الحل ... إمارة دستورية

تصغير
تكبير
آخر ما تحتاج إليه الكويت، راهناً ومستقبلاً، عمليات التجميل السياسية، أي أن يتم ترقيع النظام الانتخابي بتعديل الدوائر، وترميم النظام الاقتصادي بتعديل المجالس وترشيق النظام الديموقراطي بشد السلبيات ونفخ الإيجابيات في الإعلام... لا في الواقع. آخر ما تحتاج إليه الكويت ذلك، فالموضوع أعمق وأخطر مهما خلصت أهداف أصحاب الطروحات التعديلية التطويرية ومهما أظهر المسؤولون من نيات صادقة في التعامل معها. الكويت، قبل عقود، فهمت سر العلاقة بين الاقتصاد والسياسة لظروف كثيرة أهمها خصوصية موقعها ودورها وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأسلوب حياة أبنائها، وجعلتها هذه المعادلة في موقع الريادة بين دول المنطقة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً وفنياً. كان النظام الاقتصادي الحر المتقدم آنذاك يفرض نفسه على النظامين السياسي والاجتماعي في توليفة مميزة ضبطت الحياة الكويتية على إيقاعها رغم ما شابها من ثغرات وملاحظات وأخطاء... لكنها كانت في سكتها الصحيحة ووجهتها السليمة. صار ما صار من «حسابات داخلية» ومن عوامل خارجية بدأت بحريق الحرب العراقية -الإيرانية وانتهت بغزو الكويت وتحريرها وصولاً إلى احتلال بغداد. ضُربت المعادلة السابقة وحلّت محلها معادلات جديدة طغى فيها الهاجس الأمني على ما عداه، والجمود السياسي على التطوير، والانكفاء الاقتصادي على الانطلاق والتقدم، والجمود الفكري على التفاعل الحر الخلاّق مع المحيط والعالم، وانعدمت الرؤية إلى الدرجة التي أصبحنا معها نعيش اليوم بيومه ونرهن كل مشاريعنا ومخططاتنا للذهب الأسود، فإن ارتفع سعر البرميل استقامت موازناتنا العامة والخاصة وإن انخفض تخلخلت. هذه المعادلة الجديدة أفرزت الآتي: - خللاً في أسلوب الحكم على مستوى المؤسسات السياسية من برلمان وحكومة، إذ كبرت تحديات الخارج كثيراً و«صغرت» ملفات الداخل أكثر، وصار للعملية الديموقراطية وجه واحد فقط، هو الوجه الذي نراه في العلاقة التصادمية بين المجلس والحكومة من جهة و«لا علاقة» المجلسين بالشأن العام للكويت، مجتمعاً وتطويراً واقتصاداً وتشريعات، من جهة أخرى. - تراجع الكويت التي كانت رائدة اقتصادياً إلى المركز الثالث أو الرابع بين دول الخليج، بعدما تقدمت دول انطلقت من الفلسفة نفسها التي اعتمدتها الكويت قبل عقود. - ضَعف المركز الريادي السياسي للكويت مع تقدم الدساتير والبرلمانات في المنطقة ومنح المرأة حقوقها السياسية. - ازدياد قيم الانغلاق والتعصب اجتماعياً، وصار الولاء للعشيرة والقبيلة والطائفة والمنطقة أكبر من الولاء للوطن، وجواز مرور إلى الوظيفة والنيابة والوزارة. ولا ضرورة للتذكير مجدداً أن نظاماً كالذي نعيشه ساعد على ذلك لأسباب متعددة، وحوّل النائب إلى «مخلص معاملات» والوزير إلى «دائرة تنفيع». هذه هي صورتنا اليوم التي لا يتجاهلها إلا مكابر ولا يدافع عنها إلا منافق أو مستفيد. ومن حسنات كل الطروحات المعلنة أنها في حد ذاتها اعتراف بوجود مشكلة وإن لم ترق إلى الاعتراف بحجمها. تعديل الدوائر، تطوير المجالس الاقتصادية، تفعيل العمل الوزاري، حقوق المرأة السياسية، مشاريع الاستثمار المنتج والخصخصة الفاعلة... طروحات جيدة لكنها تجميلية، والمطلوب علاج الجسد لا الشكل، أي الانتقال إلى عهد سياسي جديد مستفيدين من تجربتنا السابقة بكل مزاياها وعيوبها وتحت سقف الدستور وخصوصية العلاقة بين الحاكم والمحكوم. الكويت في حاجة إلى نظام سياسي يسمح بإشهار الأحزاب وعملها، على أسس سياسية لا مذهبية ولا طائفية ولا مناطقية. ثم تخوض هذه الأحزاب الانتخابات وفق برامج واضحة معلنة وتتشكل الحكومة من حزب