمعجبين به، بل تجاوز تلك الهالة الى مرحلة «البدهيات»، كأن يقول احدهم للدلالة على زيف موضوع او صوابيته: «الاستاذ هيكل يقول كذا» او «ألم يكشف الاستاذ هيكل كذا؟».
عدت الى تلك المحاضرة بعدما قال احد المسؤولين الكبار في «حزب الله» في برنامج تلفزيوني ما معناه ان دولا عربية متورطة في اغتيال المسؤول العسكري في الحزب عماد مغنية «وان الاستاذ هيكل المعروف بسعة اطلاعه تحدث عن ذلك». عدت الى المحاضرة فوجدت حرفيا: «اتصور انه (مغنية) اغتيل بتواطؤ من بعض الحكومات العربية».
«تصور» الاستاذ هيكل في هذا الاطار صار «بدهية» لدى «حزب الله» او سياسة عامة يجب تبنيها واستخدامها وتوظيفها والتهديد بها مع ما يرافق ذلك من نتائج، في حين ان التحقيقات لم تنته بعد وان الرئيس السوري نفسه اكد في اكثر من مقابلة ان لا دليل على تورط اجهزة عربية في اغتيال مغنية.
هنا مكمن خطورة «الهالات المقدسة» التي اعتقد ان على اصحابها قبل غيرهم السعي الى تغييرها واعادة «الأنسنة» لها لانهم اكبر المتضررين منها على المدى الطويل ولو اطربهم المديح الراهن من شرائح بعينها. لسنا هنا لنناقش كيف عرف الاستاذ هيكل بتورط دول عربية في اغتيال مغنية. من التحقيق نفسه وان كانت الموضوعية تقتضي ان لا يعرف صحافي بمجرياته؟ من «حزب الله» الذي استقى معلوماته من هيكل؟ من الجهات التي نفذت الجريمة وهي آخر من نعتقد ان الاستاذ هيكل على علاقة معها؟ ما الدول العربية المتورطة في الاغتيال؟ اسئلة تبدو كاريكاتورية وسطحية امام جوهر فكرة ان «الاستاذ» يقول فيصبح ما يقوله حقيقة.
في المحاضرة نفسها «بدهيات» اخرى غير موجودة الا في تصورات قائلها و«سلطنة» مريديه. تحدث «الاستاذ» عن احتلال بيروت من قبل «حزب الله» قائلا ان الازمة بدأت يوم استشعر الحزب ان «600 عنصر من خارج لبنان دخلوا الى البلاد» ويمكن لهم تغيير الاوضاع داخل بيروت فتحرك الحزب «بعدما اعتقد ان المسألة لا تحتمل الهزار وانها مسألة حياة او موت. وفي خلال 24 ساعة تمت له السيطرة على بيروت واصبحنا امام وضع جديد».
يعرف الاستاذ هيكل ومريدوه بالطبع ان قرار احتلال عاصمة عربية لا يبنى على «استشعار» بوجود 600 عنصر من خارج لبنان دخلوا الى لبنان. فالحزب الذي قال هيكل في المحاضرة نفسها انه هزم اسرائيل لن يخيفه بالطبع وجود عشرات العناصر من خارج لبنان. ثم من هم هؤلاء الـ600 عنصر؟ كيف عرف هو بهم ولم يعرف بهم اهل بيروت؟ هل يقصد الميليشيا التي تحدثت عنها المعارضة اللبنانية لمدة سنتين وقالت انها بالآلاف وتتدرب في الاردن على يد اميركيين وبتمويل خليجي ثم اتضح انها ميليشيا «وهمية» هدف الحديث عنها التعبئة وشحن الغرائز الطائفية والا كيف يمكن ان ينهار مخطط بهذا الحجم خلال ربع ساعة فقط؟ هل بنى معلوماته على خطاب فصيل لبناني يضبط ايقاع تصريحاته ومواقفه على منظومة اقليمية معروفة وواضحة؟ وهل كان ما حصل رد فعل على دخول 600 عنصر الى لبنان ومن باب «عدم الهزار» ام انه فعل مدروس التوقيت والتوظيف وفي لحظة تقاطع اقليمي – دولي فتحت الابواب على مفاوضات اخرى ومناخات اخرى في المنطقة؟ واخيرا وليس آخرا كيف لاستاذ مثل هيكل ان ينضم الى جوقة الذين رأوا ان احتلال عاصمة «وجهة نظر» (و«في خلال 24 ساعة تمت له السيطرة على بيروت واصبحنا امام وضع جديد» كما جاء في محاضرته) وليس انقلابا مسلحا على شرعية وغالبية وصلت الى السلطة عن طريق الانتخاب الحر؟ او اعتداء على آمنين وممتلكاتهم ومؤسساتهم الاعلامية والاجتماعية ... وعلى الهواء مباشرة؟
احيانا تصبح «الحقائق» و«البدهيات» هي «الهزار» نفسه، وتعكس «الهالات المقدسة» جاهلية جديدة لدى شرائح كثيرة من المثقفين والاعلاميين والسياسيين الذين يرون ما يجري واضحا امام عيونهم لكنهم يرفضون ان «يطعنوا تاريخا بأكمله» لمجرد وقوع «الاستاذ» في سقطة، على رغم ان مناقشته وتوضيح الامور له ودعوته الى النظر الى المستجدات كما هي لا كما يراها، تشكل خدمة له ولمشروعه التأريخي المفروض ان يبنى على الوقائع والمعطيات لا على التفسيرات.
كان بعض الماركسيين يحكم التاريخ بالنظرية وليس العكس. يختار ما يتوافق ويدلل ويثبت ويترك ما يخالف ويعاكس. اليوم يفعل ذلك الجميع. الزعيم والسياسي و«السياسي الشيخ» والشيخ والامام والكاتب والاعلامي والمؤرخ والفنان. ويتساوى في التلقي انصار الزعيم الهاتفين «بالروح والدم»، واتباع الشيخ رافعي الشعارات الدينية، ومريدو الكاتب الذين حولوا وجهة نظره الى حقيقة، وجمهور الفنان الذي لا يريد ان يراه ويسمعه الا كما رآه وسمعه قبل عقود... صار الجمهور واحدا، كثر عدده ام قل، لا يهم. المهم ان ما يقوله «الرمز» يصبح لدى المتلقي «فعل ايمان» ثم يترجم بعين القناعة وقلم الترويج وحبر التمنيات.
لم تخطئ فيروز في حفلة الاولمبيا. لم يكن عدد الجمهور قليلا . لم تكن الفرقة الموسيقية سيئة. لم يكن صوتها ضعيفا... لان زميلي الذي تشكل المطربة الكبيرة رمزا من رموزه اراد ذلك ولو عكست الحقيقة غير ذلك. ولم يخطئ هيكل في محاضرته في نادي القضاة. لم يعط تصورات واستنتاجات ضعيفة. لم يرتكب «حزب الله» ومن خلفه سورية وايران اي عمل سيئ. لم تنتهك حرمات عاصمة على يد جزء من ابنائها. انهزمت «المؤامرة الدولية» عبر العناصر الـ600 الذين خططت لادخالهم الى بيروت واشتركت دول عربية في اغتيال مغنية ... لان مريدي الاستاذ الكبير الذي يشكل رمزا من رموزهم ارادوا ذلك ولو عكست الحقيقة غير ذلك.
الصح صح ولو كان مهزوما والخطأ خطأ ولو كان منتصرا... ما عدا ذلك يبقى «وجهة نظر» او كلاما من نوع: «المسألة لا تحتمل الهزار».