ارفعوا أياديكم عن السياسة الخارجية

تصغير
تكبير
قدر الدول الصغيرة الحية أن تصبح سياستها الخارجية جزءا من ثروتها ودرعا أمنيا لحدودها وحصنا لاستقرارها، فهذه الدول التي لا تملك الجيوش الجرارة ولا المفاعلات النووية ولا قدرات الردع العسكرية التقليدية الضخمة تملك في المقابل دورا كبيرا في حقن النزاعات وتخفيف التوترات وتثبيت الاستقرار واقناع الدول الداخلة في «الدائرة الحمراء» باستباق الخطر والالتفاف عليه وإبطال ذرائعه، وقبل هذا وذاك تملك لغة المخاطبة الحضارية العصرية مع الآخر بما يؤهلها، وهي المالكة لقرارها، بأن تكون صوتا قويا لأبنائها ولمحيطها وصورة حية لقضيتها... هكذا كانت الكويت، الدولة التي سبق خطابها الخارجي تطورات كثيرة وتغيرات أكثر، فدفعت ثمن توازنها وعدم انحيازها ودورها الإيجابي البعيد عن التشنج والانفعال والشعارات، رغم أن دولا كثيرة عادت وتبنت نهجها بعدما هاجمته تارة وهندست له الدسائس مرارا. وهكذا كانت الكويت، الدولة التي حملت بصدق لواء القضايا المحقة ولواء المصالحات العربية ولواء الدعم الفعلي لا اللفظي للاشقاء والاصدقاء ولواء التحاور مع الآخر من موقع الحليف السيد المستقل . ولأنها كانت صوتا متقدما على الآخرين لا ورقة في ملفاتهم، حاول الآخرون تطويع الدور وخنق الصوت بمختلف الوسائل، ثم تقاطعت عوامل الطمع والتوسع والضم والغدر مع العوامل السابقة فحملت المؤامرة الكبرى وأنجبت الغزو وطغى الشعار المزيف الهادر فترة ثم انحسرت موجته، وعاد للكويت دورها وصوتها بفضل عوامل كثيرة جوهرها ذلك الزرع الكبير الذي بذرته السياسة الخارجية في حقول الآخرين فحصدت تضامنا قل نظيره. مناسبة الحديث ما نلمسه اليوم من محاولات لإقحام السياسة الخارجية الكويتية في سجالات داخلية، ومساواة هذه السياسة بالملفات الاخرى التي تمتلئ بها ساحات التراشق بين السلطتين مثل المناقصات والمشاريع البلدية والتوظيف والطرق وغيرها. وسواء غاب عن البعض أم لم يغب ان السياسة الخارجية لبلد مثل الكويت هي جزء لا يتجزأ من امنه القومي فلا بد من الدعوة الى رفع اليد عنها وسحبها من السجال الصغير وابقائها في منأى عن تجاذبات الداخل. سيقول كثيرون ان الديموقراطية لا تتجزأ بين داخل وخارج، هذا صحيح، لكن الديموقراطية ايضا مسؤولية والانسان المسؤول يعرف ان لكل مقام مقالاً وان الامور اذا بحثت خارج الاقنية المحددة لها يمكن ان تتعقد لا أن تحل. وسيقول كثيرون إن الصمت لا يجوز إزاء معلومات تتحدث عن عدائية من هذا الطرف او ذاك، وهذا ايضا صحيح، لكن المعالجة الهادئة االمثمرة أفضل من الصخب المؤذي خصوصا اذا لم يكن مستندا إلى وقائع ثابتة، كما ان شكل إثارة الموضوع يصبح ايضا موضع خلاف فيتحول السجال الى سجال بين «حريصين على كرامة الكويت» وبين «متقاعسين في هذا الحرص» أو بين موزع لشهادات الوطنية وبين متلقٍ لها، وكأن الكويت بحاجة إلى هذا الفرز في اوقات السلم بينما عجزت الحرب في إحداثه. وسيقول كثيرون إن الاخطاء تتراكم وان الكويت تسمع وترى ولا ترد كأنها «طوفة هبيطة»، وهذا غير صحيح، فالترفع من شيم الكبار والتصرف مع القضايا استنادا الى احجامها الحقيقية وتقييمها في ميزان الثوابت اجدى وافعل، زد على ذلك ان غالبية الحملات او ردود الفعل (من كل الجهات وليس النيابية فقط) بدأت تخلط بين الشعوب والانظمة، بين الموقف الرسمي (او شبهة الموقف الرسمي) والموقف الشعبي، بين خلاف في وجهات النظر داخل غرف الاجتماعات وبين عدائية غير موجودة في مجمل العلاقات مع هذه الدولة اوتلك، بين تظاهرة صغيرة فيها عشر لافتات وعشرة هتافات وبين موقف مئات الالوف القابعين في منازلهم يترقبون نهاية واقعية لتطورات مجنونة... ويتراكم كل ذلك الخلط لنتحف العالم بخطاب عنصري لا يشبهنا في شيء ولا يخدمنا في شيء ولا يفيد الا المتضررين من الجانب المشرق للرسالة الكويتية في العالم. والشيء بالشيء يذكر، فمثلما نطالب برفع الايدي عن السياسة الخارجية، نطالب ايضا الامناء على هذه السياسة بالاستمرار في النأي بها عن سجالات الداخل مهما حاول الآخرون جرهم اليها وبالحفاظ على الارث والتقاليد والثوابت، ففي ايديهم سلاح تتلاشى فاعليته إذا استخدم في غير وجهته. ديموقراطية الكويت وسياستها الخارجية جناحان لا تحلق رسالتها من دونهما، جناحان متصلان بجسد واحد يخطئ من يظن انه قادر على تحقيق انتصار خاص بإنهاك الجناح الآخر، ويخطئ اكثر من يظن انه يستطيع العلو كثيرا إذا حلق... خارج مداره. جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي