كلمة هادئة في شارع يغلي

تصغير
تكبير
عندما ترتفع أصوات المدافع ترتفع أصوات المشاعر، وعندما يكون العرب والمسلمون أسرى مرحلة معقدة من الخيبات والانكسار والأخطاء، لا يجد عجزنا متنفساً له إلا الشوارع ميداناً والشعارات تعبيراً. من حق العرب والمسلمين التظاهر ضد ضرب المدنيين في العراق، وضد استباحة دم عربي وضد الخطاب الأميركي الذي يكيل القضايا المبدئية بمكيالين ويكيل القضايا المصلحية بمكيال واحد. من حق الشارع أن يستنكر قصف الرؤوس الحامية في الإدارة الأميركية لتفكيرنا واستخفافها بكياننا وهويتنا ووجودنا نفسه، فأسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية أصبحت ضرورة لأميركا لتطويع «هؤلاء الإرهابيين» (نحن) وهي «شرعية» لأنها في «مجتمع ديموقراطي»، وممارسات إسرائيل القمعية ضد المدنيين العزل «وجهة نظر» أو «وجهة تأديبية» لمنع أي مقاوم من التفكير حتى... بحجر. أما ما عدا هذه «الولاية» الإسرائيلية -الأميركية المتقدمة فمستباح لـ «الصقور» ومقصاتهم وخرائطهم ومشارطهم وعملياتهم الجراحية. ومن حق الشارع أن يرفض تصديق الأميركيين، الذين بدأوا حملتهم بإزالة أسلحة الدمار في العراق، وطوّروها بإزالة النظام في العراق، ودعموها بإزالة الحكم الوطني في العراق بعد إسقاط النظام وتعيين حاكم أميركي عسكري وحكومة أميركية مطعمة بـ «مستشارين عراقيين»، وختموها بإزالة الخرائط الموجودة في المنطقة عبر الإعلان عن شرق أوسط جديد يجري التخطيط له. اختصار لا يترك للقضية غموضاً، وحده الأعمى من يغمض عينيه عن حركة الشارع ونبضه... ولكن، لا بأس من . كل ما يجري في العراق اليوم، قصة وسيناريو وحوار وإنتاج النظام العراقي، أما الإخراج فللولايات المتحدة. وكل ما يجري في العراق اليوم يتحمل مسؤوليته الرئيس العراقي ومجلس قيادة ثورته وأجهزته الحاكمة سواء تصرفوا حسب تعليمات «المُخرج» أو تصرفوا بما يخدم «المُخرج». فمن «الضربة الثأرية» لإيران الثورة، و«المجزرة الكيماوية» في حلبجة، و«الغزو البربري» للكويت والقمع الهمجي لانتفاضة الجنوب العراقي... أربعة محاور رئيسية وأكثر من مليوني قتيل وجريح شكلت إطار الصورة، أما ما حوته الصورة من انتهاكات ومغامرات ومؤامرات داخلية وخارجية، فيعجز أي مقال عن رصده وسرده. كان في إمكان الرئيس العراقي أن يفوّت ما يقول إنه «مؤامرة» دولية صهيونية ضد العراق وبالتالي الأمة العربية، من خلال استجابته لمبادرة حكيم العرب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان بترك السلطة وتسليم ملف العراق إلى العراقيين والأمم المتحدة والجامعة العربية، بدل الاستمرار في التحدي ووضع العراقيين بين خيارين لا ثالث لهما: إما متاريس بشرية لنظامه أو أهداف لقنابل اتضح أن ذكاءها مماثل لذكاء «صقور» الإدارة الأميركية. كان بإمكانه، كما قال الأمير سعود الفيصل، التضحية بكرسي بدل دعوته ملايين العراقيين إلى التضحية بأرواحهم من أجل كرسيه. كان بإمكانه، تحقيق إخراج عراقي - عربي - دولي لأزمة ما عاد في الإمكان حلها بوجوده، لكنه فضّل الإخراج الأميركي، آملاً في أي تسوية تبقيه في السلطة على صور المدنيين الضحايا، أو في انهيار العراق والعرب بانهياره. وكم كان الرئيس المصري حسني مبارك واضحاً في توصيفه لما سيحدث حين قال ان صدام حسين يفتعل الحروب بأثمانها وقتلاها ودمارها ويستنزف مليارات العرب وقدراتهم ولا يستمع حتى إلى نصيحة أو استشارة. غليان الشارع العربي مبرّر، لكن انحرافه في اتجاه انفصامي بين