نحن وإيران وأميركا


بادئ ذي بدء، نهنئ الشعب الايراني على نجاحه في امتحان الديموقراطية لاختيار رئيس جديد بالاقتراع المباشر، ونهنئ الرئيس الايراني الجديد الدكتور محمود احمدي نجاد على خطابه الاستهلالي الذي رسم فيه عناوين ادارته للملفات خصوصا لجهة المصالحة والاصلاح في الداخل والتعاون والاعتدال في الخارج.
وبادئ ذي بدء ايضا، لا نستغرب الحملة الاميركية الفورية التي انطلقت مع اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الايرانية فهذا ديدن السياسة الاميركية الخارجية التي تعتمد اسلوب الضغط المكثف من اول الطريق للحصول على مكاسب في منتصف الطريق او في آخره، لكن الاستغراب هو تجاه بعض الاصوات في منطقتنا التي تناغمت فورا مع الحملة الاميركية متجاهلة الوجه الآخر لها الذي قد يدفعها ثمنا هي في غنى عنه.
بمعنى آخر، للعلاقات الايرانية - الخليجية تحديدا والعربية عموما خصوصية معينة استقامت بموجبها اوجه التعايش السلمي، واختلت هذه الخصوصية عندما شن النظام العراقي السابق حربا على ايران الثورة، مستفيدا من شعار «تصدير الثورة» لحجب الممانعة الشعبية والرسمية وتصعيد المشاعر القومية الى مستوى العنصرية. ولكن للخصومة الايرانية - الاميركية خصوصية ايضا، استقامت بموجبها اوجه التعايش السلبي، ولم تخل من مفاجآت ابرزها ان من يطلق عليهم جناح الصقور او المتشددين في الادارة الايرانية كانوا الاقدر على بلورة التسويات مع واشنطن وفتح آفاق (ولو محدودة) للتعاون. ولأصحاب الذاكرة القصيرة، نذكر بالحملة الاميركية (والعربية) التي سبقت وصول هاشمي رفسنجاني الى وزارة الدفاع الايرانية خلال الحرب مع العراق واعتبرت انه سيزيد النار اشتعالا من المحيط الى الخليج، كونه صاحب اكثر المواقف تطرفا وحدة آنذاك، واذا بهذا «الصقر» يعقد واحدة من اكثر الصفقات غموضا والتباسا مع اميركا، تنتهي بموجبها الحرب وتكسر ايران بعض الحصار الدولي الذي قيد حضورها، وسط ذهول اطراف عربية سارت في الحملة على ايران اكثر مما سار الاميركيون، الذين كان وزير خارجيتهم يهدد ويتوعد فيما روبرت ماكفرلين يعقد اجتماعا وديا مع رفسنجاني ويخرج بما اصطلح على تسميته «ايران غيت» او «كونترا غيت».
واليوم لا بد من الوقوف على الماضي - وهو قريب جدا- لاستخلاص الموقف المناسب، ففي ايران جرت انتخابات شارك فيها الملايين وأنتجت رئيسا جديدا منتخبا بمعركة حقيقية من دورتين كاملتين. صحيح ان بعض الرموز الاصلاحية التي تتمتع بقاعدة شعبية كبيرة منعوا من خوض السباق، وصحيح ان الكتلة الاصلاحية الانتخابية الضخمة لم تجير اصواتها لمصلحة رفسنجاني في الدورة الثانية ومارست نوعا من المقاطعة الاحتجاجية، لكن الصحيح ايضا ان السياسة الاميركية تجاه تيار الرئيس السابق محمد خاتمي لم تتجاوز الاشادة بالحيوية الشعبية للايرانيين الى التعاون الحيوي مع السلطة الايرانية التي وضعت امامها كل الحواجز المتاحة في عصر القطب الواحد، من ملفات حقوق الانسان الى الاختبارات النووية، ما اصاب «حيوية» الشارع بخيبات امل متكررة دعمت موقف المحافظين والمتشددين... ولا يمكن، ولا يجوز، الا احترام ارادة ملايين الناخبين الايرانيين والابتعاد عن كل ما من شأنه ان يفسر بأنه تدخل في شؤون ايران الداخلية، تماما كما كان كثيرون في المنطقة يطالبون اخوتنا في الجمهورية الاسلامية بالابتعاد عن كل ما من شأنه ان يفسر بأنه تدخل في شؤونهم الداخلية.
الادارة الاميركية لم تلتق الاصلاحيين الايرانيين في منتصف الطريق، كما كان الرئيس السابق يأمل، واستقبلت الرئيس الحالي براجمة تصريحات قبل ان تعرف برنامجه، واعتبرت الانتخابات الايرانية غير ديموقراطية في الوقت الذي تعيش شهر عسل مع انظمة لا دستور فيها ولا انتخابات ولا حقوق انسان، بل مع انظمة اعترفت بممارسة الارهاب الدولي. والادارة الاميركية تريد من دول الخليج ضغطا اكبر على ايران في ملفات كثيرة وهي اطلقت العنان لمسؤوليها وسفرائها بالتركيز على «الخطر الايراني» في جولاتهم وتصريحاتهم، ولا احد في دول الخليج - التي حكمتها الجغرافيا ولم يرحمها التاريخ - يريد عشر سنوات جديدة من التوتر والعداء والحروب، ولا احد في دول الخليج يجهل حجم المخاطر والنتائج السلبية التي قد تنجم عن هذه السياسة او تلك، في ايران وغير ايران، ولكن الحل - والتاريخ حاضر - لا يكون بتجييش الدول والشعوب وتعبئة النفوس تحضيرا لشيء ما قد تدفع ثمنه هذه الدولة الخليجية او تلك من علاقاتها واستقرارها وأمنها وخططها التنموية ومواردها المادية والبشرية، فيما «المحافظون الجدد» في اميركا يعقدون مع «المحافظين الجدد» في ايران تسوية «فرضتها الظروف» من اجل «انهاء حال التوتر وترسيخ الاستقرار في المنطقة»... والقاطنون في بيتهم الابيض يعلمون تماما حجم المخاطر وابعاد التوتر وامكانية الصفقات.
اميركا حرة في سياستها تجاه ايران ونحن جزء من العالم الحر نتشاطر معه القيم والمبادئ والمثل والمخاوف، لكننا نعرف ايضا ان الاستقرار جزء لا يتجزأ من السيادة، وهو ليس ورقة تؤخذ بتهديد وتستعاد بصفقة.
جاسم بودي