حسين الراوي / أبعاد السطور / حفلة تنكرية


دُعيت ذات مرة من قِبل أحد الأدباء المثقفين والمشهورين في هذه البلاد لحضور حفل عشاء يضم مجموعة من المثقفين والأدباء بهدف التواصل والتعارف، ولقد لبيت هذه الدعوة، رغم أنني لا أنسجم كثيراً مع هذه المحافل التي يزدحم فيها الناس، اذ يكون الكلام والأكل والشرب هم سادة الموقف!
وفور دخولي لتلك القاعة استقبلني صاحب الدعوة ورحب بي، ومن ثم وقفت برهة أنتقي المكان الذي سأجلس فيه، ولقد رأيت أن القاعة رغم اتساعها الا أنها انقسمت لقسمين، اذ اكتظ الكثيرون من الأخوة المثقفين والأدباء في احدى زوايا القاعة. أما الزاوية الأخرى فلم يكن يجلس فيها الا شخص واحد فقط. وعلى الفور وجدت خطاي تتجه لهذه الزاوية الهادئة غير المزدحمة، وكأنها تربطها بها علاقة حُب حميمة!
وقبل أن أهم بالجلوس، وجدت أن الشخص الذي كان يجلس وحيداً قام لاستقبالي، فبدأت عبارات الترحيب تنطلق من فمه قل أن أضع يدي في يده، وحينما بدأت التدقيق في ملامح هذا الرجل جيداً، عادت بي الى أعوام طوال، قد مضت، فلما أيقنت أن هذا الرجل هو أحد أصدقاء الطفولة الطيبين، انتزعت يدي من يده وبادرت باحتضانه.
هذا الصديق هو مما يطلق عليهم القانون الجائر صفة «غير محدد الجنسية»، وبسبب هذه التسمية القاسية حُرم من حقوق عدة له، ولأنه ليس بصاحب «خدمات جليلة» ظل حاله متردياً مثله مثل بقية الأخوة البدون، الذين حرموا من حقوق التعليم والصحة والزواج والولادة والوفاة! دار بيني وبينه حوار:
- قل لي، أين تعمل الآن؟
- لا، أنا لا أعمل، فكل جهة رسمية محترمة تطلب مني أوراق اثبات، وأنا أعيش كالأشباح، لا هوية ولا عنوان ولا موطن.
- هل تزوجت؟
- لا طبعاً، فالزواج يريد مني مهراً وبحبوحة في العيش، وأنا لا أملك المهر وأعيش مع أبي وأمي واخوتي في بيت صغير بالكاد يحتوينا.
- حسناً، قل لي اذاً، على ماذا تعيش الآن؟
- أنا حالياً أبيع القصائد لمن يشتري!
- وهل هذا يرضيك؟ أين ذهبت مبادئك وقيمك الجميلة؟
- يا صاحبي، ماذا عسى أن تفعل المبادئ والقيم الجميلة أمام قسوة الجوع وألم الحاجة.
- وهل هذا مُسوّغ لأن تهدر تعبك الفكري والروحي بهذه السهولة؟
- لو أنك جرّبت سياط الظُلم وتجرعت ذل الهوان، لما فكرت بالأدب والثقافة، وكان جل اهتمامك هو كيف تبقى صامداً وألا تنصهر تحت الأقدام.
- وهل بيع القصائد والمقالات أوصلك لما تصبو اليه؟
- لا، لكنه سد الكثير من حاجاتي الشخصية والحاجات الضرورية لعائلتي.
- وهل هناك زبائن كثيرون يشترون منك القصائد والمقالات؟
- نعم، هم كثير جداً!
- وهل أستطيع أن أعرف أسماء البعض منهم؟
- حسناً، هل رأيت أولئك الذين اجتمعوا سوياً في تلك الزاوية وتركوني وحيداً قبل أن تأتي وتجلس معي؟
- نعم، ما بهم؟
- هم جميعاً من زبائني الخاصين والدائمين! وخصوصاً صاحب هذه الدعوة!
- صاحب هذه الدعوة! لما هو؟
- هذا لأن جميع من هنا ممن أبيع لهم القصائد والمقالات غير منتظمين في سداد ما عليهم من ديونٍ لي، ما عدا صاحبنا هذا الذي التقينا عنده بعد أعوام عدة، فانه أكثرهم احتراماً لنفسه في مسارعته لتسديد فاتورة كل عمل ثقافي أدبي يشتريه مني!
- أمعقول ما تقول؟
- نعم، انني لصادق في ما قلت.
ثم ضحكت ضحكة مجلجلة ضج صداها وتردد في فضاء تلك القاعة، فأخذ الجمـــــيع ينظر باتجاهي بدهشة وفضول، فأتى بعض الزملاء يســـــألني عن ســـــــر تلك الضحـــــكة المدوية؟ فأجبتـــــهم أن هذه هي المرة الأولى في حــــــياتي التي أحضر فيها حفلة تنـــــكرية!
حسين الراوي