... ومع ذلك تفاءلوا بالعراق تجدوه


في العراق فتنة طائفية وعرقية، مؤشرات حرب اهلية، إرهاب منظم، اخطاء دولية عامة وخطايا أميركية خاصة، مخاوف على الامن والاستقرار والوحدة، رعب في دول المنطقة من تصدير الفوضى والانقسامات، تدخلات من الجوار لمصالح خاصة... الى الكثير الكثير مما تزخر به يوميات الدم والقتل والتفجير.
كل ذلك يحصل، صحيح. كله يخيف العراقيين والكويتيين والسوريين والايرانيين والاتراك والسعوديين والعالم، ايضا صحيح. لكن 16 مارس، في القراءة السياسية، تاريخ يدفعنا الى ترك عادة الوقوف على اطلال المآسي وادمان الحزن والنظر بعين اخرى الى ما يمكن ان يؤسس له مستقبلا.
في 16 مارس 2006 انعقد اول برلمان عراقي منتخب لفترة تشريعية كاملة بعد الجمعية التأسيسية التي مارست مهماتها ايضا بتكليف شعبي من الناخبين. ملايين العراقيين تمثلوا امس في تجربة ديموقراطية لم يعرفها العراق لعقود ولم تعرفها ايضا دول اخرى في المنطقة. تجربة كفيلة - اذا عرف اهلها الطريقة المثلى لصيانتها - بتطمين العراقيين ودول الجوار الى ان زمان القرارات المتهورة والانتحارية ولَّى، وإلى ان العراقيين التزموا نهائيا خيار التنمية والتطور والعلاقات الحضارية في ما بينهم من جهة وبينهم وبين الدول المجاورة والعالم من جهة اخرى.
منذ عقود والعراقيون خارج سطوة النظام يقولون انه لو كان في العراق برلمان منتخب وسلطة سياسية وصلت الى مقامها بالوسائل الديموقراطية لما حصلت المعارك ضد الاكراد والمؤامرات ضد سورية والحرب على ايران ومجازر حلبجة والتوترات مع تركيا وغزو الكويت ومقابر اهل الجنوب الجماعية. وها هم هؤلاء انفسهم يعودون حكاما بتفويض شعبي فيما النظام خلف قضبان العدالة، ولا بد ان سنوات النضال والمنافي وواقع الحال الذي وجدوه بعد سقوط بغداد تثبت اكثر ما كانوا ينادون به وما كان الآخرون يتمنونه لهم.
ودخان التفجيرات يجب الا ينسينا ايضا وجها آخر من الوجوه الحضارية التي يمكن ان تبنى عليها اعمدة العراق الجديد، وهو الوجه الذي شاءت الصدف ان يسبق جلسة البرلمان الاولى والمتمثل بمحاكمة الرئيس صدام حسين وعدد من المسؤولين في مجزرة الدجيل، ففي تلك المحاكمة كل ما هو نقيض النظام السابق الذي حاكمت محكمة «ثورته» 148 شخصا في يوم واحد وحكمت عليهم بالاعدام فيما يقف مرتكبو المجزرة لاشهر امام محكمة حقيقية لا ثورة فيها ولا ثوار، وامام اجهزة اعلام تنقل كلامهم بحرية الى كل انحاء العالم بما في ذلك الكلام المندد بالقاضي والمحكمة والعهد الجديد... مشهد لو خطر في تفكير عراقي قبل سنوات لاعتبر ضربا من خيال، ولو طالب فيه عراقي قبل سنوات بالنسبة الى محاكمة المعارضين للنظام لاعتبر ضربا من خيانة.
يبقى ان التجربة بحاجة الى الكثير الكثير:
الى وعي عراقي بالدرجة الاولى بأن ترسيخ الديموقراطية لا يستقيم من دون ترسيخ الامن وان ترسيخ الامن لا يستقيم من دون وحدة وطنية.
والى وعي بعض دول الجوار بأن عدوى الديموقراطية في العراق افضل في كل المقاييس من عدوى الفوضى والتفجيرات والانقسامات.
والى وعي الاميركيين بأن مجموعة الخطوات التي اتخذوها في العراق بقصد ومن دون قصد أساءت الى العراق واليهم والى دول المنطقة، وفي رأس هذه الخطوات قرار حل المؤسسات العسكرية والامنية بشكل ارتجالي وتسليم امن البلاد والعباد للميليشيات والامن الذاتي للاحياء والمناطق... والطوائف.
والى وعي الجميع بأن العراق العظيم انما هو فعلا عظيم ليس بآلة الحرب المهولة التي دمرته بل بطاقاته البشرية وثرواته الطبيعية وارثه الحضاري وعلاقاته السلمية وتعاونه في الداخل والخارج لمواجهة تحديات التنمية والوصول الى مستقبل افضل على كل المستويات.
ديموقراطية على المستوى السياسي، مركزية على المستوى الامني، وحدة على المستوى الوطني، تنمية متوازنة على المستوى الاقتصادي، علاقات حضارية على المستويين العربي والدولي، كلها خطوات تشكل خريطة الطريق الى عراق حر عزيز عظيم مزدهر لا مكان فيه لا لاحتلال اميركي للارض ولا لاحتلال ديكتاتوري للسلطة والشعب.
جاسم بودي