بــوش الثالث


اما وقد انتهى العرس الانتخابي الديموقراطي الحضاري وجدد الاميركيون البيعة للرئيس بوش فلا بد من نظرة واقعية مختلفة للعلاقات «بيننا» و«بينهم» ولا بد من جملة تمنيات ترافق هذه النظرة.
رغم تفوق خصمه عليه في المناظرات الثلاث، ورغم تراجع الاقتصاد وتعاظم البطالة، ورغم حملة الديموقراطيين الاكثر تنظيما في تاريخهم، ورغم تجربة بوش الاب الذي محا عقدة فيتنام بانتصاره المدوي في حرب تحرير الكويت ثم سقط في الانتخابات لأن الاميركيين اعتبروا الكويت شأنا خارجيا لا يرقى الى اولوياتهم... رغم ذلك كله نجح بوش لانه جعل الحملة على الارهاب شأنا داخليا اميركيا لا يقل اهمية عن قضايا الضريبة والصحة والحقوق المدنية للأقليات والتعليم والعمل والشيخوخة.
نجح بوش، بصورة البرجين المنهارين،في جعل الامن هاجسا متقدما على ما عداه، ونجح بن لادن، بصورته وصوته (الانتخابي) في توسيع قاعدة الجمهوريين المؤمنين بضرورة مواجهة الخارج لحماية الداخل، ونجح العرب في شطب انفسهم من اي اعتبار سياسي خارجي للادارة الاميركية بفضل عجزهم عن اتخاذ اي موقف والجلوس في كراسي المتفرجين يصفقون او يلمون الكرات او يردون الضربات.
بوش الثالث غير بوش الاول وغير بوش الثاني، او هذا ما نتمناه، فهو المتحرر من اسر التجديد للولاية حر اليدين اكثر مما سبق، وهو الذي عقلن خطاب المواجهة الخارجية في آخر ولايته واطلق يد السياسيين لتصحيح ما خربه العسكريون سواء في افغانستان او العراق او في المعارك الصامتة مع ايران وسورية والفلسطينيين والكوريين الشماليين. وباستثناء تعهده بتحرير كوبا من فيدل كاسترو خلال مهرجاناته الانتخابية في فلوريدا لم يفلت بوش العقال لتهديدات اخرى، الامر الذي يشي بأنه ماض في حملته لدعم الديموقراطية وحقوق الانسان انما من الباب السياسي والقانوني والاقتصادي (عقوبات؟) لا من باب البنتاغون.
وبوش الثالث أدرك، بالتجربة، ان الانتقام وحده لا يكفي للجم الارهاب، بل قد يغذيه ويستنسخ انواعا جديدة منه، ونتمنى ان يكون قد ادرك ايضا ان الدور الاميركي في المنطقة مدخله قوة العدل لا عدالة القوة، وان التخلف والديكتاتورية وغياب المجتمعات المدنية والحريات انجبت بيئة ارهابية لكن الحبل السري لهذه البيئة الموصول في تل ابيب لا يقل اهمية عن العناصر السابقة بل طالما كانت وحشية اسرائيل والدعم الاميركي لها سببا في نمو التطرف عندنا وطالما اتخذت بعض انظمتنا من اسرائيل ذريعة لتأميم المقدرات وكم الافواه ومصادرة البشر والحجر.
في بيتنا، وقبل اعادة انتخاب بوش وبعدها، لا بد من قراءة موضوعية مختلفة للعالم الذي يتحول، ولا بد من ادراك ان التغيير المنشود اذا لم يكن بيدنا فسيكون تغييرا مشوها بيد غيرنا لكنه... سيكون.
وفي بيتنا، وقبل اعادة انتخاب بوش وبعدها، لا بد من التعامل مع قضية الارهاب على انها قضية عربية واسلامية اكثر منها قضية دولية، فالنار التي شبها بعضنا احرقتنا قبل ان تحرق الآخرين بل انها استدرجت اسوأ ما لدى الآخرين الى منطقتنا وصرنا اسرى التطرفين المحلي والمستورد. وهذه النار لا يطفئها العنف ايضا بل الاصلاح الجدي في كل مناحي حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
قضية فلسطين ليست قضية مقاولات ارهابية يكفي تلزيمها بالظاهر والباطن للحكومات الاسرائيلية لإطفاء جذوتها، وقضية الارهاب في العالم العربي، كما قضايا الاصلاح والتنمية والحريات، ليست قضية مقاولات دولية يكفي تلزيمها بالظاهر والباطن للادارة الاميركية لاطفاء جذوتها او تحقيق تقدم في شأنها... هذا ما قصدناه بالعدل والمسؤولية، عدل اميركا ومسؤولية العرب، حتى لا تضعنا المفاجآت والاعمال المتهورة والحسابات الاجرامية في طائرة تحلق بنا لسنوات اربع جديدة.
جاسم بودي