الواقعية والشعارات أمر لا يخدم على المدى البعيد سوى العجز القائم والولايات المتحدة، وهذا ما لا نتمناه وإن كنا نعرف أن صوت الأماني لا وجود له أمام صوت التوماهوك. والانفصام هنا تجلّى في أمور كثيرة، بعضها بتوجيه رسمي وبعضها الآخر بتوجيه عاطفي، وأصبح «المجاهد» الذي قاتل في البوسنة وكوسوفو يتطوع للقتال في بغداد متجاوزاً أن صدام هو الرئيس العربي الوحيد الذي بقي داعماً ومسانداً في العلن للرئيس الصربي المخلوع سلوبودان ميلوسوفيتش مانحاً إياه أطناناً من النفط المجاني وقوداً لترسانته العسكرية ومجازره ضد المسلمين. وقادت مؤسسات إيمانية عريقة في المقاومة والاستبسال حملات دعم صبت في النتيجة في مصلحة النظام العراقي، متجاوزة أن ما من نظام في العالم قتل من العلماء المسلمين وذرياتهم مثلما قتل نظام صدام، وما من نظام سحق 100 ألف مسلم بالدبابات عام 1991 كما فعل نظام صدام، ناهيك عن حربه ضد الجمهورية الإسلامية. ومن مظاهر الانفصام أيضاً، التصويب على الكويت وحدها، وهي التي لم يكن فيها جندي أجنبي واحد قبل 2/8/1990، ووصلت القواعد والجيوش الأجنبية إليها وإلى كل دول الخليج بعد غزو النظام العراقي لها، وبقيت على خط التوتر بعد هزيمته لمدة 12 عاماً، لم يعدم فيها هذا النظام وسيلة لتقويض الاستقرار إلا وقام بها، من فرق الاغتيال وشبكات التفجير وإعلان مسؤوليه أن الحدود المرسومة لا يعتد بها وستتغير، وإزالة الكويت من الخرائط العراقية، والتهديدات المستمرة بالعمل العسكري. وحتى عندما نجحت قمة بيروت في إصدار ورقة «الحالة» التصالحية، «اعتذر» الرئيس العراقي براجمات من الشتائم والتحريض والدعوة إلى الثورة. ولا نخال أحداً، يمكنه أن يدافع عن خطف مئات الكويتيين من أرضهم ورهنهم أسرى في أقبية السجون العراقية حتى الآن، أو يدافع عن واحدة من أكبر عمليات التدمير والسرقات في التاريخ. وفي موضوع الكويت تحديداً، يبرز انفصام آخر، فدولتنا لم تخف، وهي في حالة عداء مع النظام العراقي، إنها تتمنى نظاماً آخر، وإنها منحازة للشعب العراقي وتعتقد أن مصلحتها الوطنية والقومية في خروجه من النفق المظلم الذي فرضه عليه نظامه، وقيام نظام وطني عراقي ديموقراطي يحصّن بلاده من رياح الخارج ولا يعتدي على جيرانه ويكون عنصر استقرار للعراق والمنطقة... هذا ما أعلنته الكويت وهي منسجمة في توجهاتها، وقدمت مساعدات فورية للعراقيين المدنيين بعد الحرب وأرسلت فرقاً لإطفاء الآبار التي أشعلها النظام وأقامت شبكات مياه إلى المناطق التي تحتاجها، بينما زايد آخرون ولم يقدموا غير البيانات الشاجبة. أما تقديم التسهيلات في الحرب، فانفصام هو الآخر. ونظرة واحدة إلى الخريطة تظهر حجم التسهيلات العربية والإسلامية للعمليات العسكرية، وانتباه واحد لخريطة «القصف» اليومي العشوائي الذي يمارسه طه ياســــين رمضان ضد هـــــذه الدول يظهر حجمها... لكـــن قذائف الإعلام استناداً إلى «إحداثيات» أجهزة أمنية وفكرية وحزبية تأبى إلا أن تكون «مركزة» على دولة واحدة ستظهر الوقائع أن موقفها كان الأقوى لخدمة العراق والعراقيين. ... ساعدوا العراقيين ولا تساعدوا نظامهم الذي قطع عنهم الماء والهواء والنور والأمل. ساعدوا العراقيين على إقامة نظام وطني حر ديموقراطي خال من أسلحة الدمار الشامل ومن الوجود الأجنبي العسكري الشامل. أما ما يحصل حالياً، فلا يخدم إلا النظام العراقي الحالي والوجود العسكري الأميركي... المقبل. جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي