هكـذا ننزع سلاح «حزب الله»


انتظر العالم شهرا قبل أن يجتمع على كلمة سواء في ما خص المسألة اللبنانية. شاهد المجازر «مباشرة وعلى الهواء» فيما إسرائيل تحاصر حتى الهواء في ذلك البلد الذي أعاده أولمرت عشرين عاما إلى الوراء. وبعدما التأم مجلس الأمن مكتفيا - على استحياء - بألف ومئتي شهيد وآلاف الجرحى ومئات آلاف المهجرين، تمخض الالتئام عن قرار غريب عجيب نفذت منه بنود غير معلنة فيما بقيت بنوده المعلنة من دون تنفيذ.
بمعنى آخر، انتشر الجيش اللبناني في الجنوب وعلى الحدود مع سورية فيما تأخر وصول القوة الدولية وتلكأت الدول التي كانت من أشد المتحمسين لانتشارها في المساهمة في تشكيلتها. بقي الحصار الإسرائيلي للمرافق ووضعت شروط مخفية لعودة الحياة الطبيعية إلى المطار والموانئ أهمها انتشار قوات دولية فيها. بدأ عدد من دول المنطقة إجراءات خاصة لتفتيش الطائرات وهي في طريقها من دولة إلى أخرى. استمرت إسرائيل في احتلالها لجزء من أراضي لبنان وفي انتهاكها للقرار الدولي من خلال إطلاق النار واستباحة الأجواء وعمليات الإنزال. تحدثت الأمم المتحدة عن فراغ أمني لمدة تتراوح بين شهر وثلاثة اشهر. اشترط عدد من الدول انتشار قوات أممية على الحدود اللبنانية - السورية فردت سورية بأنها ستغلق الحدود إن حصل ذلك... الأمثلة تطول وخلاصتها أن ما كان يجدر به أن يحصل لم يحصل فيما حصلت خطوات أخرى وكأنها ترجمة لقرار آخر غير الـ 1701.
كل هذه الفوضى العالمية تتم تحت عنوان واحد مهما حاول الكثيرون تلطيفه: «نزع سلاح حزب الله». فإجراءات الجو ومراقبة الحدود تهدف إلى ضبط وصول السلاح ومحاصرة مصادره، وعدم وصول القوة الدولية مرده إلى الخوف من انتشارها بين مخازن أسلحة مخفية ونيات مخفية وبين قوات الجيش اللبناني، واستمرار إسرائيل في انتهاكها للقرار والتصرف وكأنها غير معنية به ناتج عن الهلوسة التي أصابت قادتها من حجم السلاح الذي أذاقها ما أذاقها ونوعيته وكفاءة المقاتلين من رجال المقاومة، بل زاد من هلوستها اكتشاف مناظير ليلية متقدمة في مواقع للحزب مصدرها بريطانيا إضافة إلى احتمال الكشف قريبا أيضا عن ضرب المقاومين لبعض الدبابات الإسرائيلية بصواريخ أميركية الصنع حصل عليها الحزب ايضا بطريق غير مباشر مثلما حصل على المناظير البريطانية. اضافة إلى ذلك فإن قضية سلاح «حزب الله» تشكل جزءا كبيرا من الاحتقان الداخلي اللبناني وموضوعا أساسيا للحوار حول مستقبله.
كل هذه الفوضى الدولية، وكل تلك التكاليف من تشكيل قوات ومراقبة اجواء واستفزاز هذه الدولة او تلك واحتمال اشعال الحرائق في مناطق اخرى، وكل هذا الاستنفار الإسرائيلي المصاحب بشعور بالمهانة يترجم اعمالا عدوانية على الدوام، وكل المحاولات لتكريس أمر واقع غير منصوص عليه في القرار الدولي... يمكن ان تحل بكلفة أقل ومناخ أفضل وفاعلية أكثر ونجاح أكبر، فقط إذا أراد أصحاب القرار في العالم رؤية الأمور كما هي وساروا إلى حيث يجب ان يسيروا لا إلى الوجهات المعاكسة كما جرت العادة.
من دون فلسفة او انحياز او تنظير، نورد حادثة واحدة للدلالة على ما نقول. فقبل أيام اطلق الجيش الإسرائيلي النار على ما افترض انهم عناصر من «حزب الله» واتضح لاحقا - وكالعادة - أنه يكذب، لكن الحادثة تستدعي التوقف عندها مليا لأنها تحمل تفسيرا واحدا مفاده أن إسرائيل تقول لـ «حزب الله» (الذي التزم القرار الدولي كجزء من فريق حكومي لبناني) إن اطلاق النار على عناصره في ظل السيادة اللبنانية ممثلة بانتشار الجيش وفي أراض يقف عليها رموز السيادة الدولية ممثلين بالقبعات الزرق، يعني أن ضمانته الوحيدة للبقاء والعمل هي... سلاحه.
بدل كل هذا التشابك الدولي الذي يربط سلاح الحزب بأجندة سورية وأخرى ايرانية، وبدل كل هذه الحرب التي قيل انها خيضت اقليميا وبالواسطة، وبدل كل الحروب المستقبلية التي قد تفاجئنا بروابطها النووية أو «الشرق اوسطية»، وبدل كل التكلفة الأميركية خصوصا والدولية عموما بسبب التأييد الاعمى لإسرائيل والنتائج السياسية والاخلاقية المترتبة عن ذلك من «القنابل الذكية» وتبريراتها الغبية إلى الكره المتنامي والحقد المتنامي والتطرف المخصب للإرهاب... بدل ذلك كله نقول إن الطريق الوحيد لنزع سلاح «حزب الله» هو بانتفاء مبرراته.
لنكن صريحين أكثر، ماذا يعني أمنيا واستراتيجيا وسياسيا وعسكريا احتفاظ إسرائيل بعدد من الأسرى لا يشكلون قيمة أمنية لها في الوقت الراهن لأنهم أسروا من زمن سابق وصراع سابق؟ وماذا يعني إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بعدة كيلومترات من الأرض هي مساحة مزارع شبعا خصوصا ان إسرائيل تعترف بأنها أرض محتلة؟ ولماذا لا يدخل العالم البيوت من أبوابها بدل هذا التشابك غير المسبوق في المنطقة سياسيا وعسكريا ويطلب إلى إسرائيل إطلاق الأسرى والانسحاب من المزارع؟ وهل عائد البقاء في المزارع سياحيا ومائيا أكثر من عائد الحرب والصواريخ والأسر والخطف؟ وهل تكاليف الحروب واستمرار عدم الاستقرار إقليميا ودوليا أقل من تكاليف الضغط على إسرائيل؟
كل هذا الاستنفار الدولي والتوتر الإقليمي سببه أن البوصلة الضائعة صارت خريطة طريق، فإذا كان إطلاق الأسرى والخروج من مزارع شبعا هما المدخل الأساسي لانتفاء مبرر وجود سلاح المقاومة فهذا المدخل جدير بأن يستقبل مبادرات دولية جدية بدل الرهان على واقع عسكري مختلف يفرض شروطا سياسية تؤدي في النتيجة إلى الغاية نفسها وتكون أثمانه أكثر من باهظة على الجميع. وكان يمكن مثلا للإدارة الأميركية، التي خصصت 230 مليون دولار للمساعدة في إعادة إعمار ما هدمته آلة الحرب الإسرائيلية في لبنان، أن تدفع مبلغا مماثلا لإسرائيل قبل حربها نظير «خسارتها» المفترضة لعائدات سياحية ومائية من مزارع شبعا رغم أن المحتل محتل ولا يجب - بحسب القانون الدولي - ان يكافأ على احتلاله.
المدخل واضح والقرار الدولي 1701 اشار إلى وجهته في ثنايا عدد من بنوده. ولكن الولايات المتحدة لا تريد في ما يبدو ان ترمق هذا المدخل بنظرة أو تعترف بوجوده إمعانا في ربط القضايا وتصفية الحسابات ايضا... بالواسطة.
جاسم بودي