قليلاً من الوضوح / جورج أبيض... تاريخ مسرحي عريق
يقول جورج أبيض في احد حواراته الصحافية «يا للسخرية... لكي ينجح المرء لا بد وان ينظر إلى الواقع بعين الفنان، وان ينظر إلى الفن بعين الواقع» قدم الرائد المسرحي العربي جورج أبيض مئة وسبع وعشرين مسرحية من تأليفه واخراجه عام 1910 بعد عودته من باريس إلى القاهرة.
بالاضافة إلى المسرحيات التي لم تذكر وهي ايضاً كثيرة والتي قدمها حينما كان موظفاً في محطة السكك الحديد في الاسكندرية... كما شكل جورج ابيض للمسرح العربي حالة من حالات التوهج العشقي الذي ينهل من منابع الصفاء الروحي القيمي ليجسد من خلال رحلته الطويلة مع المسرح ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً نبراساً تهتدي به الأجيال كلما حداها نوره الفني لتجسد وعلى مر الأيام فن جورج ابيض الخالد، وحينما نستذكر مشوار جورج أبيض ستستوقفنا محطات كثيرة في الحقبة التي عاشها وأبدع فيها، مما تعرضت له الشعوب العربية وعلى رأسها مصر من استعمار اجنبي لاغ للهوية العربية وبالتالي لأي مرتكز يتعلق بها سواء كان عن طريق الفن المسرحي او غيره من الفنون ولكن مع فرسان هذه الأمة من مسرحيين وفنانين وأدباء... كان الأمر مختلفاً ففيهم استرجعت الشعوب العربية شيئاً من عنوانها المفقود، ومنهم صارت الحالة العربية تواقة لتحقيق أمجادها الغابرة، ولولا جهود المسرحي الكبير جورج أبيض ورفاقه في مضمار الفن واعطائه كل ما يملك من جهد ووقت وعشق غير منتهي، لكان وضعنا المسرحي الحالي في خلل! رغم انه في خلل مكتسب وليس متوارثاً!، فدول شمال افريقيا وعلى رأسها تونس ما نهضوا من سباتهم وسطوة المستعمر الا على يد جورج أبيض، فأعطى لتونس وحول شمال افريقيا قيمة ومكانة جديدة للمسرح، وربط كل ذلك بالبعدين العربي والقومي وأخيراً الإسلامي، لأنه اساس حضارتنا... أما الخليج وعلى رأسه الكويت فتفرغ الراحل «زكي طليمات» لخلق كيان مسرحي جديد.
ولد جورج أبيض في بيروت عام 1880 وعاش طفولته مع اسرته إلى ان سافر إلى الاسكندرية قاصداً احد اقربائه، وفي الاسكندرية بدأ في التعرف على الفنون المجلوبة من القاهرة، وكان على رأسها فن المسرح او ان كان المسرح في ذاك الوقت لا يستند إلى مفهوم الفن... الا انه كان قادراً على ايصال احداث الشخصيات التي تؤدي دورها في المسرحية إلى جمهور النظارة... أحس جورج أبيض ان شيئاً ما يدفعه لهذا الفن، وكان يعمل موظفاً في محطة السكك الحديد... كما انه كان يتردد في الاسكندرية على مسرح «سلامة حجازي» الذي كان يملك حنجرة قوية وصوتاً شجياً جذب اليه جمهوراً غفيراً، واستطاع ابيض ان يتعرف إلى فناني الاسكندرية وانضم إلى احد المسارح وقدم مسرحية «برج فل» وهي فرنسية ألفها «اسكندر ديماس» عام 1822، ومثلت على المسرح الفرنسي800 ليلة، وحاول ابيض ان يدعو الخديوي بشتى الطرق لحضور العرض المسرحي من أجل منحه «إجازة دراسية» إلى فرنسا لتعلم فنون المسرح وكان له ما أراد، والموافقة هذه لم تأت الا بعد محاولات شاقة قام بها ابيض بغية ان يوافق الخديوي على سفره ونقلته الباخرة من الاسكندرية إلى ميناء مرسيليا ومنها اتجه ابيض إلى باريس وأعد نفسه لاختبارات المقابلة الأولى في اكاديمية الفنون المسرحية.
وجاء يوم الامتحان وقد تقدم معه خمسمئة طالب، وصعد ابيض إلى المسرح واختبر وفوجئ بعد ايام برفضه الدخول إلى الأكاديمية، وبكى بكاء مريراً كما تذكر ابنته الاستاذة سعاد ابيض في كتابها «جورج ابيض وأيام لم يسدل الستار عليها» وانتظر سنة كاملة في باريس وعمل في شتى الأعمال الدنيوية من أجل تحصيل لقمة العيش وحبه للفن والمسرح، هو الحب الذي دفعه من جديد بعد مرور السنة للدخول إلى اختبارات الأكاديمية الفرنسية للفنون، ونجح في الاختبارات وبدأ في دراسة فنون المسرح على اسسها وتفوق على دفعته ونجح باستحقاق وجدارة.
وعاد عام 1910 إلى مصر وبدأ في تأسيس المسرح على القواعد العلمية السليمة، وفي 19 مارس اسس فرقته العربية على مسرح الأوبرا بعرض أول مسرحية شعرية سياسية وطنية لشاعر النيل، حافظ ابراهيم، كسر من خلالها القيود البالية وجذب إلى فنه الجماهير والمثقفين والهواة، مختصراً الطريق والزمن، واستمر في جهاده في الحفاظ على لغتنا العربية الفصحى لغة ترابط الشعوب العربية، واصبح مناراً للتمثيل المسرحي في الشرق حتى آخر ايامه.
* كاتب وناقد مسرحي