الغالبية. يرافق هــذا النظام السياسي، نظام انتخابي متطور وفاعل تتحدد ركائزه ( من الدوائر إلى البرامج ) على أسس الانصهار الوطني، ولا تعود قضية حقوق المرأة السياسية على بساط البحث لأنها ستمارس هذا الحق طبيعياً من خلال الأحزاب أوالكتل المستقلة. ويرافق هذا النظام السياسي أيضاً، نظام اقتصادي لا يخاف الانفتاح والمبـادرة والتحدي والتنافس. فالكويت يجب أن تعود إلى ريادتها في هذا الإطار، ( ولا نبالغ إن قلنا إنها الأكفأ والأكثر قدرة ) وإلى ذلك «الدعم» الراقي للحياة السياسية والاجتماعية الذي قدمته قيم الانفتاح الاقتصادي سابقاً. ومع مرور الزمن، ومع عثرات وثغرات وتحديات، لا بد أن يحصل إسقاط إيجابي للتطورين، السياسي والاقتصادي، على النظام الاجتماعي، فتعود الأولوية للهموم العامة الكبيرة، وتنشغل النخب في كيفية حل مشاكل الحاضر والمستقبل، مهنياً وتربوياً وصحياً ومالياً واقتصادياً وحضارياً، بدل أن يضيع نصف وقتها في متابعة مواضيع مثل مهاجمة الحفلات وبحث الاختلاط في الجامعات. إن تطوير الحياة السياسية في اتجاه إنشاء أحزاب، يدعم الحريات ويصون الديموقراطية ويحقق للكويت ريادة جديدة في المنطقة ويؤهلها لمتابعة دورها في عالم لم يعد فيه مكان للمتخلفين. وهذه المسيرة الجديدة تجمع، على المدى الطويل، ما اختلفت الآراء حوله بالنسبة إلى الدستور. فالمطالبون بتعديله وتطويره لينسجم مع الضرورات والمتغيرات يواجَهون فوراً برد فعل حذر وهجومي من رافعي شعار عدم المس بالدستور، والمتحججون بنصوصه، لا بروحه، يستندون إليه في تبرير النظام الراهن مع أن المدافعين الفعليين عن الدستور يرون أنه يحمل في مضمونه وروحه ما يسمح بتطوير الحياة السياسية والحريات في اتجاه إنشاء أحزاب وصولاً إلى قيام إمارة دستورية حقيقية تفسح في المجال لوصول حزب الغالبية البرلمانية إلى السلطة التنفيذية... ولا نعتقد أن الإمارة الدستورية بهذا المعنى عامل ضعف للكويت، بل هي عامل قوة وتكريس لمبدأ المشاركة الذي كرسناه حتى في أحلك الظروف، وترسيخ لخصوصية العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وبما أن الإصلاح لا يتجزأ والديموقراطية لا تفصّل على قياس أشخاص وفئات ومناطق ومشاريع وبرامج، لا يمكن استثناء أبناء الأسرة الحاكمة من الانخراط في التطور السياسي الجديد في الكويت ولا يجوز منعهم من الدخول في الأحزاب وخوض غمار اللعبة السياسية الدستورية. إن عدم السماح بقيام أحزاب في الكويت ولّد تكتلات مشوّهة لها قوة الأحزاب أثّرت سلباً في الحياة السياسية تماماً كما ولّد إستيعاب 90 في المئة من الكويتيين في وظائف الدولة بطالة مقنعة أثرت سلباً في الموازنات والإنتاجية، والانغلاق في المجالين، السياسي والاقتصادي، غذى قيم الانغلاق الاجتماعي، وكم هي معادلة مؤلمة أن نرى الحكومة ( حزباً أو حزبين ) في مواجهة مجلس نيابي مؤلف من أحزاب داخل دائرة اجتماعية تمارس الحزبية سراً وصولاً إلى الإرهاب (إلا أذا أرادونا أن نصدق قصة العمل الفردي والاختلال العقلي ) وفوق ذلك كله صورة اقتصادية مرتبطة تماماً بالمعادلة السياسية وتخضع لمزاجية العلاقة بين السلطتين، من مشاريع تطوير حقول النفط وصولاً إلى سوق الأسهم. عمليات التجميل المقترحة قد تجعل منظر الجسد أكثر إشراقاً إلا أنها تثخنه بالجراح إلى الدرجة التي لن يقدر معها على مقاومة المتغيرات. وأفضل العلاج ما كان طبيعياً ومنطلقاً من الذات نفسها وبالتوافق الذي جبلنا عليه، فالأمم تنمو بإخلاص أبنائها وإبداعهم وتفكيرهم الدائم بالتطوير والحداثة. وإن لم نفعل ذلك فسنبقى أسرى دائرة الخوف والعجز... وانتظار ما يفرضه الآخرون علينا. جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي