العهد والعقد حكم وتجارة لا يجتمعان


بين الحكم في الكويت والناس نوع من الشفافية والاعتراف المتبادل. هي علاقة توازن. إذ لم تكن يوماً علاقة الحاكم بالمحكوم علاقة قسر وقوة، مثلما لم تكن علاقة تداخل وتواطؤ تفقد الهيبة ضرورتها وتفقد أصحاب الحق حقوقهم وتجعل «الفاجر يأكل مال التاجر».
منذ بدايات الكويت وعهد صباح الأول كان العهد. والعهد أقوى من العقد. كان اتفاقاً غير مكتوب بين أهل الكويت وأسرة الصباح. ولنسمّه عهداً أو عرفاً أو توافقاً لا همّ. وعلى أساسه عُهد بالحكم لآل الصباح وعُهد للأسر بالتجارة والإنتاج.
ولأن الكويت تأسست وقام نظامها السياسي على اتفاق لم يتم بحد السيف، سرت في جسد المجتمع الكويتي روح التسامح والقبول بالآخر، لكن ضمن احترام الحدود المرسومة للدور الذي يلعبه كل طرف في المجتمع.
وإذا كان الاتفاق غير المكتوب فَعَل فِعل القانون على مدى سنين طويلة، فإن الاستقلال وإعلان الدستور عام 2691 قننا الاتفاق القديم ووضعاه في صيغة واضحة. فعمل كل طرف في المجال الذي هو أقدر على العطاء فيه. مارس آل الصباح الحكم بتعقل وحلم، ومارس أهل الكويت التجارة بذكاء ومهارة. هؤلاء أداروا شؤون البلاد وضمنوا استمرار كيانها واستقلالها. وأولئك أمنوا دورة الإنتاج وضخوا في شرايين الحكم الدم الذي مكّنه من الاستمرار وجنّبوا بالتالي الكويت دولة وأسرة ومؤسسات تطرف المتطرفين ودعوات الداعين الى تغيرات شهد مآسيها العالم العربي، تارة بحجة القومية، وطوراً بحجة الإسلام، ودائماً باسم الشهوة إلى السلطة والتسلط حزبياً، أو عسكرياً، أو مدنياً بوليسياً مغلفاً بغشاء ديموقراطية مزيّفة.
ولأن لا فضل لأحد على أحد إلا بمقدار ولائه للوطن ومساهمته في بنائه وضمان استقلاله، لا بدّ من كلام واضح وصريح، خصوصاً ان دولتنا بنيت على الصراحة والوضوح مثلما بنيت على التواضع واحترام حقوق الآخرين.
لذا لا بدّ من القول وبجملة واحدة: حكم وتجارة لا يجتمعان.
لماذا نقول ذلك؟ لأنه في الفترة الأخيرة طالعنا الجيل الجديد من أبناء الأسرة بتوجهات لم نألفها. فبعض الأبناء، مع احترامنا لهم ولحقوقهم، بدأ منافسة أهل الكويت في أرزاقهم بشكل حاد وشرس أحياناً، ما يدفع إلى التساؤل عن أسباب هذه الهجمة على مصالح الآخرين وهذه الرغبة في الدخول في ما لا علاقة للأسرة به أصلاً.
منذ تأسيس الكويت وحتى إعلان الدستور وبعده لم يعترض أهل الكويت على عمل أبناء الأسرة في التجارة طالما بقي هذا العمل في إطار المقبول وفي حدود المعقول، لكن أن يتجاوز بعضهم العُرف المتبع والخطوط المرسومة فإنه أمر يدعو إلى العجب مثلما يستوجب لفت النظر بل التنبيه والتحذير.
فخرق الخطوط خطير. وخطورته أنه لا يمكن أن يبقى حكراً على طرف. وإذا بقي كذلك فإنه يتسبب في خلخلة الاتفاق وخلخلة العقد الاجتماعي ويفتح الباب واسعاً أمام المجهول. والشواهد التاريخية في أماكن أخرى تؤكد أن أي اتفاق من هذا النوع إذا خرق من جانب فإنه لا بدّ أن يخرق من الجانب الآخر.
لماذا نقول هذا الكلام الآن تحديداً؟ لأننا نمر في أوقات بالغة الدقة تترجح فيها الخيارات على مستوى السياسة ومستوى الاقتصاد. فالهاجس الأمني مستمر، وتطورات الأزمات المتتالية بين العراق والأمم المتحدة لا تبشر بالخير. وهي، مع عناصر أخرى، تؤدي إلى انكماش اقتصادي لم نجد بعد آلية لمعالجته لا على مستوى التخطيط المستقبلي ولا على مستوى الواقع اليومي الذي يؤكد ضيق فرص العمل... فمصيبة أن تترافق هذه القضايا والأعباء مع محاولات البعض الإخلال بالعهد الاجتماعي بفجاجة غير مألوفة.
نسوق هذا الكلام توضيحاً وتنويهاً لأن الكويت في حاجة دائمة إلى الوفاق والاستقرار. فمن دونهما لا تقوم قائمة، ومن دونهما لا يمكن لها مواجهة الأخطار المحيقة بها. فهي بأمسّ الحاجة إلى حكم قوي ومتزن مثلما هي بأمسّ الحاجة إلى شعب يمارس الإنتاج والتجارة في شكل يؤمن بحبوحة الكويت وأهل الكويت ويضمن قوة اقتصادية للدولة هي سلاحها الأول في مواجهة المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق الحاكمين.
من هنا واجب العقلاء التدخل لوضع الأمور في نصابها وإعادة العهد إلى سابق عهده وإفهام بعض أصحاب الرؤوس الحامية أن في العقد طرفين والاختلال ممنوع مثلما ممنوعة الاختراقات.
لا وقت لدى الكويتيين للدخول في جدل حول حدود الحكم وحدود التجارة، وحق الأسرة وحق الأسر، فالعقد موجود، والعهد باقٍ، ولا يجوز لبعض السفهاء أن يهدموا في فترة وجيزة ما بناه آل الصباح وأهل الكويت خلال ثلاثة قرون.
رئيس التحرير