نزع الفتيل أو دفع الفواتير


بين أسوأ ما يمكن أن يواجهنا في الخليج عموماً، وفي الكويت خصوصاً، هذه الأيام، أن نستيقظ فجأة لنسمع أن حادثاً كبيراً حصل بين القوات الأميركية وإيران.
فالتوتر الحاصل بين واشنطن وطهران، في هذه الفترة، ليس من النوع الذي اعتدنا عليه منذ قيام الثورة الخمينية، واحتجاز الرهائن في السفارة الأميركية، والعملية الفاشلة لإنقاذهم. وليس هو من النوع الذي ساد إبان حرب الناقلات أثناء الحرب العراقية ــ الإيرانية أو بعد هذه الحرب.
صحيح أن التوتر الحالي لا يحيد عن خلفية العداء المستحكم، الذي تأسس منذ سقوط الشاه بين من يعتبر أميركا «الشيطان الأكبر»، وبين من يعتبر إيران أكثر الدول «شيطنة»، وأكبر الخارجين على القانون. لكن وقوده الحالي يتغذّى من عاملين تعتبرهما واشنطن خطرين. أولهما برامج إيران التسليحية. وثانيهما موقف إيران من التسوية السلمية في الشرق الأوسط. وفي المقابل ترى طهران أن واشنطن «قوة استكبار» حاولت وتحاول فرض هيمنتها على المنطقة سياسياً وعسكرياً، وترى أن من حقها على كل المستويات مقاومة الحصار الذي تفرضه عليها، ومنعها من أن تكون السيد المطلق في الخليج، واللاعب الوحيد في الشرق الأوسط. ومجمل هذه الاعتبارات السياسية يعرِّض الوضع للاشتعال لسهولة أن تتداخل معه أعمال الإرهاب فلا تترك مجالاً لاستمرار الهدوء رغم العداء.
وبصراحة كلية، فإن الخليج لا يحتمل أي مواجهة تجري بين واشنطن وطهران مثلما لا يحتمل أي نزاع حدودي بين أي دولتين فيه. فأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية دقيقة إلى درجة أن أي حادث كبير يهدد بانعكاسات خطيرة على مستوى النظام الخليجي العام، وعلى التوازنات الاجتماعية الداخلية، وتماسك نسيج المجتمعات الخليجية، وعلى مستوى معيشة الفرد وضمانات مستقبله.
من هنا مسؤولية جسيمة على عاتق حكامنا في الخليج والكويت. وهم برهنوا أكثر من مرة اضطلاعهم بها بكل جرأة وتفانٍ. وتتلخص تلك المسؤولية حالياً في كلمتين هما: نزع الفتيل. لأن فتيل المواجهة قابل للانفجار في أي لحظة، ولأن عوامل حقيقية أحياناً ومفتعلة أحياناً كثيرة تلعب دوراً مهماً في هذا التفجير. فواشنطن تمر حالياً في فترة انتخابات والرئيس كلينتون ما كان ليعجل في توقيع قرار فرض العقوبات على الشركات المتعاملة مع طهران وليبيا، لولا خشيته من أن يستغل خصمه بوب دول القضية لاتهامه بالتخاذل أمام الإرهاب، ولا ننسى أن إيران بدورها شهدت تطورات. فتيَّار الاعتدال أصيب بسيل من الضربات، والقرارات المهمة صارت في قبضة المتشددين، والمتشددون لا يترددون في امتلاك أسلحة جرثومية أو في نشر صواريخ بعيدة المدى أو في استعمال كل الوسائل لإنجاح نهجهم في الداخل، وتغليب النهج نفسه لدى خصومهم في الخارج. أليسوا هم وحلفاؤهم من تسبب بإسقاط شمعون بيريز بواسطة «حماس» الفلسطينية و«حزب الله» اللبناني؟ فأسقطوا بالتالي ركيزة لسياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية، وخلخلوا خطة للسلام ولما بعد السلام كان محورها تغليب تيار الاعتدال.
ليس لدى الأميركيين دلائل بعد على تورط إيران في انفجار الخُبر، ولو أن الاستخبارات الأميركية أسرّت في أذن وليام بيري شيئاً من هذا القبيل. وليس لديها بعدُ أي دليل على أن انفجار طائرة «تي دبليو اي» من تدبير «الإرهابية الدولية» (على نسق الاشتراكية الدولية) التي تتهم إيران برعايتها. غير أن احتمالات التورط قد تبرز إلى الواجهة في أي وقت لو رأت واشنطن أن لها مصلحة في ذلك، مثلما أن إيران لن تتردد في توتير الأوضاع في الوقت والتاريخ المناسبين لتحقيق أهدافها وأوهامها. أما نحن في الخليج فنبدو كأننا بين المطرقة والسندان لا يد لنا في التوتير ولا يد لنا في نزع فتيل التوتير.
لن يقر أي خليجي باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، ولا بحقٍ لطهران في التدخل في سياسات الدول الخليجية أو في دعم قوى في داخلها. ولن تقبل أي دولة خليجية بسياسة التهديد بالقوة الخارجية أو بالفتنة الداخلية، غير أنها لا يمكن أن ترى في مجمل الوضع السائد بين واشنطن وطهران مجرد توتر أمني يستعصي على المعالجة، ولا سبيل إلا بالتعايش معه وانتظار نتائجه. فالأولوية يجب أن تبقى للسياسة ولإزالة الاحتقان. والأولوية يجب أن تبقى لتجنيب الخليج هذا التوتر. والتجارب خير معلم. فلا أحد إلاّ وتألم للحرب العراقية ــ الإيرانية التي ذهبت بمئات آلاف القتلى والجرحى وبثروات المنطقة، وكانت الكويت خصوصاً أكبر المتضررين، وشكّلت بداية لاضطرارها طلب المساعدة للحؤول دون اعتداءات على ناقلاتها من قبل إيران. ودفعت الكويت، ودفع الكويتيون الثمن غالياً.
ولا أحد ينسى كيف اندفع الكويتيون في تأييد العراق في الثمانينات، وكانت مكافأتهم غزواً وعدواناً. واليوم بعد كل هذه المرارات ليس من مصلحة الكويتيين الانجراف. وإذا كانوا لا يبرئون إيران لو اعتدت، فإنهم لا يحبذون أن توضع طهران في موقع لا تستطيع معه إلاّ الاعتداء.
واضح أن التوتر الأميركي ــ الإيراني لا يخص أميركا وإيران وحدهما. فمسرحه أرض الخليج. ولا يمكن لأحد أن يهرب من المسؤولية أو يدفن رأسه في رمال الصحراء. والمسؤولية مشتركة وقوامها عملٌ جماعي جاد لبلورة مشروع يحشد له تأييد عالمي تحت شعار «نزع الفتيل». فالمنطقة لا تحتمل دفع ثمن التوترات مهما كانت المبررات، ولن تقبل دفع ثمن مشاكل داخلية يعانيها الآخرون، ولا دفع فواتير حروب هي حروب الآخرين. فيكفيها ما مرّ عليها من ويلات ويكفينا ما دفعنا من فواتير، وما أفرغنا من صناديق الخزائن والدول... والأجيال القادمة.