«إيباك» عربية؟


كلما حصلت ازمة عربية او كارثة او مشكلة، ذهب الوزراء العرب الى جامعتهم للبحث والتقرير، وذهب الشعب العربي الى خيبة الامل. وكلما خرجت المشاورات وآفاق الحلول من الجامعة العربية الى منظومات اخرى، استبشر العرب بنهاية للازمة حتى ولو لم تلب تلك النهاية تطلعاتهم.
حقيقة مؤلمة لكنها... حقيقة، ولا لزوم لتعداد الامثلة فقد مل القارئ وصار الحديث عن جامعته مضيعة للوقت. تغيرت آليات العمل في كل الدنيا وبقيت الآليات العربية صدئة مكبلة لسبب بسيط هو ان الجامعة عبارة عن تجمع لانظمة تراعي مصالحها وتقف عند خواطرها وليست اطارا يلبي رغبات الشعوب وتطلعاتها. اصبحت اشبه بنقابة لاصحاب العمل لا للعمال.
في الخمسينات من القرن الماضي توقف عدد من المفكرين والاستراتيجيين الاسرائيليين عند الموقف الاميركي المناقض لمواقف دولتهم وفرنسا وبريطانيا من العدوان الثلاثي على مصر آنذاك. كانت اسرائيل دولة فتية لم يكتمل عقد من عمرها ومع ذلك شعرت ان تحركها الخارجي ناقص رغم التأييد الكبير الذي كانت تحظى به في الولايات المتحدة ورغم التعاطف العالمي غير المسبوق مع معاناة اليهود بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت نتيجة التحرك الاسرائيلي ولادة منظمة «ايباك» (لجنة الشؤون العامة الاميركية - الاسرائيلية) التي باتت تصنف اليوم اقوى لوبي موجود في اميركا بعد «الاتحاد الاميركي للمتعاقدين»، وهي منظمة قامت على فكرتين رئيسيتين:
الحضور الدائم في دوائر القرار الاميركي من خلال كل الوسائل مثل الضغط والاغراء والمساعدات الانتخابية والانتشار في مراكز البحوث والدراسات ووسائل الاعلام.
والثانية تجميل صورة اسرائيل بشكل دائم لدى الرأي العام الاميركي وقياداته من خلال تسهيل تبادل الزيارات لمسؤولين ومفكرين واعلاميين واقتصاديين وغيرهم.
وعلى امتداد نحو 50 عاما نجحت «ايباك» كمنظمة في تحقيق ما عجزت عنه اسرائيل كدولة على صعيد الداخل الاميركي. كانت الخلافات تشتد عند بدء عملية السلام في مدريد بين البيت الابيض وتل ابيب وكان لوبي «ايباك» يتحرك بين النواب والشيوخ فيضغط هؤلاء على الادارة لتغير موقفها، بل صارت المنظمة تصنع السياسات الاميركية الرسمية في بعض الاحيان من خلال تحالفها مع رموز اليمين المحافظ على فرضيات مواجهة الارهاب والتحديات الدولية الجديدة... ومن ينسى يوم توجه ارييل شارون بالشكر العميق لاعضاء المنظمة لنجاحهم في تشبيه عمليات المقاومة في فلسطين بعمليات تنظيم «القاعدة» ضد المدنيين حول العالم وقدرتهم على تعميم ذلك التشبيه في وسائل الاعلام الاميركية ودوائر صنع القرار.
لسنا في وارد تعداد نجاحات «ايباك» داخل اميركا، ونكتفي بأنها تضم عددا من الموظفين لا يتجاوز المئتين، وان موازنتها لا تتعدى في افضل الاحوال الـ 50 مليون دولار، وان عدد اعضائها المسجلين يتراوح بين 50 و100 الف عضو بين نصير ومنتسب. ويكفي ان نقول ان نسبة الناخبين اليهود في الولايات المتحدة لا تتجاوز الاربعة في المئة في افضل الاحوال... ومع ذلك تسيطر «ايباك» على آلية الانتخابات في الكثير من المناطق المهمة فتسقط مرشحين وتوصل آخرين الى مناصبهم وتتابع ملفات كل مرشح بدقة وتراقب اداءه المتعاطف او «المتخاذل» مع اسرائيل.
خمسون عاما من معرفة أين يصنع القرار وكيف يصنع القرار في الولايات المتحدة. خمسون عاما من اعداد قيادات ودعمها بدءا من المراحل الجامعية وانتهاء بوظائفها سواء كانت الوظيفة اعلامية او سياسية او ادارية في احد مراكز الابحاث والدراسات الكبرى. خمسون عاما من تقديم الدعم لنواب وشيوخ ومساعدتهم ماليا وسياسيا في دوائرهم الانتخابية ومساءلتهم لاحقا عن رد الجميل. خمسون عاما من التداخل في الوزارات الكبرى والمؤسسات الكبرى والصحف الكبرى والتلفزيونات المحلية والعامة الى درجة يجد معها كاتب تعليق في صحيفة متضامن مع العرب نفسه في اليوم التالي في مواجهة هجوم يخوضه كتاب في صحف اخرى بعضهم بتوجيه وبعضهم آليا حسب قناعاته التي تكونت من الحضور الدائم للاسرائيليين في توجهاته وافكاره. خمسون عاما من ترسيخ قناعة كبيرة مفادها ان اميركا واسرائيل تتشاطران القيم نفسها وتواجهان (تحديدا بعد 11 سبتمبر) التهديدات نفسها.
