قصاص ... وحياة


لم يتخل الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين عن عبارته الشهيرة: «فليخسأ الخاسئون» حين أعلن القاضي حكم الاعدام بحقه لتورطه في مجزرة الدجيل، ولم يتوان عن الهتاف: «عاش الشعب»، ممنيا النفس بزج العراقيين مرة اخرى في مشاريعه الانتحارية كما فعل في ايران وحلبجة والكويت والجنوب، ولم ينس طبعا ان يتهم «الآخر» (الاستعمار، الغزاة، المؤامرة...) بمسؤولية ما انتهى اليه الوضع العراقي.هذا هو صدام حسين وهذه العبارات تلخصه، فهو يسوق لنظريات المؤامرة ويحشد العراقيين خلف مشاريعه ثم ينهزم ويتراجع من دون ان يتوقف لحظة امام جدول الخسائر، فالنصر منه والهزيمة من «المتآمرين والمتخاذلين»، والمحاسبة عنده بلا حساب: كيماوي وغاز خردل واعدامات بالجملة ومقابر جماعية... «وليخسأ الخاسئون».سيد الفرع، فسيد الحزب، فسيد القصر، فسيد الحروب والمجازر، فسيد الهزيمة، فسيد الحفرة، فسيد القفص... لغة واحدة وامكانيات مختلفة. لم يتخيل الرجل ان في العراق محكمة تعطيه فرصة عام كامل للبحث في قضية واحدة فقط من قضاياه فالمحاكم ثورية وفورية. لم يتعامل معها ابدا بوصفها مؤسسة من مؤسسات الدولة فهو الدولة وهو القائد وهو الشعب وهو التاريخ والجغرافيا والمستقبل. كانت مطالب القاضي له بأن يجلس ويقف ويصمت ويتكلم اقسى وأمر عليه ربما من الحكم نفسه فهو الذي يعطي الاوامر ولا يتلقاها. رسم نهايته بيديه وقراراته واختامه وتواقيعه. كانت تعليقات رفاقه في القفص المؤيدة له ولافكاره مصدر شعور كبير بالراحة (تماما مثل صبغة الشعر والسترة الانيقة) فهم يعيدونه الى سدة القرار ولو بالوهم ويعيدون اليه صورته كقائد ملهم ولو على نصف متر.الحكم الاولي على صدام حسين امس تاريخ من سلسلة تواريخ سبقته وستلحقه، لكنها المرة الاولى التي يمثل فيها رئيس عربي امام محكمة استمرت لنحو عام في قضية واحدة ونقلت تفاصيلها مباشرة في وسائل الاعلام، وهي المرة الاولى التي يتقدم فيها البعد الاخلاقي على السياسة فيستعيد الحاكم صور ضحاياه وشريط القتل والابادة ويرى بأم عينه كيف اعدم رجاله شخصا بزرع عبوات في جسمه وفجروه داخل حفرة ثم صفقوا بعنف وهتفوا للقائد، وهي المرة الاولى التي يستمع فيها الى افادات المظلومين والمنكوبين والمعذبين والمضطهدين والمصابين بسبب حكمه وتصرفات اجهزته، وهي المرة الاولى في العراق التي تنتصر فيها الارادة على الخوف فيتقدم الادعاء ويتقدم القاضي ويتقدم المحامون ويتقدم الشهود غير آبهين بالالغام التي تفجرت في طرقهم وكادت تفجر المحكمة، وهي المرة الاولى التي نشهد فيها درسا صادما ومخيفا يمكن توظيفه في المعنى الايجابي، فسلطة الحكام ليست مطلقة وليست لممارسة القتل والابادة وليست فوق المسائلة مهما كان جبروت الحاكم وسلطانه وطغيانه.يبقى، في المنطق الانساني والديني والعربي والوطني، الامل بان تكون محاكمة صدام حسين مدخلا الى استقرار اكبر في العراق يكرس دولة المؤسسات الديموقراطية والمجتمع المدني والتنمية الاقتصادية وحقوق الانسان والتعايش الحضاري مع دول الجوار ومع العالم... نتذكر ولا ننسى ما فعله بالعراقيين وبنا وبجيرانه، ونتمنى ان تكون الحياة التي يولدها القصاص نموذجا لمرحلة جديدة يفخر فيها العراقيون ونفخر معهم بهتاف: «عاش العراق... دولة للحياة لا للموت».رسم صدام نهايته بيديه وقراراته واختامه وتواقيعه منذ الرصاصة الاولى والجريمة الاولى، وبقي يعاند الحساب ويسابقه بمزيد من الرصاص والجرائم هاربا الى ما اعتقد انه منجاة فاذا به ينتهي في حفرة قبل ان تبدأ محاكمته... يمهل ولا يهمل.
جاسم بودي