مفترق الديموقراطية... انتبه خطر


ليس الحكم الصادر في حق البغدادي حكماً عادياً كي يمر مرور الكرام. ولا هو هفوة من مخطئ أو قاضٍ كي يتم تصحيحه بجرة قلم.
إنه سابقة في تاريخ الكويت، أي في تاريخ أحكام من هذا النوع، تطول شخصاً ذا موقع أكاديمي وفكري، اختلفنا معه أم اتفقنا.
وبغض النظر عن اعتبار ما كتبه البغدادي رأياً أم مساساً بذات الرسول، فإن الحكم وما خلّفه من ردات فعل لا تزال تتوالى، يدعوان الكويتيين إلى التفكير والتبصر.
يطرح الحكم الصادر في حق البغدادي مجدداً مسألة الاعتدال. فالقضية أخذت منحى التحدي، وصار الفرقاء المعنيون بها على طرفي نقيض، بل أصبحت نزاعاتهم على حد السكين. وهو ما يستوجب إعادة النظر في آلية الصراع داخل المجتمع وكيفية ضبطه بطريقة تبعد أصحاب الرأي والرأي الآخر عن تطرف لا يتناسب مع تاريخ الكويت ولا مع حاضرها في السياسة والثقافة والإيمان.
لا تكمن خطورة الحكم على البغدادي في جوهر القضية ــ سواء اعتبرت قضية رأي أم لا، كونها تجاوزت ذلك إلى حد المساس بذات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ــ لكن الخطورة تكمن في استغلال تيارات سياسية للحكم واعتباره انتصاراً صارخاً للإسلاميين على «الأعداء» الليبراليين، وما رافق ذلك من شجب واستقطاب في المجتمع مع الحكم وضده.
لذلك، فإن ما يجري الآن في قضية البغدادي يضع الحياة السياسية والثقافية في الكويت على مفترق، بدل أن تكون هذه الحياة مصدراً للتقدم والازدهار والتفتح. غير أن ما يحدث في هذا الموضوع ليس وليد لحظة أو نتاج حكم قضائي، بل هو نتاج سياسات اتبعتها المؤسسة الحاكمة منذ الأربعينات، وقامت على دعم فئات ضد فئات أخرى تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية المتغيرة، وحسب ما يظهر من تيارات سياسية وقوى تتشكل حسب الظروف الموضوعية.
فعلى الرغم من دخول الكويت في الستينات عهد الديموقراطية، بقيت الحسابات الضيقة سيدة الحسابات. واستمرت المحاباة والممالأة والاستنصار بقوى على قوى أخرى سياسة السياسات.
وفي هذا الإطار، كانت خطوات التجنيس ومنح المزايا أو التشدد مع فئات معينة خلال العقود الأربعة الماضية. ونجم عن ذلك أن عجزت السلطة عن تعميق الديموقراطية وجعلها من ثوابت القناعات، أي جعل الاعتراف بالآخر وحرية الآخر، ضمن ثوابت المجتمع، مبدأ مقدساً، وجعل الصراعات ذات سقف واضح ممنوع اختراقه.
من هنا فإن المؤسسة مطالبة بأمرين:
1 ــ أن تعيد النظر في سياسة تقريب البعض وإبعاد الآخر. فتكون على مسافة واحدة من جميع التيارات السياسية والاجتماعية على اختلاف توجهاتها، تدير الصراعات والخلافات ضمن أطر سليمة تضمن مزيداً من الديموقراطية وليس نقضاً لها وانتهاكاً لمبادئها.
2 ــ أن تقدم كل الضمانات لبقاء القضاء صرحاً شامخاً نزيهاً محايداً وحصناً لجميع الكويتيين. مع ضرورة أن يعي القضاء أن أول واجباته ضمان حرية المواطنين في التعبير عن آرائهم من دون ضغوط أو خوف مثلما يتوجب عليهم احترام مقدسات المجتمع وعدم المساس بها.
أكيد أن الكويت كانت في غنى عن قضية البغدادي. فالبلاد منذ عقد من الزمن لا تحتمل أي انقسامات ولا أي تصديع للوحدة الداخلية، وتحتاج إلى إبقاء صورتها ناصعة أمام العالم. والأهم من كل ذلك، أن تبقى صورتها ناصعة أمام أهل الكويت، لأنهم الأساس، وحياتهم السياسية والثقافية والروحية هي المعنية. لكن، لعل في هذه القضية ما يدفع إلى التبصر وتصحيح المسيرة، وإلى إدراك أن الكويت لا تحتمل تسجيل انتصارات داخلية... ورب ضارة نافعة.
رئيس التحرير