الحزم قبل «الحزمة»... وشد الأحزمة

تصغير
تكبير
لأن «لا حياة لمن تنادي» صحّ ما توقعه العقلاء واتضح أن ما كان ينصح به ذوو الرأي السديد كان كلام حق صدته آذان صماء، والأزمة ليست وليدة الأمس ولا اليوم لكنها كلما مر عليها نهار ازدادت تفاقماً، وكلما تم تجاهل جوهرها أمعنت في قضم ما بناه الأولون وفي نخر الهيكل الذي صنعه أولئك الذين لا تزال سيرتهم تستدعي الاقتداء، ولا من يقتدي. هل دقت ساعة الحقيقة؟ هل وصلنا إلى خط أحمر لا يجوز لنا تجاوزه؟ نعم وبكل وضوح، الوضع سيئ، ولكن رداءة الوضع ليست بشيء إذا ما قورنت بأسلوب المعالجة، فمن ينكر أن معظم بلدان العالم يعاني أزمات؟ لكن من المعيب ألا نلحظ المحاولات الجدّية لمعالجتها واقتراح الوسائل لذلك في وقت لا نزال صرعى أفكارنا الثابتة وجمود إرادتنا وضيق أفق معالجتنا. لا تحصد الدولة الآن إلا ما زرعت، فمنذ أربعين عاماً استغلت الفوائض النفطية الهائلة لتحويل مجتمع الكويت المكافح إلى مجتمع اتكالي مرفّه، ضمنت فيه للفرد راتباً سواء أنتج أم لم ينتج، وهنا بدأت المأساة... وانهار سلم كامل للقيم أدى إلى الاعتماد على الأجنبي الذي صار مظهراً أساسياً من مظاهر المجتمع، وأدى إلى نظرة استعلاء على القانون تشرَّبها جيل لم يعرف من تاريخ البلد إلا الريع الموزع والسيارات الفارهة والاستهتار، ولأن الذين انتخبوا في مجلس الأمة حاكوا زملاءهم في الحكومة، اتفق هؤلاء وأولئك على ممالأة المواطن، وهو بالنسبة إليهم ليس سوى ناخب يُُلقي صوته في صندوق الاقتراع استناداً إلى ولاءات ضيقة، أو هو مصفق يُستدعى في المناسبات المزدهرة نفاقاً وتكاذباً. رغم كل ذلك كانت «دولة الرفاه» تغطي الأسلوب الخاطئ، وكان حجم الدخل النفطي يدفع بالأمور إلى الأمام نظراً لصغر حجم المجتمع، حتى جاء اليوم الذي كان متوقعاً وانخفضت أسعار النفط ولم يعد متوفراً للحكومة ما يكفي لسداد فواتير أسلوب الحياة الذي أرسته الحكومات المتعاقبة، فدق ناقوس الخطر. هنيئاً لشعب الكويت فاليوم استفاقت الحكومة، واليوم نراها تنتفض لتُخرج البلاد من قمقم السياسات العقيمة على مدى سنوات، لكن كيف يعالج وضع شائك من دون النظر في المسببات، ومن دون الاعتراف بالأخطاء المتراكمة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه؟ إنها فعلاً سياسة الأعاجيب، أو أنهم يريدون اجتراح المعجزات أو فك السحر عن البلد المربوط، ليس هذا ولا ذاك فالواقع أن الحزمة الاقتصادية الموعودة ليست سوى نطفة لم ترّ النور، وحزمة ترقيع لثوب بال لن يُصلحه العطارون، ويبدو أن من أخطر مظاهر الحلول الترقيعية مبادرة بعض الوزراء إلى اجراءات اقتصادية أساسها التقتير وإيقاف الصرف من دون مبررات وأسباب وجيهة، مما قد يفاقم مشاكل الاقتصاد في وقت ربما كان يحتاج فيه إلى انعاش من الركود في جانب، وشد الحزام على الأثرياء في جوانب أخرى. ولا تختصر أزمتنا بانهيار في الأسهم ولا في الركود العام ولا في استجوابات محتملة، ولا في الطوق السياسي الذي وضعناه حول رقابنا، إنها أعمق من ذلك، فما ذكرناه مظاهر وانعكاسات لخلل جوهري في الأسلوب أفسد الحياة العامة سياسة واقتصاداً واجتماعاً، والمعالجة تبدأ بالإقرار بالمسؤولية وليس بتحميلها الآخرين، وتبدأ بمصارحة النفس وبالاعتراف بأن الأزمة التي نحن فيها نتاج أربعين عاماً من الأخطاء، ليس الشعب الكويتي مسؤولا عنها بقدر ما هو متحمل لنتائجها، ومرغم على القبول بما يُملى عليه من سياسات. ليست الحزمة الاقتصادية هي المُنقذ، وليس شد الأحزمة بقادر على إخراج البلد من عنق الزجاجة، فالمطلوب حزم في الإدارة يترافق مع اعتراف بالخطأ المزمن وطي صفحة الماضي، وانطلاق حازم لمحاربة الفساد والإفساد، وهذا هو لُب المشكلة وأساس العلاج، آنذاك نتحول إلى مجتمع رفاه حقيقي قائم على أساس سليم، وخلاف ذلك نماذج بعيدة وأخرى شديدة القرب، ولنا من نمور آسيا أكبر نموذج، ولنا من شعوب كثيرة جاعت فكفرت أمثلة حية نضعها برسم القابعين في ظلام أوهامهم وقناعاتهم بإمكان دوام الحال على هذه الحال. فهل من يعقل...؟ رئيس التحرير
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي