سنة أولى ... ماذا؟


سنة أولى حرب، سنة أولى تحرير، سنة أولى احتلال، سنة أولى تغيير، سنة أولى فوضى، سنة أولى خوف ... تتوالى التصنيفات والهم واحد.
عام مضى ، يستحثنا على التفكير بعقلنا لا بعاطفتنا بعدما قسمتنا العواطف فريقين، وعندما نعتصم مجددا بحبل العقل سنكتشف أيضا أن الآراء تتباين... والهم واحد.
ثلاث مساوئ اجتمعت في أرض العراق في الحرب وقبلها وبعدها: أسوأ الديكتاتوريات مع أسوأ التحرير مع أسوأ المقاومات. فلا يجادل اثنان في أن جزءا من وحشية النظام سببها رفع صدام حسين نفسه إلى مرتبة القداسة فحبه إيمان وبغضه كفر، لكن «التحرير» الأميركي أيضا اعتمد على شعارات وفرضيات ونظريات تحظى برتبة القداسة مثل «الجنة الديموقراطية» الموعودة و«من كان معنا فهو في معسكر الخير ومن كان ضدنا فهو في معسكر الشر» و«البلد - النموذج». وعند التجربة اتضح أن السلوك الأميركي على امتداد عام لا يختلف عن سلوك أي نظام عربي أو عالمثالثي انقلابي يعتمد منهج «التجربة والخطأ» فيحيل البلاد والعباد حقل تجارب لهذه الخطة أو تلك، وهنا، في العراق تحديدا، يضيق المكان لرصد التغييرات التي أجراها الأميركيون من شكل السلطة إلى شكل الدستور مروراً بحل الجيش وانفلات الوضع الأمني وانقسام الوضع السياسي . فبتنا وعلى امتداد عام نعيش شعارات «مقدسة» عن الحريات والديموقراطية والمستقبل الزاهر تليها شعارات أكبر عن منطقة جديدة من حدود الصين إلى موريتانيا، في حين يعترف الأميركيون أنفسهم إنهم خارج الخطة العسكرية لإطاحة صدام لا يملكون خططا أخرى محكمة مدروسة اللهم باستثناء الاجتهاد اليومي للتعاطي مع الأحداث ومواكبتها وربما الاكتفاء بردود الفعل حيالها.
وفي العراق أسوأ أنواع المقاومة ، ففتاوى ضرب «المحتل» ودخول الجنة تختلط بفتاوى أخرى تبيح قتل المدنيين، وقد نصل إلى مرحلة شبيهة بما جرى في الجزائر حين أفتى أمراء الجماعات الإسلامية بقتل الأجنة في بطون أمهاتها استناداً إلى تفسيرهم الشرعي الخاص حول هلاك ما يعتبرونهم مشركين مع نسلهم . وها هي المقاومة تؤسس لحالة من الانقسام والطائفية والفوضى تعطي الأميركيين مبررات أكبر للبقاء كما تمنحهم في الوقت نفسه مخرجا لتغيير شعاراتهم عبر القول إن من لا يريد التغيير للأفضل لا يستحق أي جهد خارجي في هذا المجال.
بين أسوأ الديكتاتوريات وأسوأ التحرير وأسوأ المقاومات تبدو مسؤولية الأميركيين هي الأكبر سابقا ولاحقا. فأسلحة الدمار الشامل - التي لم يعثر عليها - والمقابر الجماعية - التي عثر عليها - تطرح سؤالا عن خلايا الحقوق الإنسانية التي كانت نائمة في الضمير السياسي الأميركي واستيقظت فجأة، وعن تأييد الولايات المتحدة لهذا النوع من الديكتاتوريات كرمى لبائعي السلاح وشركات النفط وأملاً في توظيف هذه الأنظمة في معارك هنا وهناك تضعف أسلوب المواجهة مع إسرائيل من جهة وتوسع وجودها ومصالحها من جهة أخرى.
مليون عراقي دفنوا جماعيا وقتلوا بأسلحة بدائية ومتطورة لا بد أن يحرروا العقلية الأميركية التي غلبت المصالح على المبادئ ، هذه العقلية التي لم تتحرك إلا عندما ارتد عليها بعض ما زرعته في المنطقة وجوارها، أحست بجرحها ولم تقف لحظة أمام الجرح الكبير النازف منذ عقود من صدور العرب والمسلمين الذين عانوا ظلم ذوي القربى بدعم العم سام وظلم إسرائيل بدعم العم سام وظلم التطرف في فترة من الفترات... وبدعم العم سام.
عام مضى، صدام في سجن أميركي صغير والأميركيون في سجن عراقي كبير، ولمواجهة أسوأ الديكتاتوريات لا بد من العمل على تصدير افضل ما في الديموقراطيات: المؤسسات السياسية والاجتماعية المتقدمة، القانون والقضاء، حقوق الإنسان، الحريات ، المجتمع المدني الملتف حول أفكار عصرية تنموية علمية.
لا يريد العراقيون طعاما ومساعدات وصراعات على مناقصات ففي بلدهم من الثروات ما يكفي لإغراق المنطقة. يريدون إدارة نظيفة لهذه الإمكانات في بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية متطورة تكفل لهم توزيعا عادلا للتنمية. هذا ما يريدون أن تصدره لهم أميركا لا الانهماك في تحويل العراق مختبرا تعد فيه الخطط للتصدير إلى آخرين فتتغير الخرائط وتشتعل الحرائق. وهنا تحديدا تكمن مسؤولية العراقيين الذين يلملمون جراحهم وأوراقهم وتاريخهم، فهم أمام اختبار حقيقي ومصيري إما أن يظهروا فيه وعيا استثنائيا يقودهم إلى البديل الديموقراطي الوطني وإما تجرفهم لعبة الانقسامات والاستقطابات فتعتقد الطوائف والمذاهب والأعراق والقبائل انها انتصرت في وطن... منهزم.
عام مضى وكأن عدوى النار افضل من عدوى الاستقرار، فالتعامل الإقليمي أيضا مع العراق بقي في دائرة الأرباح والخسائر الشخصية وبقي ورقة في ملفات تفاوض هذه الدولة أو تلك مع الأميركيين، أما الشارع العربي الذي لم تهزه المقابر الجماعية أو منعته انظمته من التحرك في هذا المجال الانساني خوفا من ان يفسر انه ضد سياساتها او تأييدا لسياسة الاميركيين فقد بدأ يدرك ان نضاله من اجل قيام مجتمع مدني حقيقي يقود الى مؤسسات ديموقراطية اجدى من النضال بالريموت كونترول او بالاندفاع ضد سياسات خارجية قد تعود انظمته الى تبنيها.
عام مضى والعرب هم الغائب الاكبر عما حصل في العراق ويبدو انهم سيغيبون ايضا عما يرسم للمنطقة من خرائط، مكتفين - كالعادة - بالرفض والتنديد والتكتيكات الظرفية وعاجزين عن المواجهة والاصلاح الذاتي.
كل «تحرير» ونحن ...؟
جاسم بودي