أميركا والسعودية... نريد فعلا أن نصدق


نريد أن نصدق أن الهجوم على المملكة العربية السعودية في الولايات المتحدة هو «كلام جرايد»، وأن تعرض النواب الأميركيين للرياض يمثل وجهة نظرهم وليس ملزماً للحكومة، وأن دراسات وتوصيات مراكز الأبحاث والمؤسسات الاستشارية تعبر عن أصحابها لا عن الأميركيين وإدارتهم.
نريد فعلاً أن نصدق...
لكننا تعلمنا، من النظام الأميركي نفسه، الفرق بين الهجوم الإعلامي والحملة السياسية، وبين النقد النيابي الظرفي وتمهيد الأرضية لاحقاً لاتخاذ قرارات، وبين الدراسات والتوصيات والاستشارات غير الملزمة وبين تحضير الرأي العام وتعبئته.
ونريد فعلاً أن نصدق أن العلاقات التاريخية بين الرياض وواشنطن أقوى من أن يهزها مقال أو تصريح أو دراسة...
لكن واشنطن بعد 11 سبتمبر هي غير واشنطن قبل 11 سبتمبر، سياسة واستراتيجية وأهدافاً وتطلعات.
كل المقاربات الخارجية الأميركية انتقلت إلى موقع انفجار برجي التجارة، من العلاقات التجارية مع روسيا والصين إلى قضية فلسطين، وأصبحت «الحرب على الإرهاب» هي السياسة والاستراتيجية والصداقات والمصالح والعداوات، ولأنها مقاربات فرض إجرام 11 سبتمبر أن تكون سريعة وغريبة على إيقاع المبادئ السياسية التاريخية الأميركية، دخل على خط القرار من دخل، وأقنع الأسد المهتم بجرحه أن يهتم أكثر بجرحه لا... بعقله.
هذه بداية الطريق إلى المنطقة.
لم تعد «القاعدة» مسؤولة عن الإرهاب في الأدبيات الأميركية، ولم تعد الأنظمة، أو بعضها، مسؤولة عن إيواء «القاعدة»، والمنظمات الإرهابية الأخرى، أصبحت المجتمعات بأكملها في سلة الإدانة، وأصبح الدين هو القاعدة لهذه السلّة.
وفجأة، تلازمت مسارات «التحرير» دفعة واحدة: «تحرير» أفغانستان مع «تحرير» العراق، مع «تحرير» المجتمعات من «الديكتاتورية»، مع «تحرير» المناهج من «التطرف»، مع «تحرير» الدين من «الغلو»... إلى آخر المعزوفة.
ولو نظرنا بتمعن ( ونقولها من موقع الصداقة للولايات المتحدة ) إلى كل هذه «الأهداف» لوجدنا وراءها دعماً أميركياً أو دوراً أو تقاعساً.
فبعض عوامل العنف والتطرف في بيئتنا موجود ولا يمكن إنكاره، لكن اشتعال هذه العوامل ما كان ليتم لولا الوليد الإسرائيلي وحبله الأميركي غير السري... والشرح يطول.
والحركات الأصولية المسلحة، وأخطرها على الإطلاق ما أنتجته أفغانستان، ما كان يمكن أن تنمو لولا استخدامها أو تشجيعها أو غض النظر عنها في إطار الحرب الباردة التي استمرت لعقود... والشرح يطول.
وأنظمة العنف والإرهاب ما كان يمكن أن تستمر لولا تغليب الدول الكبرى خطاب المصالح على خطاب المبادئ، ولو تم تفعيل مبدأ حقوق الإنسان وسحبه من «بورصة الابتزاز» لما وصلنا إلى مرحلة التباكي على عشرات آلاف العرب والمسلمين قتلتهم أنظمتهم بأسلحة غربية... والشرح يطول.
أين تقع المملكة العربية السعودية في تلك الخريطة؟
هي في صلبها، فالمملكة مثلت الإسلام المعتدل في المنطقة وفي العالم، ومثلت، ولا تزال، السياسة العاقلة في الصراع العربي-الإسرائيلي، فهي لم تدع إلى رمي إسرائيل في البحر، بل قرأت بدقة موازين القوى والتوازنات الدولية، واعتمدت خطاباً للتسوية لم تحد عنه منذ نصف قرن، ومثلت التحالف من موقع الصداقة مع الولايات المتحدة في أصعب الظروف، وترجمت ميدانياً سياستها والتزاماتها .
هذا الاختصار المبسط يوصلنا إلى نتيجتين: إن المشكلة لم تكن يوماً في القيم والالتزامات والصداقات وإنما في غيابها، وأن ما مثلته المملكة قبل 11 سبتمبر هو بالتحديد ما يزعج التحالف اليميني الثلاثي (الجمهوري المحافظ والمسيحي واليهودي) في أميركا بعد 11 سبتمبر... والنتيجتان في حقيقتهما واحدة.
نريد أن نصدق أن المملكة غير مستهدفة، أو أن خرائط المنطقة غير مستهدفة، ونتمنى أن يصــدق أصحاب القرار في أميركا أن الطريق إلى نظام دولي جديد آمن ومستقر لن تعبــده المجتمعـات المنقسمـة والحـدود المتهاوية، والتجربة - النموذج التي قيل انها ستعم المنطقة انطلاقاً من إحدى عواصمها.
هل اقتربنا من بغداد؟
غداً للحديث صلة.
جاسم بودي