دولة... ورفاه

تصغير
تكبير
الشيخ محمد صباح السالم

... ثروات ودخل مرتفع

... لمبورغيني وسفر وإنفاق

... سمنة وسكري وقلة نشاط

... ضرائب غائبة وخدمات مجانية أو بأسعار رمزية

... علاج في الخارج واحتياطي أجيال

... فساد في جسد الإدارة

... انهيار



ما قرأتموه في الأسطر القليلة الماضية ليس طلاسم أو شيفرات أو «قطاية» أو كلمات متقاطعة... سأعود إليه.

تقريران وردا الأحد الماضي، واحد صار عنوانه مادة للتهجم والانتقاد، والثاني تم تجاهل عناوينه ومضامينه، وعلى رغم أن التقريرين نشرتهما «الراي» في وقت واحد (بل ووضعت التقرير الثاني على صدر صفحتها الأولى بعكس الأول) إلا ان جاذبية العنوان استقطبت كل أنواع القصف المركز والعشوائي... العنوان كان «دولة الرفاه الحالية غير قابلة للاستمرار».

التقرير الثاني الذي لم تطلق عليه لا النيران الصديقة ولا النيران العدوة كان عن تقديم الحكومة كشفا إلى مجلس الأمة بوجود 105 حالات تعدٍ على المال العام خلال تسعة أشهر فقط تنوعت بين سرقات واختلاسات واستيلاء وحالات تزوير وتعيينات وهمية. تقرير من «داخل البيت» يعترف بخلل كبير في 9 أشهر، فما بالنا بتقارير من «خارج البيت» تتحدث عن خلل سنوات وسنوات... وقد يكون ذلك أحد الاسباب التي دفعت سمو الأمير إلى فرد جزء من نطقه السامي في افتتاحه مجلس الأمة للحديث مباشرة هذه المرة عن المال العام وحصانته وحرمته وقدسيته.

نعم، هناك رابط بين مكافحة الفساد والتعدي على المال العام وبين استمرار مستوى متقدم من الرفاه والرخاء. ونعم وألف نعم لمقولة إن «دولة الرفاه الحالية التي تعودها الكويتيون غير قابلة للاستمرار» مهما تعرضت هذه المقولة للهجوم والانتقاد، لأن ما نعيشه اليوم هو خلط رهيب بين الرفاه والتواكل. بين العيش الرغيد والرعاية. بين القدرة والدعم. بين الوظيفة والانتاج. بين تحسن الاقتصاد وانتعاش البورصة. بين التخطيط والتنفيذ. بين المشاريع والتنمية. بين النمو والتقدم... وبالمناسبة فإن الكائن الحي ينمو أما الدول فتتقدم أو تتأخر، ونحن من «تنمية» إلى أخرى نتجمد في أماكننا بل نتأخر عن الركب، وحسناً فعل نائب رئيس الوزراء وزير المالية الشيخ سالم عبد العزيز الصباح الذي امتلك شجاعة الاعتراف بأن خطة التنمية لا علاقة لها بالتنمية و«قواعدها غير صحيحة».

نريد التقدم، سواء كان تحت اسم التنمية أو أي اسم آخر، لكن الحجر الذي رمته الحكومة في المياه الراكدة بتقريرها عن دولة الرفاه حرك الكثير من الانتقادات بدل ان يحرك الكثير من العمل، وللأسف الشديد فإن غالبية الانتقادات صدرت من أشخاص غير مختصين في الشأنين الاقتصادي والمالي، ومن مستمرئي المزايدة السياسية، ومن مواطنين عاديين يعانون فعلا من ضغوطات معيشية وفاجأهم التسويق السلبي لعنوان واقعي... ومع الأسف الأشد فإن الحكومة ارتبكت أمام هذه الانتقادات وحاول بعض الوزراء التوضيح والتراجع عن «استحالة استمرار دولة الرفاه»، وهو الأمر الذي يعني ان الاداة التنفيذية الرئيسية في البلد ما زالت تعاني «فوبيا» الحكومات السابقة.