200 موظف وخمسون مليون دولار و100 الف منتسب ليست العوامل الاساسية في نجاح «ايباك» بل ربما كانت العوامل الاكثر تواضعا في مسيرة هذه المنظمة، ويستطيع اي متمول عربي (كي لا نقول اي حاكم عربي) ان يقدم اكثر من هذه العناصر اذا فكر في العمل بالطريقة نفسها، كما تستطيع اي منظمة عربية ان تجمع اكثر من 100 الف منتسب اذا توافرت لها نية العمل السليم. العوامل الاساسية في نجاح «ايباك» تكمن في القدرة الرهيبة على التغلغل في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والاعلامي والسياسي الاميركي والتفاعل مع هذا النسيج باللغة والعادات والتقاليد والقيم التي يفهمها ويعيشها الاميركي نفسه، فالاميركيون ليسوا اشرارا لاننا نرى في بعض قادتهم شرا، وهم ليسوا منحازين لاسرائيل لانهم يكرهون العرب بالطبيعة بل لان العرب فاشلون في تقديم قضيتهم العادلة فيما اسرائيل ناجحة في الترويج لقضية ساقطة.
ولنا في العدوان الاسرائيلي الاخير على لبنان امثلة:
هل وضع ثري عربي واحد او وزارة اعلام عربية اعلانا مدفوعا واحدا في صحيفة اميركية يتضمن صورة لمجزرة الاطفال في قانا؟ وهل اشترت سفارة عربية دقيقتين من البث في اي محطة تلفزيونية مهمة لعرض الاوضاع المأسوية التي عانى منها اللبنانيون بسبب عدوان اسرائيل؟
هل عقد سفراء عرب في واشنطن اجتماعات مع اهم الاعلاميين وكاتبي التعليقات ليشرحوا لهم حقيقة الموقف ويتمنوا عليهم ان ينقلوا بحياد (فقط بحياد) صورة ما يجري؟
هل تحركت الهيئات العربية الفاعلة مع هيئات الاغاثة والمنظمات الانسانية الاميركية لدفعها الى لعب دور فاعل يوقف الاعمال الحربية ولو بصورة موقتة ويسمح بأعمال الاغاثة؟
هل وقع آلاف العرب الاميركيين عرائض لادانة العدوان ووجهوها تحديدا الى النواب الذين انتخبوهم وطالبوهم بموقف وربطوا ذلك كله بالتصويت في الانتخابات المقبلة؟
هل تلقت وزارة الخارجية الاميركية مئات آلاف الرسائل من عرب اميركيين وغير اميركيين (كما فعل الاسرائيليون) تطالب بموقف عادل من النزاع الحاصل؟
هل وجهت دعوات لمجموعة اميركية تضم اعضاء من المجلسين وشخصيات قانونية ومن لجان وهيئات حقوق الانسان ومواطنين عاديين لزيارة اماكن القصف والدمار في لبنان والمستشفيات والمقابر الجماعية؟
لائحة الاسئلة تطول، وقد تكون هناك اجابات وقد لا تكون، لكن شيئا لا يمنع من اقامة منظمة عربية- اميركية على وزن «ايباك» تتعامل بجدية ومسؤولية مع دوائر القرار في الولايات المتحدة ومؤسسات الرأي العام، فالامكانات موجودة، والطاقات العربية - الاميركية الفكرية والمالية موجودة، ولغة التخاطب مع المجتمع الاميركي صارت موجودة، والاهم من ذلك كله ان قضيتنا العادلة موجودة والانتهاكات والاساءات الاسرائيلية دائما موجودة.
نعلم اننا لسنا اول من طالب بذلك، ونعلم اننا قد نكون اهدرنا الوقت على موضوع يستحيل ان تتفهمه العقلية العربية، ونعلم ان البعض سيمر على ما قلناه مرور الكرام وينتظر الاجتماع المقبل للجامعة العربية ليراقب الخلافات، ويستمع الى الشعارات الطنانة الرنانة المنددة باميركا واسرائيل، ويتمتع بمتابعة انقسامات كالتي حصلت عند طرح مشاركة العرب في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب... حسبنا اننا حاولنا وحسبنا اننا تقدمنا ولو اقنع ذلك قارئا واحدا.
جاسم بودي