«دولة الرفاه الحالية التي تعودها الكويتيون غير قابلة للاستمرار». نقطة على السطر. نبدأ من هنا ولا نخسر سنتين اضافيتين لمحاولة تجميل العبارة أو شرحها. لكن هذا لا يعني أن «دولة رفاه لم يتعودها الكويتيون» صعبة التحقيق، بل ان كل الامكانات والطاقات والمؤشرات موجودة لتحقيقها عبر قيام شراكة حقيقية شعبية في إدارة عجلة الانتاج مع ما يستدعي ذلك من قوانين وتشريعات تفتح الأبواب أمام هذه الشراكة بمعايير علمية حديثة.

وبعد القوانين والتشريعات لا بد من ثورة حقيقية في قيم ومفاهيم وسلوكيات العمل لدى الافراد والجماعات، مع ما يستدعي من توجيه تربوي في المناهج منذ الصغر وربط مخرجات التعليم الجامعي بحاجات سوق العمل، إضافة إلى تبديل جذري في النظرة الاجتماعية للعمل كقيمة انتاجية بغض النظر عن حجمه وتصنيفه. أي أن المتألق في مجال ما يجب الا يغادره إلى وظيفة روتينية في مؤسسة حكومية عبر واسطة نائب يهدد الوزير بالمساءلة. وثورة القيم والمفاهيم هذه يجب الا تقل عنها ثورة إدارية بكل معنى الكلمة تنفض عن مؤسسات القطاع العام غبار السنين المتراكمة وتستقطب أفضل ما في قيم القطاع الخاص من نواحي الرقابة الوظيفية والانتاجية والتسويق، من دون إغفال ضرورة تطوير النظام السياسي لإخراج أسواق العمل والوظائف والمشاريع التنموية من ثلاجة الخلافات أو العلاقات النيابية - الحكومية... رغم أن العشم في هذا الأمر يبدو كعشم إبليس في الجنة.

نحن في دولة رعاية لا في دولة رفاه، وهذا الأمر قد لا يدوم، واستغرب من الذين يريدون له أن يدوم مع انفتاحه على ريح هادمة ولا يريدون تغييره كي تصبح شجرة الكويت عصية على الريح. وحده المتخلف لا يريد رؤية الرفاه في بلاده ووحده القاصر أو الجاهل أو الغشيم الذي لا يعرف ان دولة الرفاه تحتاج شراكة حقيقية في المسؤولية كي تقوم وتستمر وتتقدم.

أعود إلى المقدمة، ففي محاضرة سابقة للشيخ محمد الصباح تحدث عن جزيرة بين هاواي واستراليا اسمها ناورو، اكتشفت فيها قبل عقود ثروات من مناجم الفوسفات حولتها إلى أغنى دولة في العالم، تمتع أهلها بدخول مرتفعة ورواتب عالية، وامتلك بعضهم اكثر من سيارة لمبورغيني وأمضى ايامه في السفر والانفاق لأن الوظائف الحكومية استقطبت 95 في المئة من العاملين والضرائب غائبة والخدمات الصحية والتربوية مجانية أو بأسعار رمزية، من لا يعالج في الداخل ترسله الدولة إلى الخارج، وأدى التكاسل وقلة النشاط إلى نسبة كبيرة من مرضى السمنة والسكري. وعلى رغم ان الدولة خصصت نسبة من موازنتها لمشاريع التنمية وأخرى لصندوق احتياطي الاجيال فإن تراجع أسعار الفوسفات مع نخر الفساد أجهزة الإدارة أدى إلى انهيار الدولة التي كانت قائمة وافلاس الجزيرة.

هل عرفتم الآن لماذا بدأت المقال بتقرير حالات التعدي على المال العام قبل تقرير الرفاهية؟ التقريران وجهتهما واحدة، والشراكة المطلوبة تقتضي أن نعمل جميعا لتأسيس دولة الرفاه «المستدامة» من خلال معالجة الخلل أولاً، وبعمليات جراحية إن استدعى الأمر، وبالاتفاق ثانيا على ضرورة تغيير الأدوية التي اعتدنا عليها وخصوصا... المسكنات.





جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي